يعي العالم المشغول بقضايا الحرب والسلم ومسارات تشكل نظاما عالميا جديدا متعدد الأقطاب قيمة الثقافة ومكانتها في تاريخ الإنسان، وفي كل مكونات حضارته ومساره نحو المستقبل. وهذا الوعي نقطة مهمة في حفظ الكثير من التوازنات الدولية التي تحدثها التجاذبات السياسية أو المواجهات العسكرية. والمقالات التي كتبت في أعقاب رفض بعض المؤسسات الثقافية والأكاديمية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية العام الماضي أي تعامل مع المبدعين الروس بعد نداء نائب وزير التعليم والعلوم الأوكراني أندري فيترينكو الذي قال فيه بوضوح: «تخلصوا من كل شيء يربطنا بأي شكل من الأشكال بالإمبراطورية الروسية»، دليل على فهم قيمة المنجز الإبداعي بغض النظر عن تصنيفه الجغرافي والنظر له بمقياس مختلف تماما عن توجهات السياسة وآلتها العسكرية.

فلا يمكن، على سبيل المثال، أن ننفي تولستوي ودوستويفسكي وبوشكين وتشايكوفسكي بوصفهم مبدعين كبارا وأساسيين في تاريخ الإبداع الإنساني لمجرد أننا نختلف مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا أو نختلف مع تاريخ الاتحاد السوفييتي، أو يقاطع العرب الروائي همنجواي ونابكوف وآن تايلر وإليوت وغيرهم من المبدعين الأمريكيين والبريطانيين لمجرد أن أمريكا وبريطانيا دمرتا العراق!

إن قوة العالم التي يمكن أن تصمد لقرون طويلة لا تتمثل في القوة العسكرية المحكوم عليها في يوم من الأيام بالتراجع والتقهقر أمام منطق التحولات وصعود الأمم وهبوطها بل يكمن في قوة الثقافة والفن والإبداع باعتبارها أدوات حيوية في بناء العلاقات الدولية والإنسانية بشكل عام.

بل إن قوة الإبداع الإنساني، شعرا ونثرا وموسيقى وخيالا.. إلخ قادرة على بناء مشتركات إنسانية حتى وسط الحروب الكونية.

لذلك فإن الاحتفاء بالثقافة والمثقفين والمفكرين والمبدعين في كل مكان هو احتفاء بإنسانية الإنسان بعيدا عن كل التصنيفات الأخرى وموازين القوة والضعف.. واحتفاء بالحوار الإنساني الذي يملك وحده قوة التقارب بين مختلف الأقطاب عند نقاط تملك قوة الجذب السحرية.

والتحالفات السياسية مهما رأينا أنها متينة وصلبة إلا أنها أمام حركة المصالح يمكن أن تكون عابرة، لكن الروابط الثقافية أو الاجتماع حول منتج ثقافي وإبداعي أكثر قدرة على البقاء والدوام رغم تحولات الأزمان.

إن عالمنا اليوم بحاجة لإعطاء الدبلوماسية الثقافية المكانة التي تستحقها، وهي قادرة على أن تتعالى فوق التجاذبات السياسية والاقتصادية لأنها تملك قدرة الإقناع وقوة المنطق الإنساني.. والثقافة والفنون لا يمكن أن تكون في يوم من الأيام مجرد زينة أو ترفا إنسانيا في لحظة سكون وهدوء وأمان.. بل هي أدوات حقيقية قادرة على بناء عالم يتسم بالتفاهم والاحترام والسلام والمزيد من الاستقرار.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عاجل | ستارمر: تهديد روسيا لا يمكن تجاهله والمملكة المتحدة يجب أن تكون مستعدة

التفاصيل بعد قليل..

مقالات مشابهة

  • لويس إنريكي يصنع التاريخ مع باريس سان جيرمان
  • علي النعيمي: الدبلوماسية البرلمانية تنقل تطلعاتنا
  • بلايلي يصنع الحدث بمطار “هواري بومدين” قبل التحاقه بتربص الخضر
  • مصر وقطر :لابديل عن المساعي الدبلوماسية لوقف إطلاق النار في غزة
  • عاجل | ستارمر: تهديد روسيا لا يمكن تجاهله والمملكة المتحدة يجب أن تكون مستعدة
  • إدارة مستودعات الأعلاف دورة تدريبية لـ أكساد.. الوزير بدر: نسعى إلى تطوير كوادر قادرة على إدارة الموارد
  • مفاجئة كبرى.. أوكرانيا تدمر قاذفات روسية قادرة على حمل رؤوس نووية
  • المجلات الثقافية.. بين الحبر والخوارزمية
  • صدور العدد 104 من «الشارقة الثقافية»
  • عاجل : وزارة الدفاع تكشف النقاب عن صواريخ متعددة الرؤوس قادرة على تجاوز الدفاعات الصهيونية وتحذيرات للشركات الأجنبية بالمغادرة (تفاصيل)