فيصل بن حميد الحجري **

 

 

في عالم تتسابق فيه الدول على إعادة تعريف هويتها الاقتصادية، تُقدّم سلطنة عمان مثالًا حيَّا على الرؤية الهادئة والمتأنية نحو التنمية، رؤية تستند إلى الهوية، والبيئة، والإنسان، وتجد تعبيرها العملي في جهود وزارة التراث والسياحة، بالتكامل مع مكاتب المحافظين، والمجتمع المحلي.

ومن بين النماذج الناضجة التي يمكن أن تُلهم الكثير من الولايات الأخرى، تبرز ولاية بدية بمحافظة شمال الشرقية، كحالة تنموية متفردة، تتحوّل فيها الصحراء إلى فضاء للاستثمار، والمجتمع إلى شريك حقيقي، والسياحة إلى أداة لصياغة مستقبل شامل.

وحين أطلقت وزارة التراث والسياحة دراسة تطوير رمال الشرقية، لم يكن الهدف مجرد تخطيط عمراني أو استثمار سياحي، بل كان المشروع بمثابة إعادة قراءة للرمال كعنصر اقتصادي وإنساني، قابل للتنمية دون أن يفقد هويته. الدعوة التي وجهتها الوزارة لمختلف الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المحلي للمشاركة في هذه الدراسة، كانت رسالة واضحة: أن السياحة في عُمان لا تُدار من برج عاجي، بل تُبنى من تحت، على أرض الواقع، بالشراكة لا بالتوجيه.

في بدية، المخيمات ليست مجرد منشآت؛ بل تجارب تُعاش، وسرديات تُروى. الضيافة هنا تبدأ من الخيمة ولا تنتهي عند الفنجان؛ بل تمتد إلى تجربة الرمال، ودفء المجالس، ورحلات المغامرة، والاندماج مع البيئة المحلية.

ورغم أن البيانات الرسمية تشير إلى وجود أكثر من 700 غرفة في المخيمات السياحية المرخصة في السلطنة، فإنَّ بدية تُعد من أكثر الولايات تفاعلًا مع هذا النمط من السياحة، من حيث حجم النشاط ونوعية التجربة، وتكاملها مع المجتمع. وهذه المُخيمات باتت جزءًا من الدورة الاقتصادية المحلية؛ حيث تُشغّل أبناء المنطقة، وتدعم الحرف، وتنقل الزائر من الاستهلاك إلى الانغماس في الثقافة العُمانية.

ولم تكن الفعاليات التي احتضنتها بدية مجرد محطات سياحية، بل أصبحت ركائز رئيسية لحراك ثقافي وتنموي مُستدام، يقوده تكامل بين الجهات الحكومية، والكيانات الأهلية، والمجتمع المحلي، وأذكر منها: مهرجان المغامرات الصحراوية، بتنظيم وزارة التراث والسياحة، وبالتعاون مع مكتب سعادة محافظ شمال الشرقية، وبمشاركة ميدانية من نادي بدية للسيارات، شكّل منصة ترويجية حقيقية لأنشطة السياحة الصحراوية، وفتح الباب لتفاعل مباشر بين الزوار والبيئة المحلية. وكذلك كرنفال بدية السياحي، بمبادرة وتنظيم مباشر من نادي بدية للسيارات، وبإشراف ودعم من مكتب سعادة المحافظ، قدم نموذجًا ناضجًا لمفهوم "السياحة المجتمعية"، حيث تصنع الفعالية بأيدٍ محلية وتنظم وفق أطر رسمية متكاملة.

أما ماراثون عُمان الصحراوي، فقد كان ثمرة مبادرة فردية من أحد أبناء المجتمع، وتحوّل بدعم كريم من الوزارة والمكتب إلى حدث دولي يستقطب رياضيين من أكثر من 30 دولة، ويضع بدية على خارطة المغامرات العالمية.

وفي السنوات الأخيرة، أحدثت وزارة التراث والسياحة تطورًا ملحوظًا في تسهيل إجراءات التراخيص، ورقمنة الخدمات، وتوفير الأدلة الإرشادية، مما أتاح لرواد الأعمال وأصحاب المشاريع الناشئة الدخول إلى القطاع بثقة ووضوح. ولم يكن لهذا الأثر أن يظهر لولا توفر بيئة مؤسسية مرنة، تستمع وتُراجع وتتطور، وهو ما نشهده فعليًا في تجربة ولاية بدية، حيث بات المجتمع يشعر أنه ليس مجرد مستفيد، بل شريك ومُوجّه في عملية التنمية السياحية.

ولأنَّ التنمية السياحية المُستدامة لا تُبنى بجهود جهة واحدة؛ بل تتطلب تكامل الأدوار بين المؤسسات والمُجتمع، تبرز أهمية تفعيل المبادرات المجتمعية التعاونية التي تساهم في التنسيق بين الجهات، وتبادل التجارب، وتحقيق استجابة مرنة للتحديات.

وفي هذا السياق، تؤدي اللجنة الاقتصادية المشتركة بين المجلس البلدي وغرفة تجارة وصناعة عُمان بمحافظة شمال الشرقية دورًا محوريًا في تبني ودعم عدد من الفعاليات والأنشطة السياحية والتنموية، إلى جانب تمكين الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز بيئة العمل المحلي برؤية تنموية موحدة.

إننا لا نقترح إنشاء كيانات جديدة؛ بل ندعو إلى تنشيط هذه المبادرات تحت المظلة القانونية والتنظيمية القائمة، لضمان أن تظل المشاريع السياحية انعكاسًا حقيقيًا للهوية المحلية، واستجابة لتطلعات المجتمع والمستثمر معًا.

إنَّ التجربة التي تشهدها ولاية بدية ليست مجرد مشروع سياحي محلي؛ بل نموذج وطني متكامل، يتقاطع فيه التوجيه الرسمي، مع المبادرات الفردية، والجهود المجتمعية، في لوحة تنموية عنوانها: التكامل لا التوازي، والمشاركة لا المركزية.

كل التقدير والامتنان لكل من ساهم في هذا المشهد، وفي مقدمتهم وزارة التراث والسياحة، ومكتب سعادة محافظ شمال الشرقية، واللجنة الاقتصادية بالمحافظة، ولكل مواطن يرى أن المستقبل لا يُستورَد؛ بل يُبنى من أرضه، وبأيدي أهله، وتحت راية رؤيتنا الوطنية.

** رئيس نادي بدية للسيارات

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

وضع حجر الأساس لمجمع سياحي متكامل في صلالة باستثمارات 80 مليون ريال

البوسعيدي: المشروع يُسهم في توفير فرص العمل وتعزيز المحتوى المحلي

صلالة- العُمانية

احتفلت وزارة التراث والسياحة، الإثنين، بوضع حجر الأساس لمشروع إنشاء مجمع سياحي متكامل في منطقة جنوف بولاية صلالة، بتكلفة استثمارية تُقدَّر بـ 80 مليون ريال عُماني ضمن جهود تطوير المقومات السياحية في محافظة ظفار.

ويُعد المشروع من المشروعات السياحية النوعية، لما يتمتع به من موقع متميز ومكونات متكاملة في مجالي السياحة والضيافة، وينفذ بالشراكة مع شركة الوثبة للضيافة بموجب عقد انتفاع أُبرم في فبراير 2025.

وتشمل المرحلة الأولى من المشروع، التي من المقرر تنفيذها خلال 30 شهرًا، إنشاء فندق من فئة الخمس نجوم يضم 124 وحدة سكنية فندقية، إضافة إلى مرسى بحري متكامل يضم مطاعم ومقاهي، وناديًا شاطئيًّا، وناديًا صحيًّا، بالإضافة إلى بوابة رئيسة للمجمع.

وأكد سعادةُ عزان بن قاسم البوسعيدي وكيل وزارة التراث والسياحة للسياحة، أهمية المشروع في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، فضلًا عن تعزيز المحتوى المحلي، وتوفير برامج تدريب وتأهيل للمواطنين العُمانيين في مجالات السياحة والضيافة.

وأضاف سعادتُه أنَّ المشروع يُمثل إضافة نوعية لجهود تطوير الوجهات السياحية في سلطنة عُمان، لا سيما في محافظة ظفار التي تزخر بتنوع طبيعي وبيئي، مشيرًا إلى أنَّ هذه المشروعات تُجسّد توجهات الحكومة نحو تعزيز التنويع الاقتصادي عبر الاستثمار في القطاع السياحي.

 

من جانبه، قال خالد بن عبد الله العبري مدير عام المديرية العامة للتراث والسياحة بمحافظة ظفار خلال كلمته إنّ المشروع السياحي الجديد يُعد من أبرز المشروعات في المحافظة من حيث حجم الاستثمار وتنوع مكوناته مبينًا أن المرحلة الأولى من المشروع ستشمل فندقًا من فئة خمس نجوم ومرسى لليخوت يُعد من الأكبر في سلطنة عُمان، إضافة إلى واجهة شاطئية متكاملة، بما يسهم في تعزيز البنية السياحية للمحافظة.

وأشار إلى الجهود التي بذلتها وزارة التراث والسياحة خلال السنوات الماضية لترويج محافظة ظفار سياحيًّا، من خلال فتح أسواق سياحية جديدة وخطوط طيران مباشرة، ما أسهم في تحقيق نموّ في عدد الزوار بنسبة 9 بالمائة في موسم الخريف و18 بالمائة في الموسم الشتوي لعام 2024 مقارنة بالعام السابق.

واشتمل برنامج الحفل على عرض مرئي ترويجي عن محافظة ظفار، وآخر يستعرض مكونات المشروع، تلا ذلك قيام سعادة وكيل وزارة التراث والسياحة للسياحة بوضع حجر الأساس للمشروع.

يشار إلى أن المشروع يمثل إضافة نوعيّة للقطاع السياحي في سلطنة عُمان، من خلال ما يوفره من مرافق متكاملة وفرص استثمارية واعدة، إلى جانب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ما يُسهم في تنشيط الحركة السياحية بمحافظة ظفار.

 

 

مقالات مشابهة

  • وزير الإسكان يتابع مشروع المماشى السياحية بمدينة الشيخ زايد
  • أمير الشرقية: الأحساء مؤهلة لتكون من أبرز الوجهات السياحية بالمملكة
  • بلديةُ ظفار تدعم أكثر من 300 مشروع للأسر المنتجة في سوق اللبان بشاطئ الحافة
  • وزارة السياحة ومصلحة الآثار تبحثان سبل حماية وصون التراث الثقافي
  • وضع حجر الأساس لمجمع سياحي متكامل في صلالة باستثمارات 80 مليون ريال
  • "التراث والسياحة" تفتتح ركن النيازك بفندق ماندارين أورينتال
  • مشروع هارب وحرائق العراق.. حقائق علمية أم مجرد نظريات مؤامرة؟
  • وزارةُ التراث والسّياحة تفتتح ركن النيازك بفندق ماندارين أورينتال
  • مجمع سياحي متكامل بولاية صلالة بقيمة 80 مليون ريال
  • "التراث والسياحة" تفتتح ركن النيازك في مسقط