رجال دين أم رجال أعمال: كيف تحوّلت الروحانية إلى سلعة رأسمالية؟
تاريخ النشر: 2nd, March 2025 GMT
قراءة نقدية في تداعي المقدس تحت وطأة السوق
في عصرٍ باتت فيه كل الأشكال الرمزية والثقافية خاضعة لمنطق السوق، لم يَعُد الدين بمنأى عن عمليات التسليع وإعادة الإنتاج الرأسمالي. فالمقدّس، الذي لطالما كان مجالًا يُعرّف نفسه بوصفه خارج الزمن والاقتصاد، وجد نفسه تدريجيًا ضمن آليات العولمة النيوليبرالية، حيث لم يَعُد التدين تجربة ذاتية أو بحثًا عن المعنى، بل صار شكلاً من أشكال الاستهلاك المُكيَّف وفقًا لقواعد السوق.
لم يكن هذا التحوّل مجرد نتيجة عرضية لتوسع الرأسمالية، بل هو جزء من عملية أوسع لتفكيك المقدس وإعادة تشكيله بما يخدم الأيديولوجيا الاقتصادية المسيطرة.
في هذا السياق، لم يَعُد التساؤل حول علاقة الدين بالسوق مجرد طرح أكاديمي، بل أصبح ضرورة ملحّة لفهم كيف تغيّرت أنماط التدين في العقود الأخيرة.
هل نحن أمام حالة “هشاشة” روحية جعلت الدين أكثر قابلية للتسليع، أم أننا أمام عملية متعمدة لإعادة هندسة المقدّس ضمن منطق السوق؟
كيف تحولت النخب الدينية إلى لاعبين اقتصاديين فاعلين، يشاركون في إعادة تشكيل الدين نفسه بوصفه منتجًا ثقافيًا خاضعًا لآليات التسويق؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى الأسس الفكرية التي تناولت العلاقة بين الدين والاقتصاد.
نجد أن ماركس، حين وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب”، كان يُشير إلى دوره في تهدئة الجماهير وترسيخ الواقع الطبقي، لكنه لم يكن يتخيّل أن الدين قد يتحوّل يومًا إلى مشروع اقتصادي قائم بذاته، حيث لم يَعُد مجرد أداة هيمنة، بل أصبح جزءًا من بنية الإنتاج الرأسمالي ذاته.
في المقابل، يذهب جان بودريار إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يرى أن الرأسمالية لا تكتفي بإنتاج السلع، بل تعيد إنتاج الرموز والمعاني، بحيث يصبح الاستهلاك فعلًا أيديولوجيًا بامتياز.
وفقًا لهذا المنظور، فإن الدين في السياق الحديث لم يَعُد أداة قمعية فقط، بل صار منتجًا خاضعًا لإعادة التشكيل المستمر، حيث يتم تسويقه واستهلاكه تمامًا مثل أي سلعة أخرى.
هذا التحول في مفهوم الدين لم يَبْقَ مجرد فكرة فلسفية، بل انعكس بشكل واضح على بنية المؤسسات الدينية نفسها. فمن الكنائس الضخمة في الولايات المتحدة إلى المنظمات الإسلامية العابرة للحدود، ومن المؤسسات البوذية العالمية إلى الأشكال الجديدة من الروحانيات البديلة، باتت النخب الدينية جزءًا من شبكة اقتصادية معقدة.
لم يَعُد رجل الدين مجرد واعظ أو مفسر للنصوص المقدسة، بل تحوّل إلى فاعل اقتصادي، يستثمر في الدين تمامًا كما يستثمر رجل الأعمال في السوق.
ولم يَعُد الهدف من الخطاب الديني نشر التعاليم الروحية، بل استقطاب المزيد من “الزبائن”، حيث يتم تقييم النجاح وفقًا لحجم التبرعات وعدد المتابعين، لا وفقًا للأثر الروحي أو الأخلاقي.
الدين كاقتصاد
هذه الدينامية الاقتصادية للدين يمكن رؤيتها بوضوح في نماذج التمويل الإسلامي. فلم يكن الانتشار الكبير للبنوك الإسلامية مجرد استجابة لحاجة المسلمين إلى نظام مصرفي “أخلاقي”، بل هو جزء من عملية دمج تدريجي للنظام الاقتصادي الإسلامي في المنظومة المالية العالمية.
هذه المؤسسات، التي كانت تُسوّق نفسها في البداية كبديل عن البنوك التقليدية، سرعان ما تبنّت أساليب المنافسة نفسها، لتصبح جزءًا من النظام المالي الرأسمالي، حيث يتم تصميم المنتجات المالية الإسلامية وفقًا لآليات المضاربة والربح، وليس وفقًا لمبادئ اقتصادية بديلة.
لكن إذا كان الدين قد خضع لمنطق السوق، فإن السياحة الدينية تمثل أحد أبرز تجليات هذا التداخل بين المقدس والرأسمالي.
فالحج، الذي كان يُفترض أن يكون تجربة زهدية، أصبح جزءًا من سوق تجاري ضخم، حيث يتم بيع “باقات الحج” بأسعار متفاوتة، وفقًا لجودة الخدمات ومستوى القرب من الأماكن المقدسة.
لم يَعُد الحاج مجرد زائر للأماكن المقدسة، بل أصبح مستهلكًا في سوق منظم، تُدار فيه الطقوس بروح تجارية، حيث تُسعّر الخدمات وفقًا للطلب، ويُحدَّد مستوى “التجربة الروحية” وفقًا للقدرة الشرائية للحاج.
تصدير الروحانيات كسلعة
لكن الأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة لم تقتصر على السياحة الدينية التقليدية، بل امتدت إلى الروحانيات البديلة، حيث أصبحت اليوغا، والتأمل، والتصوف، جزءًا من سوق عالمي مخصص للنخب الثرية.
وهنا نجد أن عملية التسليع لا تقتصر فقط على الدين التقليدي، بل تمتد إلى أشكال أخرى من الروحانيات، التي يتم إعادة إنتاجها بما يتناسب مع حاجات السوق.
إدوارد سعيد، في كتابه “الاستشراق”، أشار إلى كيف يتم تفكيك الثقافات غير الغربية وإعادة تصديرها بما يتناسب مع حاجات المستهلك الغربي.
هذا ما حدث مع التصوف الإسلامي، الذي كان في الأصل تيارًا نقديًا يحتج على السلطة والمال، لكنه أُعيد إنتاجه كمنتج سياحي فاخر، يُسوَّق كوسيلة للراحة النفسية، بعيدًا عن أبعاده الاجتماعية والسياسية.
هل يمكن مقاومة هذا التوجه؟
كل هذه التحولات تثير سؤالًا جوهريًا:
إذا كان الدين قد تحول إلى منتج استهلاكي، فهل هذا يعني أنه فقد تمامًا قدرته على المقاومة؟
هذا السؤال يظل معلقًا، لكنه يفرض علينا البحث في البدائل الممكنة، خصوصًا في ظل استمرار محاولات إعادة توظيف الدين كأداة للمقاومة ضد الرأسمالية.
في أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، ظهرت حركة “لاهوت التحرير”، التي استخدمت الدين كأداة لمقاومة الاستغلال الرأسمالي، حيث تم توظيف النصوص الدينية للدعوة إلى العدالة الاجتماعية، بدلًا من استخدامها لتبرير الوضع القائم.
وفي العالم الإسلامي، ظهرت محاولات لإيجاد أنماط اقتصادية بديلة، مثل نماذج الاقتصاد الإسلامي غير الرأسمالي، لكن هذه المشاريع غالبًا ما انتهت إلى إعادة إنتاج الأنظمة المالية نفسها التي كانت تسعى إلى تجاوزها.
لكن مع ذلك، لا يمكن إنكار أن الدين لا يزال يمتلك القدرة على إنتاج مقاومات داخلية، رغم هيمنة الرأسمالية على فضاءاته الرمزية والمادية.
خاتمة
في ظل هذا التحليل، يصبح واضحًا أن العلاقة بين الدين والرأسمالية لم تَعُد علاقة خارجية، بل تحوّلت إلى علاقة عضوية، حيث لم يَعُد الدين فقط وسيلة للهيمنة، بل أصبح أيضًا أداة اقتصادية بحد ذاته.
لم يَعُد السؤال هو: هل سيبتلع السوق الدين؟
بل أصبح السؤال الأعمق هو: كيف يمكن للدين أن يعيد تعريف نفسه في ظل هذه الهيمنة الرأسمالية؟
التحدي اليوم لا يكمن فقط في مقاومة تسليع المقدس، بل في التفكير في كيفية إعادة إنتاج الروحانيات في سياقات لا تخضع بالضرورة لمنطق السوق.
إن فهم هذه الإشكالية يتطلب منا تجاوز النقد السطحي للاستهلاك الديني، والبحث في الأشكال الجديدة للتدين التي يمكن أن تتجاوز منطق الربح والخسارة، وتعيد للروحانيات مكانتها الأصلية، كمساحة للبحث عن المعنى، لا كسلعة تُباع في سوق الأديان العالمي.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: جزء ا من حیث یتم لم ی ع د
إقرأ أيضاً:
جلسة طارئة لإعادة المنتخب
محمد الساعدي
لست هنا لأجل جلدٍ أو عتاب، ولا لأحمل صفات ناقدٍ محسوب على الساحة الرياضية. أنا مجرد مشجعٍ عُماني تغلي في داخله غيرة الوطن، ويتوارث حُب المنتخب كما يتوارث الأهالي رائحة البحر وصوت الأمواج في مدنهم الساحلية. نحن- أبناء هذا الوطن- نحلم بعودة كرةٍ كانت يومًا متنفس للجماهير العمانية.يومها أذكر المعلّق الكبير يوسف سيف علق على أحدى مباريات المنتخب. يقول: “منتخب عمان لا يعرف الرجوع إلى الخلف…”.
فما الذي تغيّر؟
كيف تحوّل منتخب كانت المنتخبات العربية تحسب له ألف حساب، إلى منتخب يفقد بريقه، وتتسلل إليه الأخطاء في الدقائق الأخيرة كأنها لعنة ثابتة لا فكاك منها؟
لماذا تراجع ذلك الفريق الذي قدّم علي الحبسي ورفاقه نموذجًا للإصرار؟
اليوم لا نملك رفاهية الانتظار؛ ولذلك نحتاج خطة طوارئ، لا تمشي على استحياء، ولا تخشى أن تهدم من أجل أن تبني، ولا تتردّد في إعادة كل شيء إلى نقطة البداية من أجل مستقبل أوضح وأمتن.
أولًا: لجنة طوارئ وطنية لا مجاملة فيها. نعم، نحن بحاجة إلى لجنة استثنائية تضم خبراء محليين، ومدربين سابقين، ونجومًا حملوا قميص المنتخب بعرق وجهد، إضافةً إلى عقليات إدارية تُجيد اتخاذ القرار.
هذه اللجنة لا تكون شكلية ولا ورقية، بل تعمل في الميدان، وتشخّص المشكلات، وتضع جدولًا زمنيًا واضحًا، وتقدّم تقريرًا شهريًا للرأي العام.
ثانيًا: البحث عن المواهب، ليس فقط من مسقط وصحار وصلالة؛ فالمواهب الحقيقية قد تكون في ملعب ترابي في المضيبي، أو في ساحة المدرسة في محوت، أو في شاب من صور يركل الكرة كما يركل البحر أمواجه نحو الشاطئ.
إننا نحتاج مشروعًا وطنيًا للطواف في المحافظات، لاكتشاف جيل جديد قادر على أن يكتب سطرًا جديدًا في تاريخ المنتخب.
ثالثًا: معالجة عقدة الدقائق الأخيرة؛ إذ إن أكبر نزيف يصيب المنتخب هو غياب التركيز في اللحظات الحاسمة.
وهذا يحتاج إلى:
• مدربين متخصصين في الإعداد الذهني.
• تمارين مكثفة على سيناريوهات “آخر خمس دقائق”.
• تطوير اللياقة البدنية بحيث لا يسقط اللاعب قبل صافرة النهاية.
فكم مباراة خسرناها لأن الدقيقة الـ90 كانت خصمًا إضافيًا علينا؟!
رابعًا: إعادة صناعة المهاجم العُماني؛ فمُنذ سنوات ونحن نسمع أن منتخبنا ينقصه “اللمسة الأخيرة”. والحقيقة أن التهديف ليس موهبة فقط، بل علم يُدرّس:
• تدريبات تسديد يومية
• محاكاة لحالات انفراد
• تدريبات على اتخاذ القرار تحت الضغط
• مباريات داخل التدريب تُمنح فيها نقاط إضافية لمن يسجّل
وبدون مهاجم قوي، تظل كل الخطط مجرد كلام جميل.
خامسًا: الاستعانة بالخبرات السابقة ولو لفترة محدودة؛ حيث إن جيل 2007- 2010 لم يكن مجرد لاعبين؛ كانوا مدرسة في الروح والإصرار.
وجودهم اليوم، عبر المحاضرات، والبرامج المشتركة، والدعم النفسي، قد يُعيد بعضًا من ذلك البريق المفقود، وينقل خبرات لا يمكن لأي كتاب تدريبي تقديمها.
سادسًا: صناعة دوري أقوى، أو صناعة منتخب رغم ضعف الدوري؛ فإن كانت حجة بعض الوسط الرياضي هي ضعف الدوري، فدعونا ننظر للعالم.
فمثلًا منتخب فلسطين، رغم الظروف القاسية وقلة الإمكانات، قدّم ملحمة في كأس العرب.
إذن المشكلة ليست في الإمكانات؛ بل في الإرادة.
ويمكن تشكيل منتخب قوي حتى من دوري غير مثالي، عبر برامج معسكرات منتظمة، ورفع الجودة الفردية للاعبين، وخلق ثقافة تنافس جديدة.
وأخيرًا.. الكرة العُمانية تستحق الكثير، ونريد عُمان التي كانت تفرض حضورها.