يقول الساسة "إن الدولة هي أرض لها حدود، يعيش عليها شعب"، لكن سدنة مصر يرونها - كما كانت منذ فجر التاريخ، وكما ستظل حتى آخر الزمان - أرضا مقدسة، يملؤها قلب نابض بالحياة، وتسكنها روح تضئ لكل أبنائها.

وإلى قلب مصر النابض، وإلى روح شعبها الوضاءة، تظل فرنسا، ويظل الفرنسيون يحملون شغفا عميقا بزيارة مصر؛ أرضا وشعبا، قلبا وروحا.

وهناك، في قلب العاصمة، في حي الجمالية العتيق، وتحديدا في درة الجمالية، خان الخليلي، جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زائرا، برفقة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أحب مصر، وتشرب عشقها من نبض روحها.

وكان السيسي وماكرون يسيران جنبا إلى جنب وسط المصريين البسطاء، ولكن الحضارة كانت هي من تخطو.. خطوة من باريس، وخطوة من الفسطاط، ولقاء بين زعيمين عند مفترق التاريخ.. عند بوابةٍ لا تغلق، اسمها: خان الخليلي.

تجول ماكرون بأريحية وأمان وسعادة في خان الخليلي وأزقته، واختزل مشاعره الجياشة لهذا اليوم التاريخي بكلمات شكر للرئيس السيسي وللشعب المصري على ترحيبهم الحار، قائلا:
"هذه الحماسة، وهذه الأعلام، وهذه الطاقة تليق بخان الخليلي: تحية نابضة بالحياة للصداقة التي تجمع بين مصر وفرنسا".

كلمات ماكرون لم تكن مجاملة، بل اعتراف بحضارة خطت أول حروفها على ضفاف النيل، ونسجت معاني التحضر منذ فجر التاريخ.
ربما سمع ماكرون عن خان الخليلي من روايات نجيب محفوظ، أو قرأ عنه في "وصف مصر"، أو في آلاف الكتب الفرنسية التي تناولت تاريخ مصر وفنونها.. وربما من المقررات المدرسية التي تدرس الحضارة المصرية في مراحل التعليم الأولى بفرنسا.

لكن هذه المرة لم يكن الأمر سمعا فقط. لقد رأى وشعر مثلما سمع.. رأى الجمال، وسمع المحبة.. رأى الحفاوة الصادقة من شعب بسيط وعميق، يحتشد خلف قائده بثقة في رؤيته ونبل مقاصده.. رأى كيف يرحب المصريون بضيف رئيسهم، وكيف يحملون مودة لزعيم دولة صديقة تشاركهم حمل مشعل الحضارة والثقافة والجمال.

لم تكن الزيارة مجرد مرور في الأزقة القديمة، كان ماكرون يسير برفقة زعيم مصر يرى ويسمع صخب حفاوة الترحيب بينما ينصت بروحه للحجارة التي تحفظ الذاكرة، ويصغى للضوء المتسلل عبر مشربيات تحكي عن زمن لا يشيخ.

ماكرون رأى مصر.. ليس فقط بتاريخها، بل بروحها، بثقتها، وبقدرتها على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل، تماما كما وصف يوما العلاقة بين البلدين بأنها "خيوط سرية تربط مصر بفرنسا عبر البحر المتوسط".
وإذا كانت زيارة ماكرون لمصر تحمل دلالات متعددة، فإن توقيت الزيارة يزيدها عمقا.

وجاءت في لحظة يشهد فيها العالم غموضا في ملامح النظام الدولي، مع أفول وانصهار نظام عالمي صيغت نسخته الأخيرة مع نهايات الحرب العالمية الثانية، وبزوغ نظام آخر جديد لا تزال معالمه قيد التبلور.
نظام يحمل في ملامحه تنافسا محتدما حتى بين شركاء الأمس، خاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفي القلب منه فرنسا.. وفي خضم هذا التحول، تدرك كل الأطراف، أن مصر - بثقلها الجيوسياسي، وإرثها الحضاري، وإمكاناتها البشرية والاقتصادية والعلمية - لا غنى عنها في صياغة معادلات الاستقرار.

فالشرق الأوسط، هذا الإقليم الذي يمس أوروبا وآسيا وأفريقيا، لا يستقر إلا بمصر، ولا يزدهر إلا بحكمتها.

وبين السياسة والتاريخ، بين الاقتصاد والفن، وبين القوة الناعمة والعسكرية، تحركت محطات الرئيس الفرنسي في مصر.. ومن هذا المنطلق، يأتي انعقاد لقاء القمة الثلاثي بين السيسي وماكرون والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ليؤكد توافق الرؤى إزاء قضايا الإقليم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وفي السياق ذاته، يزور ماكرون مدينة العريش، تأكيدا على موقف فرنسا الداعي لوقف إطلاق النار في غزة، واحتراما لمكانة مصر المحورية في هذا الملف.

وفي إدراك عميق لقيمة العلم، تأتي زيارة ماكرون اليوم لجامعة القاهرة، منارة المعرفة في المنطقة، إيمانا بإمكانيات الشباب المصري وثقل مؤسسات مصر التعليمية.

يأتي حضور ماكرون كذلك فعالية هامة لمنتدى الأعمال المصري الفرنسي وتوقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين البلدين ترسيخا لمدى حرص فرنسا على تعزيز الروابط الاقتصادية والتعاون التجاري والاستثمارات بين البلدين.

ولم يكن مفاجئا في ظل شغف فرنسا وشعبها وزعمائها بتاريخ قدماء المصريين ومصر الفرعونية أن يزور ماكرون المتحف المصري الكبير.. لم تكن زيارة سياحية بقدر ما كانت تأملا، رؤيا للمستقبل مستمدة من حضارة نقشتها أيدي أجدادنا على الجرانيت ورسمتها على أوراق البردي، ربما يجد العالم فيها اليوم نبراسا في لحظة يبدو فيها البشر تائهين عن أبسط قيم التحضر.

وفي ترحيب مصر بضيف زعيمها، استقبله شعبها بالسلام، ورفرفت أعلام فرنسا إلى جوار أعلامنا المصرية.. ورد ماكرون السلام بكلمات قليلة لكنها عميقة:

"تحية نابضة للصداقة التي توحد بين مصر وفرنسا".
هذه الصداقة القوية تستند إلى التاريخ، وتبنى على الحاضر، وتتسلح بالقوة الناعمة كما تتكامل مع التعاون العسكري، حيث عبر ماكرون فور وصوله إلى مصر عن اعتزازه بطائرات الرافال التي تمثل رمزا لقوة التعاون العسكري بين البلدين.

وفي تغريدته على تويتر، كتب ماكرون: "وصلنا إلى مصر برفقة طائرات رافال المصرية، فخورون بهذا لأنه يعد رمزا قويا للتعاون الاستراتيجي بيننا".

ومن خان الخليلي إلى آفاق المستقبل، تبقى هذه الصداقة الممتدة عبر الزمان والمكان شاهدا على قدرة الدولتين على تعزيز التعاون المثمر، وخلق حلول واقعية للتحديات الإقليمية والدولية.

وبينما ترفرف أعلام فرنسا إلى جانب أعلام مصر، تظل زيارة ماكرون ومحادثاته مع الرئيس السيسي نقطة انطلاق نحو غد أكثر إشراقا، حيث تلتقي الحضارات وتنسج رؤى الأمل والازدهار لشعبينا.. ومن هنا أيضا.. من خان الخليلي تبدأ خطوة جديدة نحو بناء عالم أكثر توازنا وتعاونا.. نحو عالم تستعيد معه الإنسانية مفردات التحضر والحضارة.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: ماكرون مصر السيسي خان الخليلي المزيد زیارة ماکرون بین البلدین خان الخلیلی

إقرأ أيضاً:

هل ما يحدث للمصباح شئ طبيعي؟!!

هل ما يحدث للمصباح شئ طبيعي؟!!
المصباح أبوزيد قائد البراؤون قد نختلف معه في حزبه او توجهه السياسي او فكره، ولكنه يظل قائد من قادة معركة الكرامة والذين هزوا عرش الميليشيا المتمردة وكانوا ولا يزالون في ميدان المعركة في الصفوف الامامية، والكثير منهم ضحوا ارواحهم من اجل هذا الوطن رخيصة بلا من ولا أذى، مثله ومثل مناوي وجبريل والحارث وتمبور وغيرهم قد نختلف معهم في توجهاتهم السياسية ، ولكن يجمعنا حب الوطن والدفاع عنه معا ضد عدو واحد، وهل من المعقول ان يكون شخص يريد زيارة أسرته ويسمح له بتأشيرة دخول رسمي بطريقة قانونية لمصر ومجرد دخوله لمصر يتم القبض عليه وايداعه السجن، كتصرف كان مخططا له في تصرف متناقض لمصر في موقفها في معركة الكرامة ودون توضيح تهمة محددة، وتصرف مصر هو فقط في مصلحة الجنجويد، والاغرب هو موقف الجيش والإستخبارات العسكرية الذي قاتل معهم المصباح جنبا الى جنب لا نسمع لهم حسا او أي مساعي للافراج عنه، وهل لو زار احد القادة الميدانيين من المتحالفين مع الجيش ويقاتلون معهم من حركة تحرير السودان او حركة العدل والمساواة او حركة تحرير السودان قطاع الشمال، ذهبوا الى مصر وتم اعتقال احدهم بنفس الصورة، هل كان موقف الجيش والاستخبارات كان سيكون نفس الموقف واللامبالاة ؟!! كيف لدولة ان ترمي احد قادته المتحالفين معه في معتقلات مصر ويكون الصمت ديدن سفارة السودان ولا تتحرك وزارة الخارجيه؟!! أم ان المصباح هو فعلا مجرم ويستحق الاعتقال ؟!! واذا كان كذلك لماذا تركه الحكومة او الجيش او الاستخبارات طيلة وجوده في السودان دون القبض عليه وايداعه السجن ومحاكمته في السودان دون ان ينتظروا من مصر القيام بذلك بالانابة، اما اذا كان الجيش والحكومة لا يعجبهم ما يحدث للمصباح ولا يستطيعون فعل شئ له، فهذا اكبر مصيبة، لأن الذي يحدث هو سلوك غير مقبول لقائد كان يقاتل مع الجيش، ونرى ونسمع مناشدات من اسرته ولا احد يعبأ بهم، فما بالك كيف سيكون حال المواطن العادي عندما يقع في نفس الظلم. الدولة التي لا تستطيع حماية ابناءه ولا يستطيع رفع الظلم عن رعاياه لا تستحق أن يطلق عليها لقب الدولة.

د. عنتر حسن

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • “فاينانشال تايمز”: ماكرون وزوجته يجمعان معلومات عن الصحفية التي ادعت أن بريجيت مولودة ذكرا
  • سبب وفاة الشيخ علي بن عبدالله الخليلي
  • وفاة الشيخ علي بن عبدالله الخليلي
  • رغم كونها الدولة الأكثر زيارة في العالم.. كيف نجت فرنسا من الاحتجاجات ضد السياحة التي عصفت بجيرانها؟
  • ما دلالات رفع الزبيدي علم الانفصال خلال لقائه وفد عسكري سعودي في عدن؟
  • هل ما يحدث للمصباح شئ طبيعي؟!!
  • نائبة بـ الشيوخ: زيارة وزير خارجية تركيا لمصر تحول استراتيجي بمسار العلاقات
  • دلالات شراء أندونيسا لمقاتلة خان التركية
  • «جهز نعشك».. حاخام إسرائيلي يهدد الرئيس الفرنسي ماكرون بالقتل
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: إن ما جرى في شمال شرق البلاد لا يمثل إطاراً وطنياً جامعاً بل تحالف هشّ يضم أطرافاً متضررة من انتصار الشعب السوري وسقوط عهد النظام البائد وبعض الجهات التي احتكرت أو تحاول احتكار تمثيل مكونات سوريا بقوة الأمر الوا