تحل اليوم الذكرى السنوية لميلاد الرئيس اليمني الأسبق الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح (21 مارس 1947)، والتي يراها كثير من المؤرخين ليست مجرد ذكرى شخصية، بل "ميلاد وطن" ارتبط اسمه بمرحلة تاريخية حافلة بالتحولات الجذرية في اليمن.

خلال فترة حكمه التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود (1978–2011)، مثّل الزعيم صالح رمزاً لمرحلة جمعت بين تعزيز العلاقات الدولية والطموح التنموي المحلي في مختلف المجالات بينها التعددية السياسية وحرية الصحافة، في وقت تواجه البلاد اليوم تحديات معقدة تثير تساؤلات حول غياب الرؤية الموحدة للقوى الحاكمة.

السياسة الخارجية

برز اليمن في عهد الزعيم صالح كلاعب إقليمي ودولي مؤثر، حيث بنى جسور التواصل مع الدول الشقيقة والصديقة، فوطّد علاقاته مع السعودية وعُمان، وعزز الشراكة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مجالات مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني، وأسهم ذلك في تحقيق استقرار نسبي مكّن اليمنيين من التركيز على البناء والتنمية، رغم محاولات قوى دولية وإقليمية لإثارة الاضطرابات خدمة لأجندتها الخاصة.

وحرص صالح على لعب دور الوسيط في عدة ملفات إقليمية، ما منح اليمن حضوراً دبلوماسياً ملموساً، انعكس إيجاباً على مكانته عربياً ودولياً، خاصة بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، التي مثلت نقطة تحول رئيسة في الخريطة السياسية للمنطقة.

نهضة تنموية

شهد اليمن خلال حكم صالح نهضة تنموية واسعة، تجلت في تطوير البنية التحتية عبر تشييد شبكة طرق حديثة تربط مختلف المدن، فضلاً عن توسعة قطاع التعليم بإنشاء جامعات حكومية وخاصة، أبرزها جامعة صنعاء وجامعة تعز.

وشهد القطاع الصحي تحسناً ملحوظاً مع إنشاء عشرات المستشفيات والمراكز والوحدات الصحية الحكومية، بالإضافة إلى التنقيب والتعدين عن النفط والمعادن، إلى جانب مشاريع الكهرباء والمياه التي استهدفت تحسين الخدمات الأساسية.

ولم تقتصر التنمية على ذلك، بل امتدت إلى تعزيز قطاعات الزراعة والصناعة، مما أسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين، رغم التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها البلاد.

تجربة سياسية رائدة

على الصعيد السياسي، أسس صالح نظام التعددية الحزبية، وفتح المجال أمام حرية الصحافة، ما أتاح ظهور أصوات معارضة وصحف مستقلة وقنوات إعلامية متنوعة.

وشهدت البلاد أيضاً، في عهده تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية، مثلت تجربة ديمقراطية تعددية غير مسبوقة في تاريخ اليمن، وأتاحت منافسة سياسية حقيقية، وهو ما توافق عليه كثير من القيادات الحزبية بأنها كانت خطوة كبيرة نحو تحديث الدولة وتعزيز مشاركة المواطنين في صنع القرار.

انتكاسات وتشرذم

لم تترك القوى الدولية والإقليمية اليمن وشأنه، بل سعت لزعزعة استقراره عبر تحالفات خفية، كان أبرزها أحداث 2011، التي دفعت البلاد إلى أتون الصراعات الداخلية.

ومع ذلك، نجح صالح في تجنيب اليمن انهياراً شاملاً عبر نقل السلطة سلمياً في انتخابات رئاسية جاءت امتداداً لتجربة سياسية أسس لها سابقاً.

لكن التدخلات الخارجية استمرت، مستغلة قوى داخلية لتحقيق أجندتها، إلى أن وقعت نكبة 21 سبتمبر 2014، عندما سقطت الدولة بيد المليشيا الحوثية المسلحة المدعومة من إيران، والأخيرة كانت إحدى القوى الدولية التي عملت منذ عقود على نخر النظام الجمهوري وهدمه، ما أدى إلى دخول اليمن في دوامة صراع دامٍ، تسببت في تدمير البنية التحتية، وانهيار مؤسسات الدولة، وفشل القوى الحاكمة الحالية في تحقيق الاستقرار أو الحفاظ على سيادة القرار الوطني.

اليوم، وفي ظل تعثر المسارات السياسية، تبدو إعادة بناء الرؤية الوطنية الملهمة، كتلك التي أسس لها صالح، تحدياً مصيرياً لمستقبل اليمن، بينما تبقى منجزاته شاهداً على عصر ذهبي في تاريخ البلاد، رغم التباينات السياسية التي تحيط بإرثه.

المصدر: وكالة خبر للأنباء

إقرأ أيضاً:

علاقة متكاملة تمتد إلى مئات السنين.. اليمن حارس غزة عبر التاريخ

يمانيون|

 يقدم الكاتب والبرلماني اللبناني الأستاذ ناصر قنديل معلومات مفصلة في جميع الحلقات التي يعرضها في برنامج “جغراسيا”، والذي يُبث على قناة “المسيرة” مساء كل جمعة.

وخلال الحلقة الماضية، قدم الأستاذ قنديل مقارنة بين “اليمن” و”غزة” عبر التاريخ، موضحاً الأهمية الاستراتيجية لكلا البلدين، مشيراً إلى أن اليمن وقطاع غزة شكّلا عبر التاريخ عقدة وصل بين الشرق الأقصى وأوروبا عبر مدن الساحل المتوسط، حيث كان طريق الحرير القديم يمر باليمن بوصفها عاصمة اقتصادية كبرى، فيما اتخذ من غزة مرفأً تجارياً أساسياً.

ويشير قنديل إلى أنه قبل نحو ألفين وخمسمئة عام، كان اليمن يُعرف بعاصمة “البخور العالمية”، فيما حملت غزة لقب “مرفأ البخور العالمي”، حتى قيل آنذاك: «لا صلاة بلا بخور، ولا بخور بلا اليمن»، وغالباً لا تجارة للبخور من دون غزة. وفي القرن الخامس قبل الميلاد، أشار المؤرخ الإغريقي هيرودوت إلى أن العرب – وكان يقصد اليمنيين – كانوا يبيعون البخور في غزة باعتبارها نهاية الطريق التجاري.

ولم تقتصر أهمية اليمن على تجارة البخور، بل كان المورد الأبرز لعدد كبير من السلع التي وصلت إلى المتوسط عبر غزة، مثل اللبان والعسل والقمح والمنسوجات والبرد والعقيق والذهب والسيوف. ومع الفتح الإسلامي، تحولت هذه العلاقة الاقتصادية المتينة إلى علاقة سياسية، إذ اجتمع اليمن وغزة ضمن كيان سياسي واحد كما يقول الأستاذ قنديل، حيث تعمقت هذه العلاقة تحت العباءة الإسلامية في مختلف العصور، من الأموية والعباسية، مروراً بالفاطمية، وصولاً إلى العثمانية.

يذهب عدد من المؤرخين إلى أن اليمنيين شكّلوا القوة الأساسية في فتح بلاد الشام، ولا سيما غزة. ويذكر المقريزي والبلاذري أن قبيلتي جذام ولخم اليمنيتين كانتا من أكثر القبائل استقراراً في فلسطين بعد الفتح، وتولّى اليمنيون حماية الساحل الفلسطيني، وحراسة الطريق الساحلي وخطوط الإمداد بين مصر وفلسطين، في مواجهة الغارات البيزنطية التي استهدفت عسقلان وغزة.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن نسبة كبيرة من سكان غزة تعود أصولهم إلى اليمن، كما اتخذ بحّارة اليمن من غزة موطناً ثانياً لهم. ومع انطلاق الحملات الصليبية التي امتدت لأكثر من مئتي عام، كانت غزة هدفاً دائماً، ليس فقط لكونها الثغر الأول المدافع عن بيت المقدس، بل أيضاً لأنها مقر القوة اليمنية المرابطة التي حالت دون سيطرة الصليبيين على البحر الأحمر، الذي كان يشكّل هدفاً استراتيجياً لا يقل أهمية لديهم عن السيطرة على القدس.

ومثلما عاد أحفاد الغزاة الصليبيين لإقامة قاعدة لهم في فلسطين، وتعهدوا بحراسة طرق التجارة إلى الهند – كما ورد في تعهدات هرتزل لبريطانيا – جاء «طوفان الأقصى» ليعيد التأكيد على أن هذا الصراع ممتد الجذور؛ فالتاريخ يروي أن الحملات الصليبية على بيت المقدس وصلت إلى البحر الأحمر واصطدمت ببحّارة اليمن، تماماً كما استهدفت تجارة اليمن ومكانته، ليبقى الترابط بين اليمن وغزة حقيقة تاريخية لا يمكن فصلها عن معادلات الصراع والحضور في المنطقة.

 

تكامل حقيقي في الأدوار والوظائف

ويرى الأستاذ قنديل أن “اليمن وغزة” اسمان يشداننا إلى معادلة راهنة، وهي إسناد اليمن لغزة في مواجهة الحرب الإجرامية العدوانية التي تعرضت لها منذ بدء طوفان الأقصى، مشيراً إلى أن الشعب اليمني منذ 7 أكتوبر يعيش على إيقاع واحد لا يتبدل: إسناد غزة.

ويضيف: “كان الشعب اليمني يحضر يومياً في الساحات والميادين، وكانت القوات المسلحة اليمنية في جهوزية دائمة، فيما استمرت الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية في استهداف السفن المتجهة إلى موانئ كيان العدو الإسرائيلي أو العائدة منها في البحر الأحمر، ثم السفن والقطع الحربية الأمريكية التي جاءت لحماية العدو ومحاولة كسر موقف اليمن الداعم لغزة.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتد إلى عمق كيان العدو، مستهدفاً مطار بن غوريون وميناء إيلات “أم الرشراش”، حتى فرضت المعادلة التي ربطت وقف العمليات اليمنية بوقف العدوان على غزة، فكانت الهدنة في غزة هدنة لليمن، وبقيت يد اليمن على الزناد.

ويضيف الأستاذ قنديل أن المعادلة هنا كانت واضحة: “إن عاد الحرب والعدوان على غزة عاد الإسناد اليمني، وإن صمد وقف إطلاق النار صمد معه الموقف اليمني”، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل وُلدت هذه العلاقة اليوم؟ للإجابة، بحسب قنديل، لا بد من العودة إلى الجغرافيا أولاً؛ مؤكداً أن اليمن وغزة جغرافيتان استثنائيتان في التاريخ، فاليمن كان، عبر العصور، العقدة الرئيسية في واحدة من أهم شبكات طريق الحرير، وعلى خلاف الشائع، لم يكن طريق الحرير طريقاً واحداً، بل شبكة طرق مترابطة، وكانت إحداها تنطلق من الصين، وتعبر البحار إلى المحيط الهندي، ثم تصل إلى عُمان، ومنها إلى اليمن.

ويواصل قنديل: “ومن اليمن، كانت الطرق تتفرع في أكثر من اتجاه: مسار بري يمر عبر الحجاز وصولاً إلى الأردن، ثم إلى بلاد الشام، ومسار بحري هو الأهم والأخطر استراتيجياً، ينطلق من سواحل اليمن عبر البحر الأحمر، مروراً بسواحل جدة، وصولاً إلى العقبة، ثم يصعد في فلسطين ليستقر في غزة، ومن غزة يمتد الطريق شمالاً نحو صور وصيدا وجبيل، وصولاً إلى موانئ طرطوس وبانياس، ومنها إلى أوروبا”.

وبموازاة ذلك، يوضح قنديل أن هناك شبكات أخرى لطريق الحرير كانت تمر عبر إيران إلى العراق ثم سوريا، أو من إيران إلى تركيا، غير أن المسار الذي يمر عبر اليمن ظل من أهم وأخطر شرايين التجارة الدولية، إذ شكّل خط العبور الرئيسي للبضائع القادمة من الهند والصين باتجاه أوروبا. وهكذا، كانت غزة هي المرفأ المتوسطي الطبيعي لهذا الطريق، فيما كان اليمن بوابته الجنوبية، لتتكرس علاقة تاريخية عميقة لم تصنعها السياسة وحدها، بل الجغرافيا والاقتصاد والتاريخ، وتعود اليوم لتفرض نفسها في معادلة الصراع مع العدو الإسرائيلي.

ولهذا، لم يكن اليمن وغزة مجرد محطتين على خط واحد، بل شريكين فعليين في شبكة طريق الحرير قبل نحو ألفين وخمسمئة عام، وهذه الشراكة الاقتصادية لم تقتصر على كونها مسارات عبور وخطوط تجارة فحسب، بل قامت على تكامل حقيقي في الأدوار والوظائف.

 

علاقة تاريخية عميقة بين اليمن وغزة

في قراءة تاريخية معمقة، يبين الباحث قنديل أن اليمن كان مصدراً رئيسياً للُّبان والمرّ، وهما مادتان صمغيتان تشبهان الكهرمان في شكلهما، لكنهما طازجتان تُستخرجان مباشرة من قشرة الشجرة وتُحرقان لمنح رائحة عطرية قوية ومميزة، مما جعلهما من أهم أنواع البخور المعتمدة عالمياً في تلك الحقبة. إلى جانب ذلك، كان اليمن مورداً أساسياً لسلع عديدة تحظى باهتمام تجار العالم، ولا سيما تجار بلاد الشام، وفي مقدمتها أنواع العسل اليماني الذي ذاع صيته بجودته، إضافة إلى الذهب والفضة، حيث عُرف الصناع اليمنيون بمهارتهم العالية في الصياغة. كما كان اليمن المصدر الأبرز للعقيق اليماني الذي يحمل اسمه، ويُعد من أجود وأجمل أنواع العقيق في العالم.

هذا التداخل الاقتصادي بين اليمن وشبكات طريق الحرير القادمة من الصين والهند والمتجهة لاحقاً إلى أوروبا – بحسب قنديل – جعل غزة في الغالب محطتها النهائية على الساحل المتوسط، إذ كان المسار البحري ينتهي في العقبة، ومنها تُنقل البضائع براً إلى غزة، حيث تُخزن وتُعاد تصديرها. وهكذا تحولت غزة إلى مستودع رئيسي للتجارة اليمنية، سواء للسلع القادمة مباشرة من اليمن أو لتلك التي تصل عبره من الصين والهند، مما رسّخ علاقة تاريخية عميقة بين اليمن وغزة، تجاوزت حدود الجغرافيا إلى شراكة اقتصادية واستراتيجية متكاملة.

وعن العلاقة السياسية بين اليمن وغزة، يؤكد قنديل أنه مع الفتح الإسلامي انتقلت العلاقة من مستوى التجارة إلى مستوى الشراكة السياسية والعسكرية. فقبل الفتح، لم تتجاوز العلاقة حدود الاقتصاد، لكن مع الفتح الإسلامي دخل اليمن وغزة في إطار واحد، وتحوّل الترابط بينهما إلى فعل تاريخي مؤثر.

ومع انطلاق عملية الفتح الإسلامي لبلاد الشام، كما يقول قنديل، شكّل اليمنيون جزءاً أساسياً من هذا الحدث المفصلي، وكانت غزة نقطة ارتكاز وانطلاق رئيسية. فقد وصل اليمنيون إلى غزة بوصفهم الكتلة الأبرز ضمن القوات الإسلامية التي دخلت فلسطين، إلى جانب قوى أخرى قدمت من الأردن ودمشق، غير أن محور الهجوم الجنوبي كان يغلب عليه الحضور اليمني. ويبين قنديل أن الحديث اليوم عن جهوزية اليمن لتعبئة شبابه لأي معركة برية لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى استعادة تاريخية لدور يمني أصيل، كان فيه اليمن حاضراً في الميدان، مساهماً بشكل مباشر في تحرير بيت المقدس من خلال الرباط والتواجد العسكري في غزة.

 

البحر الأحمر هدف استراتيجي قديم

وعلى المستوى البحثي والعلمي، يشير قنديل إلى أن هناك إجماعاً بين المؤرخين على مكانة اليمن في غزة، ودوره الاقتصادي قبل أكثر من ألفين وخمسمئة عام، ثم دوره السياسي والعسكري بعد القرن السابع الميلادي مع الفتح الإسلامي، مبيناً أن هذه العلاقة العميقة لم تتوقف عند هذا الحد، بل تعاظم حضورها العسكري خلال مرحلة الحروب الصليبية.

وفي تلك الحقبة، ومع ما عُرف بحروب الفرنجة ذات الطابع الاستعماري، يبيّن الباحثون المتخصصون أن الشعارات المعلنة حول الحج وتأمين طرقه لم تكن سوى غطاء، بينما كان الهدف الاستراتيجي الحقيقي هو السيطرة على البحر الأحمر، وهنا برز الدور اليمني من جديد، لأن السيطرة على غزة وساحل فلسطين كانت تعني عملياً قطع الطريق على اليمن، وعلى بحّارته وتجارِه، وعلى خط التجارة الذي شكّل شرياناً حيوياً للعالم الإسلامي، وأحد أبرز أسباب الصراع عبر التاريخ.

هذا ما تكشفه مراسلات بلفور، سواء تلك التي جرت بين وايزمن وبلفور، أو بين هرتزل وبلفور، والتي تؤكد أن الحديث كان يتمحور بشكل أساسي حول خط الهند، ومسار القوات البريطانية نحوها، وطريق التجارة الهندية إلى أوروبا، وحماية قناة السويس باعتبارها الشريان الحيوي للإمبراطورية البريطانية، وهذا ما يؤكد أن الوجود الصهيوني الاستعماري في فلسطين يُعد قاعدة عسكرية متقدمة لحماية هذا الطريق الاستراتيجي.

وعند التعمق في دراسة الحروب الصليبية، يتضح أن الهدف الحقيقي لتلك الحملات لم يكن القدس وحدها، بل البحر الأحمر وتأمين حركة التجارة عبره، وصولاً إلى باب المندب، وفي هذا السياق، يبرز الدور اليمني بوصفه الأكثر شراسة وحسماً في الدفاع عن فلسطين، وعن بيت المقدس، ولا سيما عن غزة، التي شكّلت القاعدة الأهم لحماية القدس ومنع القوى الغازية من الوصول إلى البحر الأحمر.

وتشير الوقائع التاريخية إلى أن معارك بحرية شرسة دارت في البحر الأحمر، شاركت فيها قوات بحرية جندها الألمان والإنجليز، في مواجهة الأساطيل والسفن اليمنية، وانتهت تلك المواجهات بحماية غزة وتحريرها، ثم مهّدت، بعد سنوات، للتقدم باتجاه بيت المقدس واستعادته.

وعند التوقف أمام هذه الوقائع، تتضح دقة هذا المنهج في القراءة والتحليل؛ إذ نلحظ أن المدن اليمنية التي لعبت أدواراً تاريخية محورية في العلاقة مع بلاد الشام، وخصوصاً غزة، كانت جزءاً من منظومة استراتيجية متكاملة: شبوة كمركز عالمي لتجارة اللبان، مأرب بوصفها مركز القرار السياسي، نجران كأهم عقدة شمالية، ثم يثرب وتيماء والعلا كنقاط ارتكاز تاريخية، وبصرى الشام كمركز نبطي متقدم، وصولاً إلى غزة التي شكّلت المرفأ الدولي الأكبر للتجارة اليمنية، وعقدة الربط الحاسمة بين اليمن وبلاد الشام وأوروبا.

 

اليمن قاعدة ارتكاز وخط عبور وحماية

وعند الانتقال إلى البعد العسكري، تتضح صورة لا تقل أهمية عن البعد الاقتصادي، بل تكمله وتفسره؛ فطريق الحرير، الذي حرص اليمنيون تاريخياً على حمايته وتأمينه، كان هدفاً مباشراً للحملات الصليبية التي سعت إلى قطعه والسيطرة على التجارة الممتدة من الهند والصين باتجاه أوروبا. وبذلك، لم تكن الحروب الصليبية سوى صراع مفتوح، بصيغ متعددة، بين الفرنجة واليمنيين على طرق التجارة بين الهند والصين من جهة، وبين أوروبا من جهة أخرى.

وكان اليمن يشكّل قاعدة ارتكاز وخط عبور وحماية من خلال البحر الأحمر، ولهذا جاء الفرنجة لمحاولة فرض سيطرتهم على هذه الطرق وتأمين خطوط عبورهم وحماية مصالحهم الاستعمارية، ولكنهم فشلوا.

 

غزة مركزاً تجارياً لليمنيين

ويؤكد قنديل أن غزة لم تكن مجرد محطة عبور، بل كانت مركزاً جمركياً دولياً وسوقاً مفتوحة للبخور واللبان، وحاضنة للتجار اليمنيين الذين اتخذ كثير منهم غزة مقراً دائماً إلى جانب مساكنهم في اليمن؛ فكان للتاجر بيت في غزة وبيت في اليمن. ومن هنا، تحتفظ عائلات غزية كثيرة بأنساب يمنية حميرية أو أزدية تعود إلى تلك المرحلة. ويشير إلى أنه بعد انهيار سد مأرب، شهدت بلاد الشام هجرة واسعة لقبائل يمنية بارزة مثل جذام، ولخم، وكلب، والأزد، وحمير، وكان لهم حضور كبير في فلسطين خلال القرون الأولى للإسلام، ولعبوا دورًا محوريًا في الفتح الإسلامي.

ومن الشواهد التاريخية التي تؤكد أن غزة كانت مركزاً تجارياً لليمنيين، حديث المؤرخ اليوناني هيرودوت، الذي قال إن اليمنيين كانوا يبيعون البخور في غزة بوصفها نهاية الطريق، بينما وصف سترابون غزة بأنها من أغنى موانئ الإمبراطورية الرومانية بفضل التجارة اليمنية. وتؤكد ذلك أيضاً النقوش النبطية التي تشير إلى القوافل القادمة من سبأ وحضرموت والمتجهة إلى غزة، ومعابد القدس، وصور، وصيدا، ومعابد الفراعنة، والمعابد اليونانية والرومانية، وجميعها تحمل بصمة يمنية واضحة، حيث كان البخور اليماني جزءاً أساسياً من طقوس العبادة في العالم القديم.

ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة: لا صلاة بلا بخور، ولا بخور بلا يمن، ولا تجارة للبخور بلا غزة. وهكذا ارتبطت غزة واليمن اقتصادياً وعسكرياً وروحياً في عمق التاريخ، بوصفهما عقدتين أساسيتين في شبكة العالم القديم والجديد.

ولا تقل أهمية البعد الاقتصادي عن البعد العسكري والسياسي للفتح، فقد حقق اليمنيون منذ القدم تطوراً اقتصادياً ملحوظاً، حيث أصبح اليمن مصدراً رئيسياً لتصدير العسل بأنواعه مثل السدر والسمر والكابور، الذي كان مطلوباً في مصر القديمة. كما يصدر اليمن التوابل كالزنجبيل والقرفة والفلفل والهيل، والمعادن النفيسة كالذهب والفضة، والعقيق اليماني والمرجان واللؤلؤ، إضافة إلى الأسلحة والحدادة مثل السيوف اليمنية والرماح ونصال الحديد التي وجدت طريقها إلى الأسواق الشامية، إلى جانب الأقمشة اليمنية المشهورة من حضرموت وشبوة، وقد ذكرها المؤرخون المسلمون، إلى جانب الحرير والغزل العراقي، والبضائع البحرية والعاج من شرق أفريقيا، وجلود الحيوانات من الهند والصين، وأخشاب عطرية، وأحجار كريمة، ونحاس وقصدير.

وبحسب قنديل، كان اليمن مركز الصناعة والتجارة، فيما كانت غزة المرفأ الرئيسي لهذه التجارة. وبذلك امتلك اليمن ثلاث ثروات طبيعية كبرى: البخور، واللبان، والذهب، وثلاثة طرق رئيسية: البحر الأحمر، والطرق البرية، وطرق الخليج، وثلاث حضارات كبرى: سبأ، قتبان، وحضرموت، إضافة إلى ثلاث بوابات عالمية للتجارة: غزة، الإسكندرية، ومدن لبنان الساحلية. ومن هذا المنظور، كان الاقتصاد القديم يعتمد اعتمادًا أساسيًا على اليمن، وجعل غزة المرفأ الأهم على البحر المتوسط، إذ كانت نقطة انطلاق التجارة اليمنية العالمية.

 

حماية مصالح العالم الإسلامي والتجارة العالمية

وعندما نعود إلى الحروب الصليبية، نجد أنها حملت وقائع ومعاني ونتائج مهمة، حيث شكلت صراعًا مفتوحًا على السيطرة والتجارة والطرق الحيوية، وكشفت الدور الاستراتيجي لليمن وغزة في حماية مصالح العالم الإسلامي والتجارة العالمية، وأكدت أن غزة لم تكن مجرد محطة عبور، بل كانت قلب شبكة اقتصادية وسياسية وعسكرية مترابطة عبر القرون.

لقد كانت غزة المرفأ الأهم لليمن على البحر المتوسط، إذ لم تكن مجرد محطة تجارية، بل كانت قلب الاقتصاد اليمني العالمي، بينما بقيت مدن مثل بيروت مهمة، لكنها لم تكن جزءًا من شبكة اليمن الاقتصادية بنفس الأهمية. ومع الحروب الصليبية، يتضح الدور الحيوي لليمن وغزة؛ فقد اعتمدت المرابطة اليمنية في الثغور الأمامية، خصوصًا في بيت المقدس، على القوات اليمنية بشكل أساسي، مع مشاركة محدودة من الحجاز ومصر، لكن الثقل كان دائمًا يمنيًا.

وخلال الحروب الصليبية، لعب اليمن دورًا حاسمًا في حماية البحر الأحمر ومنع الصليبيين من السيطرة عليه؛ فالحملة الصليبية الأولى بقيادة ريلاندو ليشاتيوم، الذي يعد أخطر شخصية صليبية لا تُذكر كثيرًا في الكتب، حاولت اختراق البحر الأحمر والوصول إلى مكة، إلا أن اليمنيين تصدوا لها بقوة، مستخدمين خبرتهم البحرية في عدن وقنا والمخا وظفار، ولم يمنع أسطولهم اختراق البحر الأحمر فحسب، بل دمّر السفن الصليبية وأسر قادتها، محققًا حماية استراتيجية لمصر والشام.

وفي المشروع الصليبي الثاني للسيطرة على دمياط بين عامي 1218 و1220م، كان البحر الأحمر تحت سيطرة اليمنيين الذين حموه بشكل فعال، مما منع الصليبيين من خنق الاقتصاد المصري وقطع طرق التجارة إلى الهند. وكان البحارة اليمنيون الأكثر خبرة في المنطقة، وبفضل وجودهم حافظ اليمن على الشام ومصر وأمّن الممرات البحرية الحيوية.

تاريخيًا، كان البحر الأحمر هو العنوان الأبرز في معارك المواجهة مع غزوات الفرنجة، وكان اليمن القاعدة الاقتصادية والبحرية، بينما كانت غزة المرفأ والحاضرة البرية التي جمعت بين التجارة والحماية العسكرية، مما يؤكد عمق الشراكة التاريخية بين اليمن وغزة، وعراقة العلاقة التي شكلت خط الدفاع الاقتصادي والسياسي للمنطقة عبر القرون.

#إسناد_اليمنيين_لغزة#اليمن_حارس_غزة_فلسطين#اليمن_غزة#برنامج_جغراسيا#غزة_مركز_تجاري_لليمن#ناصر_قنديل

مقالات مشابهة

  • حقوق الإنسان كما تُمارس في عُمان
  • “فرج” و”المنفي” يبحثان مستجدات الأوضاع السياسية وتعزيز التنسيق الوطني
  • علاقة متكاملة تمتد إلى مئات السنين.. اليمن حارس غزة عبر التاريخ
  • عمران .. فعاليتان باليوم العالمي للمرأة المسلمة – ذكرى ميلاد السيدة الزهراء
  • وزارة العدل وحقوق الإنسان تحيي ذكرى ميلاد السيدة فاطمة الزهراء
  • زيدان: اختيار الرئاسات الثلاثة بيد القوى السياسية العراقية
  • أحمد علي عبدالله صالح يكسر الصمت ويطلق نداء هام لكل القوى السياسية في اليمن
  • عيدروس الزبيدي وطارق صالح يرفعان شعار توحيد المعركة
  • "دروب مصر ".. مبادرة جديدة لإعادة قراءة الجمالية في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ
  • دروب مصر.. مبادرة جديدة لإعادة قراءة الجمالية في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ