في عصرٍ تتسارع فيه الوقائع لتتحول إلى تغريدات، وتُختزل المعاني في شعارات، يُصبح المثقف عالقًا بين ماضٍ يقدّس العمق، وحاضرٍ يستعجل السطحية.

فكيف يمكن له أن يمارس دوره وسط سطوة الاختزال؟ وكيف يتعامل مع الطغيان الرمزي للسرديات المُهيمِنة، التي تسعى إلى ضبط الوعي الجماعي وفق أنساق محددة سلفًا؟

كل عصرٍ تحكمه سردياته الكبرى، وهي ليست مجرد “قصص تُروى”، بل أنساق معرفية تُكرَّس عبر المؤسسات الناعمة، من الإعلام إلى التعليم، بل وحتى في أنماط الحياة الاستهلاكية، حيث يتم تشكيل وعي زائف—كما وصفه هربرت ماركوزه—يجعل الأفراد يتماهَون مع واقع مفروض دون وعي نقدي.



هذه الهيمنة لا تعني فقط فرض تصوّر معين عن الواقع، بل إنتاج واقع لا يرى ذاته إلا من خلال عدسة السردية المُهيمِنة.

وبذلك، تصبح الحقيقة نفسها مسألة نسبية، ليس لأنها معقدة أو متعددة الجوانب، بل لأن هشاشة الخطاب النقدي أمام المد الإعلامي تجعل من الصعب مساءلة هذا الواقع أو تجاوز حدوده الرمزية.

فالطاغية، سواء كان سلطة سياسية قمعية أو نظامًا رأسماليًا شاملًا، لا يحتاج إلى القمع المباشر دائمًا.

هناك أدوات أكثر فاعلية، مثل “التنسيم الإعلامي”—أي تفريغ الوعي من مضامينه النقدية عبر إغراقه بالتوافه، وإعادة إنتاج الواقع بطريقة تجعل القمع يبدو غير مرئي.

وكما قال بيير بورديو:
“السيطرة الأكثر فعالية هي تلك التي لا تُرى، لأنها تجعل المهيمن عليه متواطئًا مع هيمنته دون وعي منه.”

وبذلك، يصبح الانخراط في هذا الواقع أشبه بالدخول في دائرة مفرغة، حيث يتكرر إنتاج السرديات نفسها دون مقاومة تُذكر، وكأن المجتمع يُعاد تشكيله وفق رؤية تضمن استدامة هشاشته الفكرية.

لكن مواجهة هذه السرديات لا تتم فقط بتفكيكها، بل بإنتاج سرديات بديلة.

فالنقد وحده، دون تقديم نموذج مضاد، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر الاعتراف الضمني بقوتها.

لذا، على المثقف ألا يكتفي بالكشف عن التلاعب الرمزي، بل أن يعمل على إنتاج وعي نقدي قادر على تجاوز منطق “رد الفعل” نحو بناء خطاب جديد منافس.

يجب ألا يكون هذا الخطاب مجرد صدى للواقع السائد، بل قوة فاعلة تستطيع كسر هشاشة البنية الفكرية المفروضة على الجماهير.

المعضلة الكبرى التي يواجهها المثقف اليوم ليست فقط في هشاشة المساحة المتاحة له داخل المشهد الثقافي، بل في الإقصاء الناعم الذي يتعرض له.

لم يعد هناك مجالٌ للأفكار العميقة في فضاءاتٍ تلهث خلف كل ما هو لحظي وسطحي!

وكما لاحظ أنطونيو غرامشي، فإن الصراع الفكري هو في جوهره “صراع على الهيمنة الثقافية”، حيث تُسلب الجماهير أدوات الوعي عبر ترويضها داخل أنظمة خطابية لا تتيح سوى “خيارات مزيفة”.

وبين هذا وذاك، يجد المثقف نفسه أمام سؤال حرج:
هل عليه أن يتكيف مع هذا الواقع، ويعيد صياغة خطابه وفق متطلبات الزمن الرقمي؟ أم يتمسك بعمقه ولو كان الثمن هو العزلة؟

لكن القول بأن المثقف أمام خيارين فقط—إما الاندماج التام في السوشال ميديا، أو العزلة—هو في ذاته شكلٌ من أشكال الاختزال الذي يجب تفكيكه.

بل هناك خيار ثالث: إعادة ابتكار الخطاب النقدي بطرق جديدة تتناسب مع طبيعة العصر، دون أن تفقد جوهرها.

فالمثقف الذي يرفض الانخراط في المنظومة الرقمية يفقد القدرة على التأثير، بينما المثقف الذي ينغمس فيها بلا وعي يتحول إلى جزء من آلة الهيمنة، حيث تُفرغ حتى الخطابات الراديكالية من مضمونها، وتُعاد تعبئتها كمنتج استهلاكي (Commodified Thought).

وهنا تكمن الإشكالية!

فبين تفكيك السلطة والخضوع لمنطقها، تنشأ حالة من التردد تفضي إلى هشاشة الدور الثقافي ذاته.

لذا، فإن التحدي الحقيقي ليس رفض أدوات العصر، بل إعادة توظيفها لصالح مشروع ثقافي مقاوم، قادر على اختراق الحواجز الرمزية التي تفرضها المنظومة السائدة.

لا ينبغي للمثقف أن يكون مجرد “ناقد للنظام السائد”، بل يجب أن يكون “صانعًا لخطاب بديل”.

ولتحقيق ذلك، لا بد من البحث عن استراتيجيات جديدة تضمن بقاء الخطاب النقدي مؤثرًا دون أن يفقد قوته، مثل:
•إعادة ابتكار الخطاب بطريقة تواكب التحولات الثقافية، مثل المقالات الموجزة المدعومة بالتحليل العميق، أو الوثائقيات القصيرة التي تحمل مضامين نقدية قوية.
•توسيع الفضاء الثقافي عبر منصات مستقلة (Independent Platforms)، مما يتيح هامشًا أوسع للحركة، بعيدًا عن الرقابة الرمزية التي تفرضها المنصات السائدة.
•استخدام وسائل التواصل بذكاء، بحيث يتم إعادة توجيه الخوارزميات لخدمة الفكر النقدي (Algorithmic Resistance)، لا العكس!
•بناء مجتمعات فكرية موازية، بعيدًا عن المؤسسات التقليدية، من خلال إنشاء فضاءات نقدية مستقلة، مثل المجلات الإلكترونية، والمنتديات الثقافية، والتجمعات الفكرية المستقلة.
•تحويل الفكر إلى مشروع عملي، بحيث لا يبقى المثقف مجرد “محاضر أكاديمي”، بل يصبح فاعلًا في مجتمعه من خلال مشاريع ثقافية أو حملات توعوية، تساهم في تغيير أنماط التفكير بدلًا من الاكتفاء بالتنظير.

السرديات المهيمنة ليست قدرًا مقدورًا، بل هي نتيجة صراع دائم على الوعي!

المثقف ليس متفرجًا في هذا الصراع، بل هو أحد لاعبيه الأساسيين.

وما دام قادرًا على زعزعة هذه السرديات، ولو بخلق نافذة صغيرة للفكر النقدي، فإنه يظل فاعلًا!

إذن، فالسؤال ليس كيف ينجو المثقف في عصر الاختزال؟

بل: كيف يعيد تعريف دوره في هذا العصر، لا كضحية له، بل كمنتج جديد للوعي؟

فالهشاشة لا تأتي من غياب الفكر، بل من غياب القدرة على تحويل الفكر إلى قوة تغيير حقيقية!

هل يستطيع المثقف اليوم تجاوز هذه الهشاشة، ليصبح قوة فاعلة، لا مجرد شاهد على التحولات؟

إبراهيم برسي
[email protected]  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

اليوم .. الحكم على المتهمين ومصور فيديو الفعل الفاضح أعلى محور 26 يوليو

  تنظر المحكمة المختصة، اليوم الإثنين،جلسة  الحكم على المتهمين بارتكاب فعل فاضح أعلى محور 26 يوليو،  ومصور الفيديو بتهمة التشهير.

اليوم .. الحكم على المتهمين ومصور فيديو الفعل الفاضح أعلى محور 26 يوليو

وفي وقت سابق، أحالت جهات التحقيق المختصة إحدى فتيات قضية الفعل الفاضح على طريق المحور إلى محكمة الطفل، وذلك لصغر سنها، حيث لم تكمل الـ 18 عاما.

وجاء في أمر الإحالة أن النيابة العامة تتهم "أحمد ع"، و"س. م"، و"شهد رط، و"ح ا"، "ك س" لأنهم في تاريخ 2 أكتوبر 2025 بدائرة قسم مركز كرداسة المتهمون من الأول حتى الرابع استعرضوا القوة ولوحوا بالعنف ضد المجني عليه "كريم س"، وذلك بقصد ترويعه وتخويفه وإلحاق الأذى المادي والمعنوي به، وكان من شأن ذلك التهديد إلقاء الرعب في نفسه وتكدير أمنه وسكينته وطمأنينته وكذا تكدير الأمن والسلم العامين.

كما تمكنت الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية من كشف ملابسات مقطع فيديو تم تداوله بمواقع التواصل الإجتماعى تضمن حدوث مشاجرة بالأسلحة البيضاء بين شخصين ببورسعيد.

وبالفحص تبين أنه بتاريخ 29 نوفمبر الماضى تبلغ لقسم شرطة الشرق بحدوث مشاجرة بين (شخصين "أحدهما مصاب بجرح طعنى") تعديا خلالها على بعضهما بأسلحة بيضاء كانت بحوزتهما مما أدى لحدوث إصابة أحدهما المشار إليها لخلافات حول توقف أحدهما رفقة صديقته أمام محل عمل الآخر.

وأمكن ضبط المذكورين وبحوزتهما (2 سلاح أبيض المستخدمين فى التعدى).. وبمواجهتهما أقرا بارتكاب الواقعة على النحو المشار إليه.

مقالات مشابهة

  • اليوم .. الحكم على المتهمين ومصور فيديو الفعل الفاضح أعلى محور 26 يوليو
  • الحكم على المتهمين بارتكاب الفعل الفاضح أعلى المحور بعد قليل
  • منتدى الدوحة يستعرض حال سوريا بين قسوة الواقع وآمال المستقبل
  • متى يظهر لك قرينك من الجن؟.. احذر هذا الفعل يجعلك تراه أمامك
  • نوريس ينهي هيمنة فيرستابن في «الفورمولا-1»!
  • هيمنة عسكرية لموسكو ..الجيش الروسي يتحرك ويستهدف منشآت طاقة أوكرانية
  • مع قرب انطلاق الحوار المهيكل في ليبيا.. ما التوقعات؟
  • مجموعات كأس العالم 2026 وردود الفعل على القرعة
  • من أجل الفلوس.. حبس بلطجية تيك توك لتعديهم علي قيم المجتمع
  • 13 حالة تلغى تراخيص السيارة وتمنع سيرها على الطرق