قبل أن نصل إلى ما جرى في الساحل السوري، يجب أن نعود بالأحداث السورية إلى بدايتها كي تتضح الصورة كاملة.
ربما يعد إسقاط الشرع ورفاقه لنظام الأسد أهم حدث في هذا العقد، وربما عقود أخرى لسوريا ولمنطقة الشرق الأوسط. أُسقط نظام الأسد الذي جمع أسوأ ما في الأنظمة. قتل وهجّر ملايين من أبناء الشعب السوري. انزوى الأسد في قصره، وأخذ يجمع في سنواته الأخيرة الأموال التي هرب بها إلى موسكو في ليلة مظلمة.
أتى أحمد الشرع ورفاقه وقاموا بشيء أشبه بالمستحيل. فرّ الأسد، وانسحب الإيرانيون، وغادرت الميليشيات الطائفية. للمرة الأولى يشعر السوريون منذ عقود أن لهم دولة تحتضنهم بلا تمييز. لا تبتزّهم، ولا تلقي بهم في السجون، ولا تطلب منهم الرشى. وللمرة الأولى يشعر العرب (أو الدول المعتدلة) أن سوريا لم تعد مصدر تهديد لهم وإثارة مشاكل. تحولت من عدوة إلى حليفة. كان هناك تخوف مشروع من خلفيات الحكومة الجديدة الفكرية، ولكنها استطاعت أن تبددها. قدمت خطاباً معتدلاً متسامحاً واقعياً. لم تقم بعمليات انتقام، ولكنها تبنت نهجاً وطنياً. وفي خطابات الشرع وحواراته تحدث بلغة رجل الدولة وليس زعيم الميليشيات. استطاع أن يقدم نفسه فوق الطوائف والانقسامات، وتحدث بلغة حكيمة تجمع السوريين ولا تفرقهم. حققت دمشق الجديدة نجاحاً لافتاً دبلوماسياً واقتصادياً. كان عنوانها الصحيح التنمية أولاً وأخيراً.
كل المخاوف تلاشت، وظهر فعلاً أن سوريا تستعيد مكانتها، ولكنها بحاجة إلى الوقت. ما عدا أصحاب المواقف المسبقة، كان الشرع يظهر بصورة تكنوقراطية واقعية أكثر أحياناً من المتوقع. ووقعت قبل أيام أحداث الساحل، ولكن العملية الهدف منها تخريب كل هذه المجهودات الكبيرة، وتعطيل هذا المسار؛ لأهداف متعددة. فلول الأسد يريدون أن يستعيدوا نفوذهم وسطوتهم، والقوى الإيرانية والتابعة لها تريد خلق فوضى لتحقيق أهدافها، وتلطيخ صورة حكومة الشرع، وجرها لحرب أهلية، وتصويرها بأنها غير قادرة على بسط هيمنتها وفرض سيادتها.
التجاوزات وعمليات القتل والعنف مروعة وأحداث مؤسفة، ولكنها خارج كل السياق الذي ذكرناه سابقاً. ولا تعبر عن حكومة الشرع وخطابها وسياستها على أرض الواقع. أعمال مارقة خارجة، والتصرف الصحيح، كما أعلنت الحكومة، محاسبة المتورطين في دماء الشعب السوري، ومنع تكرارها. سوريا ليست سويسرا. لقد ورثوا بلداً مدمراً ومفككاً ومشحوناً بالجروح العميقة. وأدير بطريقة حكيمة، وبحاجة لمزيد من الوقت والصبر. ومن المتوقع أن تواجه سوريا تحديات، ولكنها تسير في الطريق الصحيح لتتحول إلى دولة ناجحة رغم محاولات التخريب والتشغيب. ولكن قادة الدول، خصوصاً في الظروف الصعبة، يعملون على قوة الدولة وبسط نفوذها بالحكمة والواقعية والقوة وبالقانون، وإلا فستكون عرضة للتفكك والانهيار. نجاح سوريا الجديدة سياسياً واقتصادياً هو نجاح ليس فقط للسوريين، ولكنه نجاح لمنطق الاعتدال والعقلانية في المنطقة التي نكبها ودمّرها لفترات طويلة أصحاب الرايات الصفر والسود.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: وقف الأب رمضان 2025 عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل صناع الأمل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية سقوط الأسد الحرب في سوريا سوريا أحمد الشرع
إقرأ أيضاً:
اللغة العربية في المخاطبات الرسمية.. قرار في الاتجاه الصحيح
حمد الناصري
في خطوة طال انتظارها، أثلجت صُدورنا توجيهات أمانة مجلس الوزراء الصادرة في الأول من يونيو 2025، والتي تنص على ضرورة الالتزام باستخدام اللغة العربية السليمة في جميع المُخاطبات الرسمية في القطاعين الحكومي والخاص.
يُمثل هذا القرار انتصارًا للهوية الثقافية واللغوية لسلطنة عُمان، وتأكيدًا على أن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وعاء للثقافة، وجذر راسخ في عُمق المجتمع العُماني الذي قامت حضارته وتاريخه على هذا اللسان العريق.
لقد لاحظنا في السنوات الأخيرة تزايد استخدام المصطلحات والمُسميات الدخيلة في تسمية المشاريع والمرافق والمُنشآت، وهو ما لا يتناسب مع روح الثقافة العُمانية، ولا مع مكانة اللغة العربية التي تمثل، منذ قرون، لغة الدولة والمُجتمع، ولغة التعليم والتشريع، بل ولغة الدين والقيم.. فاللغة العربية ليست كغيرها من اللغات؛ إنها لغة القرآن الكريم، اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون وعاءً لِوَحْيه، ووسيلة بيَانِه إلى البشرية جمعاء. يقول تعالى: "إِنا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَانًا عَرَبِيا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ"، وفي ذلك دلالة جلية على تكريم اللغة العربية ورِفْعَة مكانتها، وارتباط العقل والفهم بها.
لقد قدَّس العرب لغتهم منذ القدم، واتخذوها مجالًا للبيان والفصاحة، وميدانًا للشعر والخِطابة، وسجلوا عبرها تاريخهم وأدبهم وفكرهم. كما أنها نالت التقديس الأسمى من المُسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لكونها لغة الوَحْي، ولسان الصلاة، ومفتاح فهْم الدين. وهذا ما أكسبها الخلود، وأبقاها لغة حية، مُتجددة، لا تندثر..
وإذا كانت اللغة في جوهرها انعكاسًا لهوية الأمة، فإن اللغة العربية مثلت العمود الفقري للهوية الإسلامية والحضارة العربية. فهي التي حملت الفلسفة والفكر، واحتضنت التراث الإنساني المُتنوع، ووسعت من آفاق المعرفة حين استوعبت الحضارات الفارسية واليونانية والهندية، وترجمت علومها إلى العربية، فازدهر بها العقل الإنساني قرونًا طويلة.
إن هذا البُعد الحضاري والديني للغة العربية يستوجب أن نحافظ عليها، لا في الكتب فقط، بل في حياتنا اليومية، ومؤسساتنا، ومراسلاتنا، وخطابنا الرسمي. فليس من المنطقي أن تنشأ مؤسسة أو مشروع في قلب المجتمع العُماني، يحمل اسمًا أعجميًا أو مُصطلحًا بعيدًا عن الفهم الشعبي والهوية الوطنية، في الوقت الذي تزخر فيه لُغتنا بمفردات ثرية ودلالات دقيقة.. وقد أدركتْ الدول العربية، ومنها سلطنة عُمان، هذه القيمة الاستراتيجية للغتها الأم، فسعتْ إلى تعزيز استخدامها في التعليم والإدارة، وحرصت على تعليمها لغير الناطقين بها، من المُسلمين وغيرهم، إدراكًا لأهميتها في ربط الشعوب بالثقافة العربية والإسلامية.
لم يكن العرب الأوائل بحاجة إلى تفسير معاني القرآن، لأنهم كانوا يتخاطبون بالعربية الفصيحة، وكانوا يُدركون تمامًا بلاغته وإعجازه، حتى أن كِبار فُصحائهم كأمثال الوليد بن المغيرة اعترفوا بعجزهم عن الإتْيان بمثله، رغم تمرسهم في فنون اللغة والبيان.. وتتجلى فلسفة هذه اللغة في كونها أكثر من مجرد وسيلة للتخاطب؛ فهي نظام معرفي عميق يُعبر عن رُؤى الإنسان للعالم، ويُشكل وعيه ويدفعه للتأمل والفهم. اللغة العربية، بما تحمله من مُفردات دقيقة وتراكيب مرنة، تُتيح للمتكلم التعبير عن أدق المشاعر وأعْقد الأفكار، وهو ما جعلها لغة للفلسفة، والدين، والأدب، والعلم عبر قرون طويلة.
ولأن اللغة مرآة للفكر، فقد أسهمت اللغة العربية في بناء الوعي الثقافي الجمعي لدى العرب والمسلمين، واحتضنت عبر تاريخها ِسجالات فكرية وثقافية واسعة، من الشعر الجاهلي إلى الفقه الإسلامي والفلسفة العقلية. وهي ما تزال اليوم تشكل أساس الهوية الثقافية والحضارية، وتُحَفز العقل على التفكير والتحليل والتذوق الجمالي، مما يجعلها ليست فقط لغة للأدب، بل أداة للفهم والتأويل والتفاعل مع العالم.
خلاصة القول.. إن اللغة العربية هي لغة الأُمَّة، ولسان الدين، وجسر الحضارة.. وهي ليست مجرد أداة للتواصل، بل أداة لصياغة الفكر وتشكيل الهوية، وبناء الوعي.. وإن الحفاظ على اللغة العربية في الخطاب الرسمي ليس خيارًا ثقافيًا فحسب، بل هو واجب وطني وديني، يليق بمكانتها، ويُؤكد انتماءنا إلى هذه الأمة العريقة.
والتوجيه الأخير من مجلس الوزراء يُمثل لُبنة مُهمة في هذا البناء الحضاري، وعلينا جميعًا- مؤسسات وأفرادًا- أن نكون على قدْر المسؤولية، في احترام لُغتنا، وتعزيز استخدامها، وصَونها من التهميش والتراجع.. فاللغة العربية، باختصار، باقية خالدة.. ما بقي القرآن بيننا.