الخرطوم: الوهج الجاسر
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
(وبمواصلة الحرب حتى تحرير الخرطوم غير عابئ بالمجتمع الدولي لربما استخار البرهان، في مطلبه بـ”الملكية الوطنية للحلول”، بيتاً من قصيدة الصاغ محمود أبو بكر “صه يا كنار” يقول:
فإذا تبدد شمل قومك فاجمعن وإذا أبوا فاضرب بعزمة مفرد).
قال القس ديزموند توتو بعد أن صوت في سن الـ70 للمرة الأولى في الانتخابات التي جرت عام 1994 بعد نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا “كأني أقع في الحب من جديد”.
وكان تحرير الخرطوم بمثابة وقوع كثير من السودانيين في الحب من جديد. كان وقوعاً مما قد يسميه الشاعر محمد المكي إبراهيم صهيلاً نحو “الوهج الجاسر”.
كان الفريق ركن عبدالفتاح البرهان شدد يوماً على ما أسماه “الملكية الوطنية للحلول” لحرب السودان. وجاء تحرير الخرطوم، في رمزها القصر الجمهوري، تطبيقاً حرفياً لهذه الملكية للحلول. فلم يكف لا المجتمع الدولي ولا دوائر سودانية مؤثرة عن التبرع بسيناريوهات حلول بدا من جميعها أنه لم يتفق لها تحديد من في “حرب الجنرالين” على ضفة الحرب العادلة. وكان ما باعد بينهما وبين الصدع بمن هو على محجة الحرب البيضاء، الهزائم النكراء التي تجرعتها القوات المسلحة لأكثر من عام ونصف العام. وبدا منها هزالها حتى خرج سياسي مثل بكري الجاك في قيادة “تنسيقية القوى التقدمية والديمقراطية والمدنية”، ليطلب منها أن تتصالح مع هزائمها وتسلم كما فعلت اليابان في الحرب العالمية الثانية، ناهيك عمن حثوا القوات المسلحة على التفاوض، ورأوا في مواصلتها الحرب رعونة لم تتحسب لخسائرها الفادحة على البلاد والعباد، بل تطابقت عند كثير منهم الشفقة بالجيش واستسلامه بدفره لأية سانحة مائدة مفاوضات مما تصادف لأنه من دون ذلك سيذهب أدراج الرياح. فكان حلهم الوطني له أن يفاوض بلا قيد ولا شرط إذا أراد أن يكتب الله له حياة جديدة.
لما لم يتفق للمجتمع الدولي الطرف الذي يملك الشرعية في الحرب الدائرة ساوى بين عنف الطرفين مساواة اعتقل بها نفسه من دون تنفيذ قرارات اتخذها لوقف تصعيد الحرب والانتهاكات ضد المدنيين. ووقف التصعيد هو جهد المقل ممن أراد احتواء تفاقم الحرب. فلم تمتثل “الدعم السريع” لنداءات المجتمع الدولي بالكف عن تصعيد الحرب في الفاشر، فما تحرك مجلس الأمن قيد أنملة لتنفيذ قراره 2736 (13 يونيو 2024) الذي دعا فيه “الدعم السريع” إلى وقف حصار المدينة وخفض التصعيد وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة المدنيين وأمنهم. ومما قاله مندوب بريطانيا في المجلس إن “الهجوم على الفاشر سيكون كارثياً لمليون ونصف المليون ممن نزحوا إليها فارين بجلدهم”، وقال مندوب سويسرا إن القرار يبعث برسالة لا لبس فيها إلى “الدعم السريع” بإنهاء حصارها للفاشر. وكانت أميركا أول من حذر من الهجوم على الفاشر على لسان مندوبتها الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، فناشدت “حميدتي” والجيش والقوى المتحالفة معه ألا يصعدوا الحرب. وقالت في الـ24 من أبريل (نيسان) عام 2024 إنها منزعجة من أخبار الهجوم الوشيك على الفاشر من قوات “الدعم السريع”، وخيّرت واشنطن “الدعم السريع” بين أمرين هما أن يواصل ما هو فيه فيكبد الناس الزعازع في مجازفة بتفكك دولتهم، أو وقف الهجوم، ودعت إلى وقف إطلاق النار على الفاشر التي بدأ “الدعم السريع” بمهاجمتها منذ أبريل عام 2024، رأفة بملايين الخلق الأبرياء. ووصفت توماس غرينفيلد الفاشر بأنها على شفا حفرة من مجزرة، وطلبت من “الدعم السريع” رفع الحصار عنها أو أن العواقب ستكون وخيمة على المسؤولين عن الهجوم على الفاشر. ولم يمتثل “الدعم السريع” لهذا الإلحاح الدولي إلى يومنا وظل بمنجاة من العقوبة، سوى العفو من مثل وضع أميركا بعض قادته حول الفاشر في القائمة السوداء.
“الملكية الوطنية للحلول”
ولعل ما زكّى طريق “الملكية الوطنية للحلول” أن لا المجتمع الدولي كما رأينا ولا الجماعات السودانية المنادية بوقف الحرب أنجزت لعامين من الصراع ما وعدت بأي صورة من الصور. فضرب تنسيقية “تقدم” انقسام منذ نحو شهرين قاده من سقموا حيادها في الحرب، مما هو موضع شك كثير من الناس مع ذلك، ليعقدوا حلفاً صريحاً مع “الدعم السريع” خلال مؤتمر بنيروبي في فبراير الماضي. وأطلق عبدالله حمدوك، زعيم الجماعة التي بقيت من “تقدم” وتحمل اسم “صمود”، دعوة إلى وقف الحرب خلال شهر رمضان بعقد اجتماع مشترك بين مجلس الأمن الدولي ومجلس السلم والأمن الأفريقي بحضور قائدي الجيش و”الدعم السريع” والقوى المدنية والمسلحة، للاتفاق على هدنة إنسانية ووقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار. وهي عنده خطوة أولى تقود إلى “ترتيبات دستورية انتقالية تنهض على توافق عريض واستعادة مسار ثورة ديسمبر في الانتقال المدني الديمقراطي. وبدا النداء كالاستغاثة أكثر منه إلى موقف مؤسسة تملك أوراقاً جدية لحل المشكلة.
فهي لا تزال جماعة ناحلة كما يوم تأسست لم تتعزز مؤسسياً بما التزمت به لتكسب ثقلاً يرجح ما تنادي به في الميدان السياسي. فلم يقم فيها فريق العمل الإنساني الذي التزمت به في أبريل 2024 لينظم زيارات لمواقع اللاجئين السودانيين حيث هم، للوقوف على حالهم وبذل ما في الوسع مع المنظمات العالمية لإسعافهم. ولم تسفر الخطة إلا عن زيارة وحيدة لمعسكر لاجئين في إثيوبيا عند نهاية أحد اجتماعاتهم ولم تتكرر كأنها “زورة في الظلام”، لو صحت العبارة. وتفاءل من قرأ عن عقد “تقدم” عزمها التنسيق مع المنظمات التعليمية الدولية لمعالجة مشكلة فقدان التعليم للطلاب بسبب الحرب، ولم يسفر عن ذلك شيء أيضاً. ولم يمنعها ذلك من استنكار عقد حكومة “بورتسودان” لامتحانات الشهادة الثانوية في فبراير الماضي واتهمتها بأنها إنما تمهد بذلك الامتحان الجزئي لشق البلاد بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة “الدعم السريع” حيث لم يجلس الطلاب للامتحان. واعتراض “تقدم” على خطوة الحكومة في إجراء الامتحان من جانب واحد لا غبار عليها بالطبع لو أنجز حر ما وعد، واستدرك كما رتب للتعليم قبل أن ينشق القمر أو الوطن.
ضعف وعناد
ولما لم تجدها القوات المسلحة من هذا ولا ذاك “ركبت رأس”، وهي العبارة السودانية في العناد الأشم، وتمسكت بمواصلة الحرب حتى تضع أوزارها قتالاً وسلماً لمصلحتها، وهذا قريب من سيناريو رواندا حين لم يجد الـ”توتسي”، ممثلين بـ”الجبهة الوطنية الرواندية”، مفراً من “الحل بالبل” بإزاء عالم ربّع يديه والحكومة التي غلب فيها شعب الـ”هوتو”، تنقض عليهم لاستئصال شأفتهم. وكان الصراع المسلح بدأ بين حكومة رواندا وجبهة رواندا الشعبية عام 1990 وانتهى بصلح أروشا (1993) بفضل المجتمع الدولي الذي رعاه ببعثة سلام، بعثة عون الأمم المتحدة لرواندا التي غلب فيها الجنود البلجيكيون. ولم يتوقف الاحتكاك بين الأطراف مع ذلك وتلقت البعثة عام 1994 بلاغاً قاطعاً بأن الحكومة كانت تدبر للقضاء على جنس الـ”توتسي” في البلاد. ونقلت البعثة البلاغ إلى الأمم المتحدة فردت على القائم بالبعثة “أنت حمامة سلام ولست محارباً”، أي إن مهمة البعثة هي لتأمين السلام بين الأطراف لا الدخول في حرب ضد أي طرف.
ووقع الاستئصال العرقي المعروف في حق الـ”توتسي” لأشهر ثلاثة والعالم مغلول اليد، إذ كانت أميركا خرجت لتوها جريحة من الصومال بعد سحل جنودها الذين كانوا في مهمة سلمية، فسقمت من التدخل في بلد أفريقي آخر، بخاصة بعد توالي فشل بعثات الأمم المتحدة للسلام في البوسنة والصومال وهايتي. وكانت فرنسا التي مدت حكومة رواندا بالسلاح، متعاطفة معها لأنها كانت تخشى أن يسود الـ”توتسي” على رواندا وهم من تحولوا إلى “أنغلوفون” لطول لجوئهم في أوغندا. ولم تقوَ بعثة الأمم المتحدة على فعل شيء حيال المأساة سوى ترحيل الموظفين الدوليين وأمثالهم وقد نقصت عدداً بعد انسحاب القوة البلجيكية الغالبة فيها. ولما بخل العالم بنجدة الـ”توتسي”، خرجت جبهتهم المسلحة وحاربت الحكومة وأسقطت العاصمة كيغالي في الـ15 من يوليو (تموز) وتوقف الـ”جنوسايد” (الإبادة). ووضعت الجبهة المجتمع الدولي أمام أمر دولتها واقعاً بدا منه وكأنها أراحته من وجع الدماغ. وغشي العالم حس بالذنب لأنهم لم ينجدوا الـ”توتسي” تتربح منه رواندا إلى يوم الناس هذا.
“المتغطي بالمجتمع الدولي عريان”
وصحت بتحرير الخرطوم عبارة سودانية محورة “المتغطي بالمجتمع الدولي عريان”. فبدت القوى الوطنية في أفريقيا وأمثالها خلواً من الحلول لأزماتها سياسية كانت أو اقتصادية أو حتى صحية كما ظهر بعد حل الرئيس دونالد ترمب للوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وكانت أولى الشكاوى عن الإجراء الأميركي تضعضع الأوضاع الصحية في هذه البلاد. بل بدا من سيناريو رواندا أن العالم ربما أسعده أن تنزاح عن كاهله أزمات الأمم مثلنا المرزوءة ببناء الدولة الوطنية الحديثة. ويستغرب المرء مثلاً لماذا كان المهاجرون صداعاً أوروبياً وأميركياً وليس أفريقياً بأي حال من الأحوال.
وبمواصلة الحرب حتى تحرير الخرطوم غير عابئ بالمجتمع الدولي لربما استخار البرهان، في مطلبه بـ”الملكية الوطنية للحلول”، بيتاً من قصيدة الصاغ محمود أبو بكر “صه يا كنار” يقول:
فإذا تبدد شمل قومك فاجمعن وإذا أبوا فاضرب بعزمة مفرد
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: بالمجتمع الدولی المجتمع الدولی الأمم المتحدة تحریر الخرطوم الدعم السریع على الفاشر
إقرأ أيضاً:
«الجيش السوداني»: قوات الدعم السريع تستهدف منشآت في الأبيض
بحسب بيان صادر عن القوات المسلحة السودانية، فإن الهجوم أدى إلى أضرار في المستشفى التعليمي، مستشفى الضمان، وعدد من الأحياء السكنية وبعض مرافق الخدمات، دون تسجيل أي خسائر في الأرواح.
التغيير: الأبيض
أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، الأحد، أن قوات الدعم السريع استهدفت مساء أمس عدداً من المنشآت المدنية في مدينة الأبيض باستخدام مسيرات انتحارية.
وأوضحت القوات المسلحة أن الهجوم أدى إلى أضرار في المستشفى التعليمي ومستشفى الضمان وعدد من الأحياء السكنية وبعض مرافق الخدمات، دون تسجيل أي خسائر في الأرواح.
وأكد الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، العميد الركن عاصم عوض عبدالوهاب، الأحد، أن ما جرى ليس انتصاراً للقوات المهاجمة، بل يمثل هزيمة أخلاقية، ويعكس استمرارها في تحدي القانون الدولي الإنساني وإلحاق الأذى بالمواطنين الأبرياء.
وشدد البيان على أن الاستهداف المدني يأتي في إطار مواصلة قوات الدعم السريع انتهاكاتها للقانون الدولي وأعراف الحرب، مؤكداً التزام الجيش السوداني بحماية المنشآت الحيوية والمواطنين.
حماية المدنيينووصفت الحكومة السودانية الأحد، الهجوم بأنه عمل جبان يعكس الإفلاس الأخلاقي والعسكري لقوات الدعم السريع، مؤكدة أن الهجوم يمثل محاولة للتغطية على هزائمها المتلاحقة في الميدان.
وأكدت الحكومة استمرار هذه القوات في تعريض حياة المدنيين للخطر وتخريب البنية التحتية والخدمات الأساسية، مشددة على التزامها بحماية المواطنين، والتصدي للعدوان، والعمل على استعادة الأمن والاستقرار وترسيخ دولة القانون.
وتعيش مدينة الأبيض ظروفًا صعبة في ظل استمرار العمليات العسكرية وتدهور الأوضاع المعيشية، في وقت يطالب فيه المواطنون بتدخل عاجل لرفع المعاناة وتوفير الاحتياجات الأساسية.
ومع اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى، شهدت المدينة مواجهات عسكرية دامية بين طرفي الصراع، مما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين جراء القصف العشوائي المتبادل.
ومنذ منتصف أبريل 2023، تحاول قوات الدعم السريع فرض سيطرتها الكاملة على الأبيض، فيما يواصل الجيش السوداني حماية قيادة الفرقة الخامسة مشاة والمواقع الاستراتيجية في المنطقة.
وتتمتع المدينة بموقع استراتيجي في غرب البلاد، حيث تضم أكبر سوق لمحصول الصمغ العربي على مستوى العالم، إلى جانب أسواق أخرى للمحاصيل والماشية، كما أنها ترتبط بطريق الصادرات الذي يربط بين ولايات غرب السودان.
ورصدت تقارير حقوقية ومحلية متعددة قيام طرفي النزاع بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، شملت القتل المستهدف والنهب والحرق القسري للمنازل والأسواق، وعمليات خطف واستخدام التجويع كسلاح حرب، وفرض حصار على المدن والمناطق المكتظة بالسكان.
كما سجلت عمليات قصف عشوائي للمناطق المدنية، بما في ذلك المدارس والأسواق والمستشفيات، ما أسفر عن سقوط شهداء وجرحى من المدنيين، وهو ما يعد انتهاكًا صريحًا للقانون الإنساني الدولي.
الوسومالأعيان المدنية حرب الجيش والدعم السريع مدينة الأبيض