تأملات في النظرية الديمقراطية عند راشد الغنوشي.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT
الكتاب: حول المسلم الديمقراطي مقالات وحوارات
المؤلف: أندريه مارتش
ترجمة: كوناتان روايت وأندريه مارتش
دار النشر: منشورات جامعة أكسفورد
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 242
استأثرت كتابات مؤسسي الحركات الإسلامية بقدر كبير من الاهتمام البحثي، وغطت الدراسات مسارات تنظيماتهم، وتطور سلوكهم السياسي، وخطابهم الفكري والإعلامي، وتم التركيز أكثر على تفسير السلوك السياسي.
يندرج كتاب الباحث الأمريكي "أندريه ماترش": "حول المسلم الديمقراطي"، ضمن هذا الجهد النظري الذي يسعى إلى استقراء تطور النظرية الديمقراطية عند راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، ومحاولة تفسير تحولاتها في سياقات متعددة، سواء قبل الثورة، أو اثناءها أو اثناء ترتيب مراحل الانتقال الديمقراطي، أو حتى بعد الانقلاب على الديمقراطية، وتنطلق أطروحة الكتاب، بالأساس من بحث تحول النظرية الديمقراطية عند الغنوشي من إطارها المثالي (الكامل) إلى النظرية الديمقراطية المسلمة التي بنت قواعدها النظرية على التعددية، الإجماع، القانون، ذلك الثالوث الذي خرج عن براديغم الديمقراطية المثالية.
وتكمن أهمية الكتاب، في طبيعته، من حيث كونه يجمع بين عشرة مقالات وخطب ومقابلات وحوارات كان المؤلف قد نشرها بين عامي 2005 و2012، تتناول قضايا الحرية والديمقراطية والتعددية ومصادر الإلهام المتنوعة للفكر الإسلامي، إضافة إلى سلسلة حوارات أجراها المؤلف مع الشيخ راشد الغنوشي حول مجموعة واسعة من الموضوعات، بدءا من سيرته الذاتية، وصولا إلى العلاقة من التزاماته الإيديولوجية (الأطروحة الفكرية) وبين التوجه نحو الديمقراطية، كما تكمن أهميته من جهة أخرى إلى طبيعة الباحث، المعروف بخبرته في دراسة الإسلاميين.
وتبين مقدمة الكتاب، التي استغرقت حوالي 31 صفحة، وزن الباحث، إذ حرص على أن يؤطر هذه الوثائق المقدمة أصلا للقارئ الأجنبي، بمقدمة قدم فيها إسهامه النظري في تفسير تحول راشد الغنوشي من الأطروحة التقليدية المثالية إلى الديمقراطية المسلمة، بمناقشة عدة نماذج تفسيرية (صمويل هنغتنتون ورولز، أوليفي روا، وآصف بيات في أطروحة ما بعد الإسلاميين).
مفارقة انقلاب قيس سعيد ونضج فكرة الغنوشي حل الديمقراطية
يذكر الباحث سياق حواراته بالشيخ راشد الغنوشي، أي ما بين 2021 و2022، وتحديدا قبل خمسة أشهر من الانقلاب الذي قام به قيس سعيد على المؤسسات السياسية بتونس، ويشير إلى ملاحظة مفارقة، تتعلق تطور فكر راشد الغنوشي، والذي بدل أن يتجه إلى التطرف، بفعل إجراءات قمعية قام بها النظام لإنهاء المستقبل السياسي لحركة النهضة.
يسجل الباحث كيف حقق الغنوشي في مسار تطور فكره نحو الديمقراطية تراكما مهما وبشكل طبيعي، وذلك على مدى العشر السنوات الأخيرة، حيث كان دائما يشغل مركز التوسط في صفقات الائتلاف بين الأحزاب المتعارضة أيديولوجيا، وبرزت نظريته السياسية، والدور الذي تخيله لشعب ديمقراطي فاعل ومنخرط ومتداول. وخلافا للنظريات الإسلامية التقليدية التي حصرت القانون في الشريعة، وأناطتها بنظر الفقهاء، تصور الغنوشي أن تطبيق الشريعة الإسلامية عملية تداولية عامة لا تقتصر على الخبراء فحسب، بل تشمل أيضا المواطنين العاديين. هذا قبل أن ينتهي به المسار إلى الاعتقاد بأن إجماع النخبة هو الضابط الأساسي ضد الاستبداد وهو الطريق المعبد دائنا للعودة إلى الديمقراطية.
يسجل الباحث نجاح النخب في تونس على مدى السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في تحقيق توافق دستوري، لكن مع بقاء الانقسامات الأيديولوجية العميقة وانعدام الثقة بين النخب، وتجييش المجتمع ضد الإسلاميين بالدعاية الإعلامية.يفسر الباحث ذلك إلى التجربة غير المألوفة للانتقال إلى الديمقراطية في تونس، والتي بنيت أساسا على توافق النخب، ولم تكن مثل مصر مثلا، موجهة من قبل جهة ذات سيادة فعلية كالقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية، ولا الاحتلال الاستعماري.
يسجل الباحث نجاح النخب في تونس على مدى السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في تحقيق توافق دستوري، لكن مع بقاء الانقسامات الأيديولوجية العميقة وانعدام الثقة بين النخب، وتجييش المجتمع ضد الإسلاميين بالدعاية الإعلامية.
ويلفت المؤلف الانتباه إلى مفارقة أخرى، فبينما يحتفى بحركة النهضة بوصفها تمثل التيار المعتدل في الإسلاميين، ظلت في مخيال التونسيين تشكل امتدادا للإخوان المسلمين، لا تختلف عن أطروحتهم الفكرية في شيء، وبحكم كونها الأكثر شعبية، وفي الآن ذاته، المكروهة لدى الكثيرين، فقد كانت حملات خصومها السياسيين من قوى النظام القديم تتأسس على فوبيا النهضة.
ويرى الباحث أن الكثير من التوتر الذي ابتليت به الديمقراطية التونسية بين عامي 2011 و2021 يعود بالأساس إلى للمنافسة بين النخب، وتحديدا مقاومة أي مسعى للمساءلة عن الفساد المالي والقمع السياسي في ظل نظام بن علي، وأن ذلك زكى واقع تعميق الخلاف الإيديولوجي من جهة وانعدام الثقة بين النخب في الجهة المقابلة مع أن الانقسامات العرقية والطائفية لم يكن لها محل في المجتمع التونسي.
ويشير الباحث إلى ملاحظة مهمة بخصوص الديمقراطية التونسية، فعدم وجود أغلبية ساحقة من التونسيين متمحورة حول رؤية موحدة لما سيكون عليه النظام بعد الثورة حسب ما أفادت به نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية بعد عام 2014، هو الذي فسر التنافس بين النخب، والتوافق على نظام دستوري يوزع السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء، وأن هذه الآفة السياسية، هي التي جعلت الحفاظ على الديمقراطية التونسية منوطا بالتوافقات والائتلافات بين النخب (نموذج علاقة العمل التي نشأت بين الغنوشي والرئيس الباجي قائد السبسي)، إذ كانت الأزمات تحل بشكل دائم بأغلبية ضئيلة على أساس توافق النخب، هذا قبل أن تزحف الشعبوية على الحكم وتنهي الحكم الديمقراطي من خلال تعليق مؤسساته.
في هذه الظرفية المحكومة بعودة الاستبداد يكشف الباحث جزءا مما دار بينه وبين راشد الغنوشي الذي أعرب له بتفاؤل حذر عن أمله في العودة إلى الحكم الدستوري من خلال مزيج من إجماع النخبة والاحتجاج الشعبي، بيد أن السيناريو الذي رسم المرحلة ما بعد هذا اللقاء سار في الاتجاه المعاكس، أي مزيد من ترسيخ حكمه الاستبدادي (استفتاء 25 يوليو/ 2022 على الدستور رئاسي، أُقر بنسبة مشاركة ضئيلة بلغت 30.5%). وكشف الباحث أيضا، أن تفاؤل الغنوشي لم يكن يمنعه من الشعور مع اقتراب نهاية مسيرته السياسية، وهو في سن الثمانين، أن النموذج الاستبدادي، يتجه إلى تجريم النهضة، واستئصالها على الطريقة السابقة (طريقة بن علي) بما يشكل نهاية مأساوية لمسار الغنوشي السياسي، بعد أن قضى عمره الفكري والسياسي يؤصل لمعادلة "أمن العلمانية من الإسلام، وأمن الإسلام من العلمانية".
ويلاحظ الباحث أنه على الرغم من عشر سنوات الماضية التي قامت فيها النهضة بدور فعال كمركز لصناعة التوافقات، فإنها لم تستطع أن تعزز ثقة النخب فيها، ولا أن تمحو صورة "رهاب الإسلاميين" والتهديد الذي يشكلونه لمكاسب العلمانية والنسوية، تلك الصورة التي تصنعها الدولة وترسخها في أذهان التونسيين.
ومع كل هذه التحولات الدراماتيكية، يكشف الباحث بأن الحوارات التي أجراها مع الغنوشي ما بين عامي 2021 و2022، لم تسحب التفاؤل من تفكيره ونفسيته، مع أن الغنوشي اعتقل مع حلول موعد طباعة الكتاب (أبريل 2023) وهو يواجه تهما جنائية عريضة، لإنهاء مساره السياس ومسيرة حركته.
سردية النهضة: خارطة تحول الديمقراطية في فكر الغنوشي
استعرض الباحث حياة الشيخ الغنوشي، منذ ولادته إلى تأسيسيه للجماعة الإسلامية ثم الاتجاه الإسلامي، وعلاقة حركته بنظام ابن علي، وكيف شكلت انتخابات 1989 المحلية التي حققت فيها النهضة نتائج مبهرة، منعطفا في تغيير التعاطي مع حركة النهضة، وتبني نهج الاستئصال، وفترة المنفى التي قضاها في لندن، والتي أثمرت عددا من أعماله التي بسط فيها نظريته السياسية، وفي مقدمتها كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، وكيف أدار رئاسة النهضة من المنفى، وأصبح عضوا بارزا في المجال العام الإسلامي العالمي، وبرز كشخصية مؤثرة في النقاشات الدولية حول الديمقراطية والتعددية وإعادة تفسير الشريعة الإسلامية بما يتناسب مع الظروف المعاصرة. ثم ينعطف إلى استقراء سيرته بعد الثورة، وكيف قادت حركته دينامية سياسية انتهت بتحقيق نتائج مهمة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011، ويركز الباحث على هذه اللحظة، ويجعلها محطة لدراسة الشكل الذي تفاعلت بها النظرية السياسية للغنوشي مع تحولات الواقع.
يلاحظ الباحث أنه على الرغم من مرور حوالي ثلاث سنوات مليئة بسلسلة من الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، فإن النخب التونسية نجحت في التوصل إلى اعتماد دستور جديد للبلاد في يناير 2014، ويعتبر أن طول هذه المدة (ثلاث سنوات) لتحقيق التوافق بين النخب هو مؤشر على الانقسامات السياسية والأيديولوجية العميقة في تونس، كما أنها تشكل في الآن ذاته، شهادة على قدرة النخب السياسية على خلق نظام سياسي جديد من خلال المساومة السياسية وحدها.
ولتفسير عدم صمود ثمرات هذا التوافق مع انقلاب قيس سعيد، يرى الباحث أن العملية لم تكتمل، وأنه لو أنشئت المحكمة الدستورية التي اختلفت النخب السياسية حول مرشحيها، لما تمكن قيس السعيد من تعليق العمل بالدستور.
يشير الباحث إلى محورية الدور الذي قامت به النهضة في عملية التفاوض الانتقالية التي نجحت في الخروج بدستور لا يعكس رؤية النهضة السياسية والإيديولوجية، حتى تحيرت أحزاب المعارضة في سبب تنازل النهضة بهذا القدر في القضايا الهوياتية والمرجعية في الدستور (لم تدافع عن مرجعية الشريعة في الدستور)، ويعزو الباحث اللغز في ذلك ليس إلى مصلحة براغماتية للنهضة في دعم هذا النظام الدستوري الجديد، لأن مثل هذه النزعة البراغماتية قد ترتد إلى نكوص داخل مكونات النهضة من جراء تناقض السلوك السياسي مع الأطروحة المبدئية، وإنما يعود إلى تحول فكري أصيل يرتبط أساسا بنضج النظرية الديمقراطية عند النهضة، وأن ذلك هو ما جعل النهضة تتخذ قرارا في مؤتمرها العاشر عام 2016، بتجاوز تصنيف حزبها ضمن مسمى الإسلام السياسي، وتعريف نفسه بوصفه "ديمقراطيا مسلما".
يلاحظ الباحث أنه على الرغم من عشر سنوات الماضية التي قامت فيها النهضة بدور فعال كمركز لصناعة التوافقات، فإنها لم تستطع أن تعزز ثقة النخب فيها، ولا أن تمحو صورة "رهاب الإسلاميين" والتهديد الذي يشكلونه لمكاسب العلمانية والنسوية، تلك الصورة التي تصنعها الدولة وترسخها في أذهان التونسيين.يعتقد الباحث أن اختزال هذا التحول في البراغماتية، أو التسوية، أو "الاعتدال" لا يقدم تفسيرا لهذا التحول، ويرى أن هناك شيئا مميزا في حالة النهضة ما بعد 2011، فان تختار التكيف أو التعاون مع نظام سياسي ليس من صنعها هذا شيء، وبين أن تقوم النهضة بدور توليفي من أجل تأسيس النموذج الديمقراطي فهذا شيء آخر.
ماذا تبقى من الديمقراطية الإسلامية عند الغنوشي؟
يطرح الباحث تساؤلا مهما، يقول فيه، إذا كان دستور 2014 يعكس القليل مما كان ينظر إليه على أنه ديمقراطية إسلامية، فما هي القوة المتبقية لتلك النظرية المثالية للغنوشي، وما هو الدفاع النظري الأكثر تطورا عن النظام الجديد من منظور عقائدي؟
تستدعي الإجابة عن السؤال إعادة تقليب المتن الفكري للشيخ راشد الغنوشي، وكيف يمكن التعامل معها، خصوصا، وأنه كتب عن النظرية الديمقراطية المسلمة وبشكل خاص عن السيادة والقانون والشرعية في فترات مختلفة، وتعد تباينت كتاباته بين الأكاديمية (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) وبين مقالات فكرية وأخرى سياسية كتبها تعليقا على الأحداث.
ويرى الباحث أن مقترب المصلحة الحزبية والتكيف مع تحولات الواقع السياسي لا يمكن أن يفسر كل هذه الأعمال، وأن أعماله تمثل محاولات لتقديم النظرية المثالية الأكثر إقناعا للحكومة الإسلامية في هذا السياق التاريخي. في حين، وعلى النقيض من ذلك، اكتسب جزء من خطابه السياسي خلال اللحظات التأسيسية المتفاوض عليها وبعدها طابعا ارتجاليا وغير منهجي ومؤقت.
وبناء على ذلك، اتجه قصد الباحث في كتابه إلى استقراء الملامح الأيديولوجية لفكرة "الديمقراطية المسلمة"، مقارنة بالنظرية الإسلامية المثالية التي طورت في العقود التي سبقت ثورة 2011، وبحث مدى اختلاف الأيديولوجية غير المثالية الطوباوية عن النظرية المثالية السابقة، ورصد نوع الالتزام الأخلاقي أو الإجماع الذي يدعم الالتزام بشيء مثل النظام الدستوري لعام 2014 في تونس بوصف هذا النظام كان في حقيقته ثمرة تفاوض ديمقراطي حر. ويرى الباحث أن الإجابة عن هذه الأسئلة تفترض ابتداء بسط رؤية الغنوشي للنظام السياسي الإسلامي قبل عرض ملامح الديمقراطية الإسلامية.
الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية
يرى الباحث ان كتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يمثل المتن المؤسس لفكرة الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية سعت إلى مواءمة مبدأ السيادة الإلهية مع مبدأ الشعب كمصدر لجميع السلطات السياسية والضابط النهائي ضد الاستبداد والطغيان.
ومع سعي الغنوشي في هذه الرؤية إلى تأصيل مبدأ الحريات العامة الواسعة وحقوق غير المسلمين والأحزاب غير الإسلامية في المشاركة في الحياة السياسية، فإنها في نظر الباحث تختلف تمامًا عن تأييد نظام ديمقراطي تعددي متماسك بدستور يفصل ويوازن بين السلطات السياسي.
تقوم رؤية الغنوشي للنظام الديمقراطي على وحدة أخلاقية ودينية راسخة داخل الشعب، حيث يهيمن الإسلام دون قمع أو إقصاء تام للرؤى أو أساليب الحياة الأخرى. لا يمكن فهم توجه الغنوشي والنهضة الرسمي نحو أيديولوجية "الديمقراطية الإسلامية" المتميزة إلا من خلال دراسة معالم فكرة "الديمقراطية الإسلامية".
ويرى الكاتب أن هذه النظرية مهمة لالتزاماتها الديمقراطية، نظرًا للتردد الذي يبديه العديد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين تجاه الديمقراطية. لكنه يعتبرها نظرية مثالية لكيفية تمكين شعب مسلم ملتزم دينيًا من الحكم الذاتي الكامل.
يستخدم الغنوشي الأساس الميتافيزيقي للسيادة الإلهية والخلافة العالمية للتمييز بين المناهج الإسلامية للحرية وحقوق الإنسان، والمفاهيم "الغربية" التي يعتبرها مبنية على على نوع من الإرادة البشرية التعسفية التي لا أساس لها. ويرى الباحث أن الغنوشي يضع مشروعه حول شخصية محددة للغاية تسعى إلى الكمال في رؤيته للسياسة وفن الحكم، وأن الديمقراطية تقوم على الوحدة الأخلاقية، فالشعب في تصور الغنوشي ليست له صلاحيات كاملة في تعيين وعزل الحكام وأجهزة الحكم فحسب، بل أيضا صلاحيات واسعة في تصميم النظام السياسي نفسه وتفويضه. ولكن، في المقابل، يعتبر في نفس الكتاب أن تفويض السلطة للحكومة هو عقد لتطبيق الشريعة الإسلامية وحماية الصالح العام. ويعتبر الباحث أن جميع النقاط الأخرى قابلة للتفاوض، لكن هذا يُشكل قيدا كبيرا على التعددية الديمقراطية.
يرى الباحث ان كتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يمثل المتن المؤسس لفكرة الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية سعت إلى مواءمة مبدأ السيادة الإلهية مع مبدأ الشعب كمصدر لجميع السلطات السياسية والضابط النهائي ضد الاستبداد والطغيان.وقد اجتهد الباحث في بسط الأصول اللاهوتية لنظرية الغنوشي لقضية الديمقراطية والسيادة للشعب، وسجل وجود نقاط توتر كثيرة بين النظرية المثالية للديمقراطية الإسلامية ونظرية الديمقراطية التعددية الليبرالية.
ويخلص الباحث إلى أن نظرية الغنوشي المثالية قبل عام 2011 كانت ديمقراطية منظمة حول تأييد جماعي مشترك لمفهوم الخير، وعقيدة شاملة، وأنها كانت في الجوهر تمثل رؤية لنظام سياسي طهراني قائم على المساواة والديمقراطية الجذرية، حيث يُبنى مفهوم الشخص على الأنثروبولوجيا اللاهوتية لخلافة الله الشاملة للبشرية.
التعددية، الإجماع، القانون.. "الديمقراطية المسلمة" كنظرية غير مثالية
يسجل الباحث لحظة التحول في فكر النهضة، أي لحظة تخلي مؤتمر النهضة عن تسمية الحركة بالإسلام السياسي ووصف الحزب بكونه ديمقراطي مسلم، وكيف حرصت وثائق الحزب أن تعتبر أن "الإسلام السياسي لا يعبر عن جوهر هويته الراهنة، ولا يعكس جوهر رؤيته المستقبلية. وان عمل النهضة يندرج في إطار سعي أصيل لتكوين تيار عريض من الديمقراطيين المسلمين الذين يرفضون أي تناقض بين قيم الإسلام وقيم الحداثة".
وقد اشتغل الباحث على كتابات الغنوشي لفهم هذا التحول، واستعرض التحول في أفكاره منذ كتاباته الأولى، واعتبر أن الاهتمام الراسخ بالحرية والمجتمع المدني، والذي سبق ثورة الياسمين والتوجه الرسمي نحو "الديمقراطية المسلمة"، شكل نقطة البداية والإطار الأساسي لفهم أيديولوجية الديمقراطية المسلمة. لكنه يرى أن الفترة التأسيسية 2011-2014 تمثل الإطار الذي تطورت فيه نظريته للديمقراطية المسلمة.
ويقارن الباحث بين الكتابات التي قرأ فيها الغنوشي وثيقة المدنية المنورة قبل 2011 وبعدها، ويرى أن الكتابات التي أعقبت الثورة، تذهب إلى أبعد مدى في موضوع الحرية، إذ تؤكد على أن درس وثيقة المدينة المنورة لتونس ما بعد الثورة هو أن الحكم الإسلامي تأسس أصلا في ظل ظروف تعددية جذرية، حيث لا يمكن افتراض وجود إرادة أو هدف مشترك بين "المواطنين". ويعتبر أن دروس الوثيقة، تونسيا، تعني تأسيس نظام سياسي تعددي حيث المواطنة (وليس الدين) هي المبدأ الأساسي للحقوق والواجبات. وهكذا، تصبح السابقة الأبرز للوثيقة الإطار الشامل والمشرع لقبول الديمقراطية التعددية، وتكون الآلية الأساسية للنظام السياسي في هذا النموذج هي التعاقد، لا التكوين الأخلاقي.
يستخدم الغنوشي هذا الفهم لوثيقة المدينة المنورة ليس فقط للدفاع عن مفهوم محدود للسياسة وتبرير التعاون السياسي مع الأحزاب غير الإسلامية، بل أيضا للدفاع عن نموذج توافقي واسع للسياسة التأسيسية.
ويلتفت الباحث إلى ملحظ مهم في نظرية الغنوشي، فهو أنه لا يدافع عن هذه الحلول باعتبارها تنازلات ضرورية بالنظر إلى توازن القوى، أو "أفضل ما يمكن الحصول عليه"، أو كخيار سياسي بحت لإعطاء الأولوية للاستقرار على الأهداف الحزبية، بل إنه يطرح وجهة نظر مفادها أن التوافق في حد ذاته مبدأ أسمى من مبادئ الشرعية، لا سيما في المراحل التأسيسية.
كيف نفكر في الديمقراطية المسلمة؟
يطرح الباحث سؤال مهما ستعلق بالكيفية التي ينبغي للمنظرين السياسيين (وعلماء الاجتماع) فهم التحول إلى أيديولوجية الديمقراطية المسلمة. يقترح الباحث ثلاثة احتمالات:
ـ الأول، أنها تحولات إيديولوجية تحت ضغط الضرورة السياسية. ويستعين في تفسير هذا الاحتمال بنظريات تفسير اعتدال الأحزاب (الحوافز الانتخابية، تأثير القمع الحكومي، التفاعل مع الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، وتأثير العديد من نشطاء الحزب الذين يعيشون في المنفى في الديمقراطيات الليبرالية).
ـ الثاني، وقد استلهمه من نظريات رولز بشأن كيفية تعامل العقائد الشاملة مع حقيقة الخلاف الأخلاقي العميق عند دخولها عالم السياسة الديمقراطية، إذ يعتقد رولز أنه بمجرد أن تدخل الجماعات السياسية في النقاش العام، إلى جانب جماعات أخرى لا تشاركها عقيدتها الشاملة، فمن المنطقي أن تخرج من الدائرة الضيقة لآرائها الخاصة لتطوير مفاهيم سياسية تُمكّنها من شرح وتبرير سياساتها المفضلة أمام جمهور أوسع، وذلك لتشكيل أغلبية.
ـ الاحتمال الثالث، وهو الذي ركبه الباحث انطلاقا من الاحتمالين السابقين. ويرى أنه لا ينبغي اعتبار التحول إلى "الديمقراطية المسلمة" محطةً على الطريق نحو العلمانية الكاملة أو إجماعا رولزيا متداخلًا، حيث يوجد التزام مبدئي بعدم المطالبة بالقوانين على أساس العقيدة الدينية. بل يمكن اعتباره في المقام الأول استجابةً للظروف السياسية الأساسية (الخلاف والصراع)، وتفضيلًا لتسوية دستورية سلمية، يُمكن للأحزاب من خلالها النضال من أجل آرائها وبرامجها الخاصة. ويسجل الباحث أن هذا يختلف عن النظرية الإسلامية المثالية التقليدية في أنه لا يُنظر لنظام سياسي إسلامي شامل منذ البداية، بل يفترض وجود عالم السياسة القائم بالفعل. كما أنها لا تتخلى عن السعي لتحقيق الأهداف الدينية في السياسة، ولكن اختيارها للأولويات قد يكون أكثر سياقية، وارتجالية، ويحدده الحكم السياسي في ظل الظروف المتغيرة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الغنوشي تونس أفكاره تونس كتاب الغنوشي اسلاميون أفكار كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدیمقراطیة الإسلامیة راشد الغنوشی السیاسی فی نظام سیاسی الباحث إلى بین النخب النخب فی من خلال فی تونس ما بعد یرى أن
إقرأ أيضاً:
رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة
سيظل الرائد الكبير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رمزا حضاريا شامخا، يقف كتفا بكتف مع مؤسسي النهضة، وبناة المجتمعات، وفلاسفة المجتمع الكبار، من أمثال الفارابي، وابن خلدون، وجان جاك روسو، ومونتسكيو. وهو رجل النهضة الذي يقف أمام الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا، وسائر المؤسسين والمصلحين. وسيبقى أسبق عين معاصرة للشرق على الغرب، وطليعة للحوار الحضاري في العصر الحديث.
ذهب زعيم النهضة العلمية الحديثة إلى فرنسا إماما لأول بعثة مصرية كبيرة إلى أوروبا سنة 1826م، لدراسة العلوم الحديثة، وكانت مكونة من 44 طالبا، نصفهم من أصل مصري، يتقدمهم إمامهم الشاب، العالم الأزهري المتوثب، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأنثروبولجية مايا ويند: هكذا تتواطأ "الجامعات الاستيطانية" مع الحركة الاستعمارية الإسرائيليةlist 2 of 2فلسطين كمختبر عالمي لتقنيات القمع ومكافحة التمردend of listوحسبما أوضح محمد علي باشا سبب هذه البعثات، في حديثه إلى الدكتور بورينغ (Bowring)، مندوب الحكومة الإنجليزية، حيث قال له الباشا بشأن الغرض من ابتعاث هؤلاء الطلائع الرواد:
"ينظرون إلى الأشياء بعيونهم، ويتمرنون على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتكم جيدا، وأن يكتشفوا كيف ولم تفوقتم علينا، حتى إذا ما قضوا وقتا كافيا بين شعوبكم، عادوا إلى وطنهم وعلموا شعبي، فإن أمامي الشيء الكثير لأتعلمه أنا وشعبي".
ولعل هذا ما دعا كارل ماركس — وكان معاصرا — إلى أن يقول: "إنه صاحب العمامة الوحيدة في الدولة العثمانية، التي تحتها رأس يفكر". حيث شاءت إرادة الله، وعزم رفاعة، أن يكون إمام الصلاة.. إماما للنهضة العلمية المعاصرة.
وقد أرسلت في عهد محمد علي سبع بعثات، كانت أولاها إلى إيطاليا عام 1809م، ثم تنوعت بعد ذلك إلى فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وإنجلترا، لدراسة الهندسة، والبحرية، والطب، والحقوق، والإدارة، والكيمياء، والترجمة، والزراعة، والفيزياء، والعلوم الرياضية، والطباعة، والفنون. وكانت آخرها عام 1848م، قبل رحيل محمد علي في 12 أغسطس/آب 1849م، الذي لم يكن متطرفا في النقل عن الغرب، ولا تابعا له بالكلية كما يردد البعض، وإلا لترك الأجانب في بلادنا، ولم يوفد أبناءنا إلى أوروبا.
لكنه حاول سد هذه الفجوة العلمية الهائلة إلى حين، ليحل أبناء هذه الفرق العلمية محل الأساتذة، والضباط، والمهندسين الأجانب. وبذلك احتفظت مصر بهويتها وشخصيتها، بعدما ثبتت أقدامها في تاريخها وتراثها، ثم ملأت رأسها بعلوم أوروبا.
إعلانوكان عثمان نور الدين باشا أول مبعوث مصري إلى أوروبا، حيث عاد من بعثته لترجمة الكتب والمراجع، والفنون الحربية المختلفة، وسائر الصنائع المتعلقة بها. كما أن عبد الرحيم أفندي قد عاد لترجمة كتب معامل الأقطان، وصناعتها، وآلاتها.
ولعل تلك الخصوصية التي وعاها محمد علي، تبرز من قصة أدهم بك، رئيس المدفعية بورش المهمات الحربية، الذي أرسل إلى إنجلترا، فتزيا بزيهم، وحاكاهم في أقوالهم وعاداتهم. فلما علم الباشا محمد علي بذلك، غضب غضبا شديدا، وأرجعه فورا مغضوبا عليه، وقال: "إنني ابتعثته ليعاين الفبريقات، ويقف على صناعتها، وليعود بها إلى مصر، لا ليقلدهم في ملابسهم وعاداتهم".
كان الأزهر الشريف حينئذ يفرك عينيه في أعقاب رحيل الفرنسيين، حيث اطلعت طلائعه على ما يملكه الفرنسيون من العلوم الحديثة والأسلحة المتطورة، وأيقنوا أن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في علوم الدنيا، وعلى رأسهم العلامة الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر حينئذ.
إذ رأى نفسه مطالبا بالإجابة الواقعية على سؤال الحضارة الواقعي الملزم، وصدمتها التي حلت بالمحروسة، بوجوب الاطلاع على علوم العصر، وحتمية استكمال الحصانة الحضارية، بدراسة الرياضيات والكيمياء وسائر علوم العصر. فحصلها حتى صار حجة فيها، وخطا بكل همة وعزيمة إلى تبني صفوة من شباب النخبة، لقراءة شريعتهم بعيون المصلحين الأحياء.
وكان من يمن طالع الشيخ رفاعة، أن كان من أوائل هذا الفريق الذي تتلمذ مباشرة على يد العطار. بل إن الشيخ العطار هو الذي قرأ فيه الأهلية، لاختياره إماما بالجيش، ثم اختياره إماما للبعثة المصرية الكبرى إلى باريس، حيث كان قد وضع يده على طاقته في البحث، ورغبته في الطموح، وعزيمته في التفوق، فاختاره إماما للصلاة، فصار إمام الصلاة، إماما للحركة العلمية في مصر في العصر الحديث. شأنه في ذلك شأن نظيره الشيخ محمد عياد الطنطاوي، الذي شرق إلى روسيا، بينما غرب الشيخ رفاعة إلى فرنسا.
ثم عاد رفاعة إلى وطنه، خيرا مما غادره، فكان: الشيخ، الإمام، الفقيه، المترجم، المؤسس، الرائد، الأميرالاي، الشاعر، المفكر.
عِصاميٌّ طريفُ المجدِ سعيًا
عِظاميٌّ شريفٌ بالتِّلادِ
سِوى نَسَبِ العلومِ لي انتسابٌ
إلى خيرِ الحواضرِ والبوادي
وحسبي أنني أبرَزتُ كتبًا
تُبيدُ كَتائبًا يومَ الطِّرادِ
فمِنها منبعُ العِرفانِ يجري
وكم طِرْسٍ تُحُبِّرُ بالمدادِ
على عددِ التواترِ مُعْرَبَاتي
تَفِي بفُنونِ سِلمٍ أو جِهادِ
ولقد كان من بين الإلهامات العجيبة أن يتفرس الشيخ الصوفي الشريف، الشيخ السادات، في وجه هذا الشيخ الشاب، رفاعة الطهطاوي، ثم يهتف به، مانحا إياه هذا اللقب: "اذهب فأنت أبو العزم"، وسط ما كان الشيخ السادات يخلعه من ألقاب ومنح على من لديه من الطلاب، والعلماء، والأولياء، والتجار، والوجهاء المترددين على مجلسه الوقور، ببيته بـ "بركة الفيل".
إعلانفكان هذا المفتاح النفيس سرا فاتحا لمجمع عزائم الطهطاوي، من الأزهر، إلى باريس، إلى التعليم، إلى القانون، إلى الطب والهندسة، إلى العلوم العسكرية، واللغات، إلى التحرير والترجمة، إلى مصر وفرنسا والسودان، إلى كل موقع أو مهمة حل بها الطهطاوي وارتحل.
ولد الطهطاوي في طهطا عام 1216 ه / 1801 م، وإليها ينسب. وبها تفتحت عيونه على الدنيا، وصافحت أنظاره الناس والحروف والكلمات، وبها تأسس بالقرآن وعلومه، وتأهل لدخول الأزهر الشريف.
وفي عام 1232 هـ / 1817 م، وفد إلى القاهرة والتحق بالأزهر الشريف، ومكث به خمس سنوات، ختم بها درسه، وأكمل بحثه، متخصصا في المذهب الشافعي. ونبغ في كل علم كان يدرس بالأزهر، حتى بلغ منزلة التدريس فيه، وهو ابن الحادية والعشرين.
فكان كما قال تلميذه الفذ، الشاعر المؤرخ، صالح مجدي: "حسن الإلقاء، ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم من أحد إلا استفاد منه، وبرع في كل ما أخذ عنه".
وأضاف: "يقوم بتدريس البيان، والبديع، والعروض، والحديث، والمنطق، والنحو، والصرف، سهل التعبير، حسن الأسلوب، مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، بحيث يفهم درسه الصغير والكبير، بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب".
رفاعة في باريسفي يوم الخميس من شهر رمضان 1241هـ / 24 أبريل/نيسان 1826م، أبحرت من الإسكندرية سفينة العلم والنور، تحمل الشيخ رفاعة وإخوانه. وفي التاسع من شهر شوال، وصلت بهم إلى مرسيليا، بعد أن رشحه أستاذه العلامة حسن العطار للعمل واعظا في العساكر الجهادية أولا، ثم إماما للبعثة العلمية إلى فرنسا ثانيا، صحبة "الأفندية" المبعوثين لتعلم العلوم والفنون الموجودة بفرنسا، والتي كشفت عنها صدمة الحملة الفرنسية الأثيمة على مصر عام 1798م، بهدف تحصيلها والعودة بها إلى بلادنا.
وقد أحسن العلامة العطار، في وعيه الحضاري، الذي نبه فيه تلميذه رفاعة، بأن "يدون كل ما تقع عليه عينه، وأن يسجل ما يصادفه من الأمور الغيرية، والأشياء العينية، وأن يقيده ليكون كاشفا في كشف القناع عن ماهية هذه البقاع، التي يقال لها (عروس المدائن)".
كما كان رفاعة واعيا أشد الوعي بما يصنع، حيث قال: "حسب ظني لم يظهر في اللغة العربية شيء في تاريخ باريس".
وكان صحبة الشيخ رفاعة في هذه البعثة: حضرة "عهدي أفندي المهردار"، الذي تخصص في الأمور الملكية، يليه حضرة "مصطفى أفندي الدويدار"، الذي تخصص في الأمور العسكرية، والثالث "حسن أفندي الإسكندراني"، الذي تخصص في القبطانية والبحرية.
يقول الشيخ رفاعة: "والحق أنني مدة إقامتي في هذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك، وخلو بلاد الممالك الإسلامية منه".
وقال: "ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصوص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية".
وقال: "وليست هذه الرحلة مختصرة على ذكر السفر ووقائعه، بل هي مشتملة على ثمرته وغرضه، وفيها إيجاز العلوم والصنائع المطلوبة، والتكلم عليها، وعلى طريقة تدوين الأفرنج لها، واعتقادهم فيها، وتأسيسهم لها".
كان هذا هو الاسم الأول لكتاب رفاعة الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، جريا على سجع عناوين كتب الوقائع المشهورة، مثل: "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي، و"التبر المسبوك في نصيحة الملوك" للغزالي، و"بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس، وغيرها من آلاف الكتب والمراجع التي يزخر بها إرثنا وتراثنا.
إعلانوتكلم الشيخ رفاعة في كتابه عن العلوم والفنون المطلوبة، والحرف والصنائع المرغوبة، وأوفى الحقوق الثلاثة قدرها (الطبيعية، والبشرية، والوضعية)، وتناول علوم تدبير العسكرية، والقبطانية، والبحرية، والعلاقات الدولية، والسفارات، وفنون المياه، وصناعات القناطر والجسور، والصناعات الفنية، والميكانيكا، والهندسة البحرية، والمدفعية (الطوبجية)، وصناعة المعادن، والكيمياء، والورق، والتحاليل، والطب، وصناعة البارود، والسكر، والأنسجة، والتشريح، والبيطرة، وعلوم الزراعة، والصرف، وعلوم النبات، والحيوان، وصناعة النقش والحفر، والترجمة، والجغرافيا، والفلك.
حيث بسط الحديث في مقدمة كتابه عن جغرافيا العالم، ثم تحدث بعد ذلك عن مدينة الإسكندرية وتاريخها منذ نشأتها على يد الإسكندر المقدوني، إلى اليوم الذي تركها فيه رفاعة. لكنه تورط في هذا السرد في خطأ تاريخي فاحش، حين ذكر ما نصه: "ومن عجائب ما فيها.. خزانات الكتب التي حرقها عمرو بن العاص رضي الله عنه، على ما كان فيها من الكتب، ما قدره 700,000 مجلد".
وهذا الخطأ مردود عليه بالأدلة التاريخية والشواهد الواقعية، ولعل أقوى الكتب التي تناولت هذه القضية بوضوح، تلك الدراسة الماتعة التي صدرت مؤخرا للعالم الباحث الدكتور المهندس ربيع الزواوي: "مكتبة الإسكندرية.. هل أحرقها عمرو بن العاص؟" (القاهرة، 2007م).
وفي الطريق إلى باريس، تكلم الشيخ رفاعة عن جزيرة كريت، التي وصل إليها في اليوم السابع من السفر، ثم جزيرة صقلية، ثم مسينا ببوغاز إيطاليا، ثم إلى نابولي، وهي إحدى البنادر الأربعة الأصلية في البلاد الإفرنجية، ثم إلى مرسيليا، ودخولهم إلى "الكرنتينة"، وما يذكره من طرائف التحليل والتحريم للحجر الصحي، بناء على فهم القضاء والقدر، وما دار بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي المدرس بجامع الزيتونة، والشيخ محمد البيرم شيخ الحنفية. وما إن وصل إلى مرسيليا، حتى اشتغل مع المبتعثين بتعلم تهجي الحروف الفرنساوية، وهم ما زالوا في الكرنتينة.
ثم دخلوا باريس، فتكلم عن تخطيطها، ووصفها الجغرافي، وأهلها، وعاداتهم، وزروعها، وشوارعها، ومقاهيها، ودور العلم بها، وكل شيء فيها، حتى كأنك تراه رأي العين. وهنا انفتحت العين الناقدة، والبصيرة الشاهدة للشيخ رفاعة على اتساع محيطها، وامتداد قطرها، فقال:
لَئِنْ طلَّقْتُ باريسَ ثلاثًا،
فما هذا لغيرِ وصالِ مِصْرِ.
فكُلٌّ منهُمُ عندي عروسٌ،
ولكنْ مِصْرُ ليستْ بنتَ كُفْرِ.
ومثلما قال في قصيدته الطويلة، مادحا مصر أم الدنيا من قلب باريس، عروس أوروبا، حيث لم يتخل عن حبه لبلده ساعة من نهار، فقال:
زمنٌ عليّ به لمصرَ (فدَيتُها)
حقٌّ وثيقٌ عاطلُ النكرانِ
فلكَمْ بأزهرِها شموسٌ أشرقتْ
وأنارتِ الأكوانَ بالعرفانِ
فشذا عبيرِ علومِهم عَلَمُ الورى
وسرتْ مآثرُهم لكلِّ مكانِ
قد شبّهوها بالعروسِ وقد بدا
منها (العروسيُّ) بهجةَ الأكوانِ
قالوا تعطّرَ روضُها فأجبتُهم
(عطّارُها حَسَنٌ) شذاهُ معانِ
حبرٌ له شهدتْ أكابرُ عصرِه
بكمالِ فضلٍ لاحَ بالبرهانِ
ولئنْ حلفتُ بأنَّ مِصْرَ (لجنّةٌ)
وقطوفُها للفائزينَ دوانِ
والنيلُ كوثرُها الشهيُّ شرابُهُ
لأبرُّ كلَّ البرِّ في أيماني
ثم تحدث بعد ذلك عن أهل باريس، وتدبير الدولة الفرنساوية، واقتصادياتها، وما يتعلق بها من أمور المعاش، والصحة، والتعليم، والإدارة، والسياسة، والقانون، والعلوم. ثم قام بترجمة المنطق لأرسطو، وعلم الحساب.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1830م، تقدم للامتحان النهائي في ختام الدراسة، وقدم للجنة الامتحان 12 كتابا قام بترجمتها خلال السنوات الخمس، تشمل علوم الاجتماع، والهندسة، والقيادة العسكرية، والميثولوجيا، والصحة، وتقويم البلدان، والجغرافيا، والتعدين، والفلسفة، والقانون، وفنون الأدب، بالإضافة إلى مخطوطة كتابه "تخليص الإبريز"، الذي يقدم فيه اكتشافه للحضارة الغربية وإضاءتها من داخلها، ناقدا واعيا مستبصرا، وهو ما زال ذلك الطالب الذي منتهى غايته أن يرضي أساتذته، وأن ينظر إلى كل شيء بعيونهم، لا بعيونه!
لكنه كان غير ذلك تماما، حتى عاد إلى داره، ومداره، مصر المحروسة، عام 1831م، وقد تحول من إمام للدين والصلاة، إلى إمام للنهضة والحياة.
عاد الشيخ رفاعة عام 1246هـ ليعمل مترجما في مدرسة الطب بتزكية من أستاذه مسيو جومار، المشرف العلمي على البعثة. مكث بها سنتين، ثم نقل عام 1249ه مترجما في مدرسة الطوبجية. ثم انتقل أستاذا في مدرسة الإدارة الملكية، ثم عين عام 1250هـ ناظرا لمدرسة التاريخ والجغرافيا.
إعلانثم أخذ يقنع الباشا بإنشاء مدرسة للإدارة الملكية، حتى أقنعه بتلك الفكرة، فكانت النواة التي نشأت عنها بعد ذلك "مدرسة الألسن" عام 1835م، باسم "مدرسة الترجمة" أولا، ثم تطورت إلى "مدرسة الألسن"، ومقرها السراي المعروفة باسم "بيت الدفتردار" بحي الأزبكية، حيث كان يقوم فندق شبرد القديم. وقد أنشئت مدرسة الألسن – كما رفع الشيخ رفاعة إلى الجناب العالي – "لينتفع بها الوطن ويستغنى بها عن الدخيل".
وقد بدأت أولا بثمانين طالبا، ثم ازداد عددهم ليصل إلى 150، وقد تخرجت الدفعة الأولى منها عام 1255هـ / 1839م. وقام الشيخ رفاعة بوضع منهج المدرسة الدراسي، وكان على رأس إدارتها والتدريس فيها بكل حزم وإخلاص. وكان يدرس إلى جانب المقررات الدراسية الأدب، والفقه، والشريعة الإسلامية، ويقوم بالواجب القومي لترجمة مراجع النهضة العلمية المعاصرة من سائر العلوم والفنون.
وفي هذه الفترة، عهد إلى رفاعة إعادة تنظيم صحيفة الوقائع المصرية، والإشراف على تحريرها عام 1257هـ، فقام بذلك على خير وجه لمدة ثلاث سنوات.
وقد عاشت مدرسة الألسن نحو 15 عاما، وهي جوهرة النهضة وطليعة الحضارة، إلى أن أغلقها عباس الأول، الذي لم يكن على وفاق مع رجال جده محمد علي وعمه إبراهيم. فلم تمض أيام على ولاية عباس حتى ألغاها في المحرم 1266هـ / نوفمبر/تشرين الثاني 1849م.
رفاعة في السودانلما ولي عباس الأول الأمر بعد وفاة جده محمد علي في 12 رمضان 1265هـ / 12 أغسطس/آب 1849م، وكان شديد التحفظ والانغلاق، كما لم يكن مطمئنا إلى رجال جده محمد علي ولا عمه إبراهيم، وعلى رأسهم الشيخ رفاعة، فأمر بإرساله إلى السودان ناظرا لمدرسة الخرطوم الابتدائية، التي قضى بها ثلاثة أعوام، وعاد منها بعد وفاة عباس الأول وتربع سعيد على عرش مصر عام 1854م، فعين وكيلا للمدرسة الحربية، ثم ناظرا لها بعد إحالة ناظرها سليمان باشا الفرنساوي. ولكن حنينه للألسن ما زال يلح عليه في العودة إليها، كدار واسعة للتربية والإعداد والإصلاح والنهضة.
والذين نعوا على المصلح المجدد رفاعة الطهطاوي بعض قوله الشاكي في السودان، الذي أبعد إليه لجفوة بينه وبين عباس الأول، عليهم أن يعلموا أن رفاعة قد عانى الأمرين بالسودان، لا لمكرهة بينه وبين أهله، إنما لتعطل المشروع الإصلاحي الذي قضى حياته من أجله، وأن كل جهوده الإصلاحية قد داسها عربة عباس الأول دون ترو. ولكنه يلخص ذلك المشهد حيث يقول:
وما خِلْتُ العزيزَ يريدُ ذلِّي
ولا يُصغي لأخصامٍ لِدادِ
لديهِ سعَوْا بألسنةٍ حِدادِ
فكيف صغى لألسنةٍ حِدادِ؟
مهازيلُ الفضائلِ خادعوني
وهل في حربِهم يكبو جوادي؟
وزخرفُ قولِهم إذ موّهوهُ
على تزييفِهم نادى المنادي
فهل من صيرفيِّ المعنى بصيرٍ
صحيحِ الانتقادِ والاقتصادِ
قياسُ مدارسٍ قالوا عظيمٌ
بمصرَ، فما النتيجةُ في بِعادي؟
وما السودانُ قطُّ مقامَ مثلي
ولا سَلمايَ فيهِ، ولا سُعادي
بها ريحُ السَّمومِ يُشَمُّ منهُ
زفيرُ لظىً، فلا يُطفيهِ وادِ
رحلْتُ بصبغةِ المغبونِ عنها
وفضلي في سواها في المزادِ
يقول العلامة الدكتور أحمد أمين: "وكان الشيخ كما ترى، قد صاغ قصيدته على وزن وقافية القصيدة الشهيرة: لقد أسمعتَ إذ ناديتَ حيًّا / ولكن لا حياة لمن تنادي"، يقصد بذلك الغاية من الملاومة والتبكيت، بحيلته الأدبية البلاغية تلك.
وهكذا قضى الشيخ رفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات، قاسى فيها شدائد الحرّ والإقصاء والتهوين، لا كرهًا في السودان، إنما رفضًا للمظلمة، وحزنًا على تعطيل مشروعه النهضوي الفريد.
إلى ما سبق، فإن الشيخ رفاعة قد فقد في تلك المبعدة معظم أصدقائه، خاصة بيومي أفندي، أستاذ الرياضيات في مدرسة المهندسخانة، والذي نعاه ضمن القصيدة السابقة بقوله: "وحسبي فتكها بنصيفِ صحبي / كأن وظيفتي لبسُ الحدادِ".
والشيخ رفاعة نفسه كان قطعة حية من الجسد المصري السوداني الحضاري العريق، فهو القائل على لسان مصر والسودان:
نحن غصنانِ ضمّنا عاطفُ الوجدِ
جميعًا في الحبِّ ضمنَ نطاقِ
في جبينِ الزمانِ منكَ ومنِّي
غُرّةٌ.. كوكبيةُ الإطلاقِ
ومع ذلك، فقد أثمر الشيخ رفاعة في منفاه في السودان خير ثمرة، بحسن إدارة مدرسة الخرطوم، والنجاح في تخريج جيل من المصريين والسودانيين على خير ما يرام، ثم بترجمة قصة "تليماك"، التي وضعها بعد ذلك تحت عنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك".
ذهب الطهطاوي إلى فرنسا وهو مزود بالأصالة الأزهرية، ومفعم بالنصر الذي حققه الشعب المصري على الحملة الفرنسية التي قدمت إليه عام 1798م، والتي دنست خيلها الأزهر الشريف، ثم انجلت غمتها عام 1801م، بعد ثلاث سنوات من المقاومة والجهاد العام. وهو نفس عام مولد السيد الشريف، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي تفتحت عيونه وإدراكه للحياة على هذا الثأر المبيت.
فدخل الطهطاوي فرنسا وهو محصن بأزهريته الأصيلة، وتربيته الواعية، وأصله الشريف، وعوده الصلب، ووعيه المسبق على يد شيخه الأثير، العلامة الشيخ حسن العطار، شيخ الأزهر الشريف، الذي سبقت له معرفة بالفرنسيس واحتكاك علمي وحضاري بهم، حال حلولهم بالمحروسة، والذي عزم على سد الفجوة بتربية جيل واع واثق متوثب مخلص من شباب الأزهريين النوابغ، من أمثال: إبراهيم الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، والشيخ رفاعة وغيرهم، ليكونوا طليعة لبشائر النهضة.
فذهب الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري المعبأ برغبة شعبه في النهضة، وتربية شيخه في الوعي، وصلابة أصله في التحمل، وتزكية خلقه في التصوف، وعلو محتده في الشرف، وعزيمة واليه في البناء، ورغبة الطهطاوي نفسه في التحدي، وقدرته الهائلة على الإنجاز والتحصيل.
يقول زميله في البعثة، ومنافسه في الزعامة، أبو التعليم المصري (علي مبارك): "ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده". (الخطط التوفيقية ج 13 ص 54)
تبدو الثقة بالنفس والشرع من كل ملاحظات الشيخ رفاعة، من أول يوم في بعثته إلى آخر يوم في حياته، حتى في ترويحاته واستملاحاته، وفي تسريته وتسليته، بغنائه وإنشاده، ومنظوماته ومقاماته، وهو ما زال بسفينة الذهاب. حيث تصادف دخولهم مع احتفال القوم ببعض أعيادهم، بالابتهاج وطرق النواقيس، فقال:
أصبو إلى كلِّ ذي جمالِ
ولستُ من صبوتي أخافُ
وليس بي في الهوى ارتيابٌ
وإنما شيمتي العفافُ
يعكس "تخليص الإبريز" إجادة الطهطاوي للفرنسية، وإلمامه بالعلوم العصرية الحديثة، كما يعكس كفاءة عقلية باهرة، حيث انخرط الطهطاوي حتى أذنيه في معاملة المستشرقين الكبار، من أمثال سيلفستر دي ساسي بالكوليج دي فرانس، وكوسان دي برسفال بمدرسة اللغات الشرقية، وجوزيف رينو بدار الكتب، ومسيو جومار، وجول سالدان، منذ الأيام الأولى للبعثة. ولكن تلك العلاقة الوثيقة تعكس خلاصتها ثقة تراثية، وموسوعية ثقافية عند رفاعة.
يقول أستاذه شوفالييه (وكان قد اتصل به أربعة أعوام كاملة): "إنما كان طلعة، يلتهم كل جديد في كل صوره المادية والمعنوية، ويتمثله التمثل الذي أقض مضاجع بعض أولي الأمر في مصر". فقد يأخذ ويعطي، ويؤثر ويتأثر، ويتعلم ويعلم، وما شابه أدنى اهتزاز أو تراجع، فضلا عن تبعية أو ذيلية قط. فهو القائل: "يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية، المشتملة على شيء من الفلسفة، أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يغتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه". (ص 179-180)
انتقاده الواضح لما تحويه الثقافة الفرنسية من "الحشوات الضلالية المخالفة للكتب السماوية"، حيث قال قوله الحاسم، المؤسس لفلسفة العقل والنقل: "إن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا أقره الشارع، والتكاليف الشرعية التي عليها نظام العالم مؤسسة على التكاليف العقلية الصحيحة، الخالية من الموانع والشبهات، لأن الشريعة والسياسة مبنيان على الحكمة المعقولة لنا، أو التعبدية التي حكمتها إلى المولى سبحانه وتعالى.. وليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه، إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه". (د. محمد عمارة: الأعمال الكاملة للطهطاوي، ج 2، ص 159). "والذي يرشد إلى تزكية النفس، هو سياسة الشرع". (المرجع السابق، ص 32).
عاش الطهطاوي سنواته الخمس معتزا بدينه، أمينا على علمه، واعيا برسالته. فهو يتتبع أخبار نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنسوية، خصوصا المماليك الجورجية والجركسية، وكذلك سعى إلى تتبع أخبار النساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن.
يقول: "وقد وجدت امرأة عجوزا باقية على دينها.. وممن تنصر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان قد ولاه الفرنسيون بمصر (أغا الإنكشارية) في أيامهم، ثم تبعهم وبقي على إسلامه خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر والعياذ بالله. ولقد رأيت له ولدين وبنتا، أتوا إلى مصر وهم على دين النصرانية، أحدهم معلم الآن في أبي زعبل". (ص 120-121).
ويصف الطهطاوي موقعا أسماه "البستان" يحتوي على عدد من المحنطات الحيوانية، وفي رواق يسمى "بستان التشريح"، يوجد بعض الشيء من جثة المرحوم الشيخ "سليمان الحلبي" الذي استشهد بقتله الجنرال "كليبر"، القائد الثاني للحملة الفرنسية. (ص 187).
ما أقدم رفاعة في بعثته على شيء، إلا وهو يعي هدفه من وراء ذلك بكل وضوح. وما ملاحظاته على لبس المرأة الفرنسية، وحقوقها وطريقتها في الحياة، وانبهاره ببعض الأمور والتدابير التي رآها لأول مرة في حياته، وكذلك وصفه للمقاهي والعاديات الحياتية والسلوكية عند الفرنسيس، إلا تطورا طبيعيا لمشواره في سبر أغوار الحياة والناس والعلوم، وتعرفه إلى كبار الأساتذة بالجامعات وغيرها، وهضم ذلك كله، وإعادة تمثله وعيا جديدا صالحا مفيدا.
يشهد له كل ذلك بقمة التيقظ، والقدرة على الفرز الحضاري الواثق، فهو القائل: "ومعلوم أن الشرع لا يحظر جلب المنافع، ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسنة، التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة". (الأعمال الكاملة، ص 387). "فإن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشارعه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأحاطها بالسقي والري، ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسة عنها بمنزلة الفرع". (ص 370). بل إنه اكتشف منذ الساعات الأولى في كتابة "تخليص الإبريز" أن القوانين التجارية الفرنساوية مأخوذة برمتها من الفقه المالكي، وهو الشيخ الأزهري الشافعي المذهب.
عمل رفاعة مع محمد علي سبعة عشر عاما، وعلى الرغم من جبروت محمد علي واستبداده بالأمر، إلا أن الشيخ رفاعة قد انتقده بقوله: "ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه.. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور".
ما ذهب رفاعة إلى مكان، أو حل بموقع، إلا وحلت به الهمة، وارتفع صوت العمران. فكان مع التخطيط والتنفيذ والإنشاء، يضع المناهج ويقوم بالتدريس والتأسيس. فعل ذلك في كل مكان حل به، وفي كل مهمة كلف بها، وفي أي علم قام بتدريسه، أو معهد قام بتأسيسه. وعلى سبيل المثال، حين كلف بتدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية، ألف لهم منظومته "جمال الأجرومية" وكتابه "التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية"، وهو أول كتاب في النحو العربي ذي سمات تجديدية.
عاد الشيخ رفاعة من باريس عام 1246هـ، حيث كان على رأس مستقبليه إبراهيم باشا، ابن محمد علي، ذلك القائد العسكري التاريخي الجبار. ثم التقى بعده محمد علي، وانخرط بكليته في البناء والتأسيس، من موقع إلى موقع، ومن مكان إلى مكان، وهو "قليل النوم، كثير الانهماك على التأليف والترجمة"، كما يقول تلميذه صالح مجدي: "وذهب إلى باريس، وعاد خيرا مما ذهب".
وحين أنشأ علي مبارك مجلة "روضة المدارس" النصف شهرية عام 1870م، أسند رئاسة تحريرها إلى رفاعة الطهطاوي، فجعلها مجالا لرواد العمل الثقافي في مصر، من أمثال علي مبارك نفسه، وعبد الله فكري، وإسماعيل صبري، وقدري باشا القانوني، وإسماعيل باشا الفلكي، وصالح مجدي من تلاميذ الشيخ رفاعة، والشيخ حمزة فتح الله اللغوي الشهير.
وأصدر معها على عدة حلقات متتابعة كتابه "القول السديد في الاجتهاد والتقليد"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" الذي لم يقتصر فيه على السيرة، بل تناول تاريخ صدر الإسلام بأسلوب جديد تماما. وكان قد كتب من قبل في التاريخ المصري القديم كتابه "أنوار توفيق الجليل"، فأفاد فيه لأول مرة في اللغة العربية من الكشوف الأثرية الحديثة. (في فكرنا الحديث والمعاصر، الجزء الأول، د. حسن الشافعي، القاهرة، 2024، ص 98).
والذين يأخذون على رفاعة ترجمته للقانون التجاري الفرنسي الذي ترجمه عام 1868م، وتعريبه للقانون المدني الفرنسي الذي طبع في مجلدين عام 1868م، فما صنع الرجل ذلك من عندياته أولا، ولا صنعه ليحكم به محل الشريعة ثانيا. فقد كان الرجل من أساطين الفقه والشريعة المعدودين.
إنما ترجم القانون التجاري ليحل مشكلة المشاكل في التعاملات التجارية مع الأجانب، الذين أغرقوا البلاد بالديون لحساب قانونهم في بلادهم، فأراد الرجل التبصير بهذا الأمر الخطير "حتى لا يجهل أهل هذا الوطن أصول الممالك الأخرى، لاسيما وأن علاقات الاقتضاء، ومناسبات الأخذ والعطاء، تدعو إلى الإلمام بمثل تلك الأصول الوضعية، ليكون من يتعامل معهم في تسوية الأمور على بصيرة". (الأعمال الكاملة، ص 367).
وما ترجم القانون المدني رفقة طلابه –عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري– إلا وقد اجتهد قدر الطاقة في سبر أغوار الفقه والشريعة الإسلامية، للإتيان بالمصطلح المناسب الذي يفي بقدرة الشريعة وكفايتها. وقد تنبه لذلك مبكرا حين أنشأ بمدرسة الألسن قسما لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وهو المذهب الذي كان يتبناه العثمانيون طوال مدة حكمهم لأكثر من ستة قرون.
رحمة الله ورضوانه على الطهطاوي الشيخ، المسيو، الأميرالاي، الذي أوقف عن العمل، وتعرض للبطالة عدة مرات، استمر بعضها إلى سنوات، ولم ينل رتبة الباشوية، في حين نالها من هم دونه بكثير. الناثر، الشاعر، المترجم، ناظر ومؤسس مدرسة الألسن، ووكيل وناظر المدرسة الحربية، وناظر مدرستي الهندسة الملكية والعمارة. العالم المعلم، صاحب "مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية"، و"المرشد الأمين للبنات والبنين"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز".
وصاحب ريادات: تعليم المرأة، والحوار الحضاري، والصحافة العامة، والصحافة المدرسية، ودراسات الاستشراق، ودراسة اللغات، والثقافة الحضارية، وتأسيس النهضة، وتقنين الشريعة الإسلامية. الذي عاش في باريس خمس سنوات، تعدل في منتوجها خمسين عاما من العلم والوعي، واسترداد الثقة الحضارية، وتفعيل التراث، واستحضار العصر والدين معا. والذي لخص لنا رسالته بقوله: "لا تحصيل إلا بتعليم أحكام الدين، الواجب معرفتها على كل إنسان، وذلك بالاعتماد على الكتاب والسنة وبصائر العقول". و"إذ لا شك أن رسالة الرسل بالشرائع، هي أصل التمدن الحقيقي الذي يعتد به، وأن الذي جاء به الإسلام، من الأصول والأحكام، هو الذي مدن بلاد الدنيا على الإطلاق".
ورحمة الله على الرجل الذي نعى باريس وما قدمت من "حشوات ضلالية" في بهرجها الحضاري الفاتن، فقال:
أيوجدُ مثلَ باريسٍ ديارُ
شموسُ العلمِ فيها لا تغيبُ
وليلُ الكفرِ ليس له صباحٌ
أما هذا وحقكمُ عجيبُ
وقضى عمره كسن الرمح، حتى لقي ربه في غرة ربيع الآخر سنة 1290هـ / 27 مايو/أيار 1873م، وهو يناهز الخامسة والسبعين من عمره النافع الميمون. فاهتزت مصر كلها لموته، على حد قول العلامة الدكتور أحمد أمين: "واحتشد لجنازته الألوف المؤلفة من المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس، وازدحمت الشوارع بالناس يردّدون بعض جميله… يذكره الأزهريون على أنهم ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم، وكلهم يتوجع لفقده، ويشيد بذكره".
أجل، إنه رفاعة "أبو العزم"، والذي يصدق فيه تمامًا ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، يوم رثاء الشاب النابغة (علي) ابن رفاعة، حين قال:
يا ابنَ الذي أيقظتْ مصرُ معارفَهُ
أبوكَ كان لأبناءِ البلادِ أبا
وسلام على الصادقين.