في لحظة قد يصفها بعضهم بالثورية في مسار البحث عن مصادر طاقة نظيفة وآمنة، أعلنت شركة "تايب وان إنيرجي" نشرَ أساس فيزيائي شامل ومتماسك لأول محطة طاقة اندماجية تجريبية قابلة للتنفيذ الصناعي بحسب الشركة.

وجاء هذا التقدم غير المسبوق في سلسلة من ستة أبحاث علمية محكمة، نُشرت في عدد خاص من دورية جورنال أوف بلازما فيزيكس، الصادرة عن مطبعة جامعة كامبريدج، مما يضع حجر الأساس لأول مفاعل عملي بتقنية "الستيلراتور" يحمل اسم "إنفينيتي وان".

ويقول كريس هيجنا، المؤسس المشارك، ونائب رئيس شركة ستيلاريتور لتحسين الفيزياء، وأحد المساهمين في تطوير النموذج الفيزيائي الجديد، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "لطالما كان التغلب على الخصائص المعقدة لحالة البلازما لإتمام عملية الاندماج النووي هدفا بحثيا رئيسيا لكثير من المهتمين بالاحتواء المغناطيسي لعقود. يتميز الستيلراتور بين أجهزة الاحتواء المغناطيسي بتصميمه الخارجي الدقيق للمجال المغناطيسي اللازم لاحتواء البلازما".

التصميم المبدئي لمحطة إنفينيتي وان (تايب وان إنيرجي) طاقة الاندماج المدهشة

تخيل أنك تضع مكعب ثلج في كوب ماء. بعد قليل، يذوب الثلج ويتحول إلى ماء، ثم إذا سخنت الماء، سيتحول إلى بخار. هذه كلها حالات مختلفة للمادة، الصلبة، والسائلة، والغازية. لكن، هناك حالة رابعة للمادة تسمى البلازما. ورغم أنك ربما لم تسمع بها من قبل، إلا أنها ليست غريبة أو نادرة، بل هي في الحقيقة الحالة الأكثر وجودًا في الكون، فالشمس والنجوم كلها تتكوّن من البلازما.

عندما نُسخّن الغاز إلى درجات حرارة هائلة تتخطى 100 مليون درجة مئوية، تتحول ذرات الغاز إلى حالة شديدة النشاط، لدرجة أن الإلكترونات الصغيرة داخل الذرات تنفصل عنها.

في هذه الحالة، لا يعود الغاز غازًا، بل يتحول إلى بلازما، وهي مادة مشحونة بالطاقة، ومليئة بالجسيمات شديدة السرعة التي تتحرك في كل اتجاه وتتصادم مع بعضها بعضا، وكأنها عاصفة نارية كهربائية. هذه البلازما هي ما نحتاجه لإنتاج طاقة الاندماج النووي، وهي نفس ما يحدث داخل الشمس!

إعلان

في هذه الحرارة العالية، تتمكن نوى ذرات الهيدروجين من الاندماج معًا، فتتحد نواتان صغيرتان لتكوين نواة واحدة أكبر، وهذا ما يُسمى الاندماج النووي. لكن المفاجأة، هي أن الكتلة النهائية للنواة الجديدة تصبح أقل قليلاً من مجموع الكتلتين الأصليتين! إذًا، أين ذهب فارق الكتلة؟

هنا تحدث المعجزة الفيزيائية، إذ تتحول الكتلة المفقودة إلى طاقة صافية، وفقًا لمعادلة آينشتاين الشهيرة (الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء). بمعنى آخر، في كل مرة تندمج فيها ذرتان، يخرج منهما قدر من الطاقة، وكأنه انفجار متناهي الصغر، لكنه نظيف وآمن.

تسخير قوة النجوم

لكن تسخير البلازما ليس سهلا، بل يشبه أن تحاول حبس كرة من النار تدور بسرعة هائلة وتريد أن تبقيها في غرفة من دون أن تحرق الغرفة ودون أن تنطفئ، كيف ستفعل ذلك؟ هذا هو التحدي الذي يحاول العلماء حله باستخدام جهاز اسمه "الستيلراتور".

ويوضح هيجنا: "الستيلراتور هو جهاز يحاول إنتاج الاندماج النووي من خلال استخدام مجالات مغناطيسية مصممة بعناية. وقد صممنا أكثر من 150 ألف تكوين مغناطيسي واختبرنا خصائص البلازما الناتجة عنها باستخدام أدوات حسابية متطورة. وما توصلنا إليه في أبحاث مجلة فيزياء البلازما، هو تكوين واحد يحقق جميع المتطلبات من دون عقبات تقنية قاتلة".

الستيلراتور يشبه إلى حد ما كعكة دائرية ضخمة ملتفة ومعقدة، مصنوعة من مغناطيسات هائلة القوة، تُنتج مجالات مغناطيسية ضخمة. هذه المجالات تعمل مثل الأيدي الخفية التي تمسك بالبلازما وتتلاعب بها كالخباز الماهر الذي يتلاعب بالعجين، فتمنعها من الهروب أو لمس جدران الجهاز. وعليه، فإن نجاح الستيلراتور يكمن في الإبقاء على البلازما معلقة في الهواء باستخدام قوى مغناطيسية، حتى تندمج الذرات معًا وتُطلق طاقة هائلة.

يقول هيجنا: "الوقود المستخدم في الاندماج النووي وفير. فكما هو معروف، المصدر الأساسي للوقود هو نظائر الهيدروجين المتوفرة بكثرة، فضلاً عن أن نواتج الاندماج النووي غير ضارة، بعكس منتجات الانشطار النووي أو الفحم أو الغاز".

إعلان

هذا التصور الجديد يفتح آفاقًا لتطوير مفاعلات اندماجية قادرة على العمل في استقرار وفعّالية، بما يضمن دمج النظرية والتطبيق في منظومة واحدة قابلة للتنفيذ.

الاندماج النووي هو نفس التفاعل الذي يمد النجوم بالطاقة (رويترز) "إنفينيتي وان": خطوة نحو التطبيق

تمثل محطة "انفينيتي وان" النموذج الأولي الذي تخطط الشركة لإنشائه بالتعاون مع هيئة وادي تينيسي للطاقة في الولايات المتحدة. وسيتم بناء المحطة في موقع محطة فحم قديمة، ما يمثل رمزًا لتحول تاريخي من الطاقة الملوثة إلى طاقة نظيفة.

يقول هيجنا: "مع أي تقدم تكنولوجي جديد، هناك دائمًا قدرٌ من عدم اليقين. ولعلّ التحدي الأكبر هنا يكمن في تكامل جميع الأنظمة المطلوبة للستيلراتور، بما في ذلك الفيزياء الأساسية للبلازما، وآلية التخلص من الحرارة والجزيئات، ونظام التوليد الذاتي للوقود، إضافة إلى ملفّات المغناطيس عالية الحرارة".

استند هذا الإنجاز إلى تعاون مكثف بين علماء من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك مختبر أوك ريدج الأميركي الذي قدم حواسيبه الخارقة لمحاكاة الخصائص الفيزيائية للتكوينات المغناطيسية، وعلى رأسها الحاسوب "فرونتير" المصنف ضمن أسرع الحواسيب عالميًا.

ويرى هيجنا، أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكنًا لولا ثلاثة تطورات أساسية أولاً، توفر تقنيات الموصلات الفائقة ذات درجات الحرارة العالية التي تسمح ببناء ملفات مغناطيسية قوية؛ وثانيًا، إثبات فعالية نهج الستيلراتور بمشروع فينديلشتاين 7-إكس في ألمانيا؛ وثالثًا، تطور النظرية والحوسبة الفيزيائية للبلازما، مما مكن الفريق من تصميم وتوقّع سلوك النظام بدقة.

اقتصاد الاندماج

رغم أن الطاقة الاندماجية تعد أكثر تعقيدًا من حيث التصميم والتنفيذ، إلا أن الباحثين يؤكدون أهمية أن تكون مجدية اقتصاديًا مقارنة بمصادر الطاقة المتجددة التقليدية. ويؤكد هيجنا ذلك: "الجانب الاقتصادي للطاقة الاندماجية هو دافع رئيسي لتصميماتنا. من المهم أن يكون المنتج النهائي الذي تقدمه شركة تايب وان إنيرجي قابلًا للتطبيق اقتصاديًا".

إعلان

لا يخلو طريق الاعتماد الواسع على الاندماج النووي من التحديات، خصوصًا من ناحية السياسات. ورغم أن بعض المنتقدين يرون أن الاندماج النووي لا يزال "على بُعد 30 عامًا" من الواقع، يرد هيجنا على هذا الادعاء بتأكيد واقعية الطموح الجديد، ويقول: "هدف شركة تايب وان إنيرجي هو إنتاج محطة اندماج تجريبية بحلول منتصف الثلاثينات. ولتحقيق الانتشار الواسع لهذه التقنية، سيكون من الضروري الحصول على دعم حكومي كبير".

يمكننا القول، إن الأبحاث التي نشرتها شركة تايب وان إنيرجي تُعدّ نقلة في مسيرة الاندماج النووي، ليس فقط لأنها تقدم نموذجًا نظريًا متينًا، بل لأنها تتجه نحو التنفيذ الواقعي، مدعومة بتكنولوجيا متطورة، وتعاون دولي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الاندماج النووی طاقة الاندماج

إقرأ أيضاً:

نقيب الأطباء البيطريين: حلول علمية وإنسانية لمشكلة الكلاب الضالة في مصر

صرح الدكتور مجدي حسن النقيب العام للأطباء البيطريين أن الجمعية الطبية البيطرية المصرية بالتعاون مع جمعية الرفق بالحيوان بالقاهرة، وتحت رعاية النقابة العامة للأطباء البيطريين أقامت ورشة عمل تحت عنوان "الكلاب الضالة في مصر: تهديد خفي يواجه المجتمع"، بأكاديمية الأميرة فاطمة للتعليم المهني الطبي بمدينة نصر.

افتتح الورشة الدكتور كميل متياس، رئيس مجلس إدارة الجمعية الطبية البيطرية المصرية، مرحباً بالحضور الكريم من ممثلي الوزارات والهيئات المعنية ونقباء وقيادات العمل البيطري.

الكلاب الضالة

أكد الدكتور كميل في كلمته أن هذه الورشة تأتي في إطار تعزيز الدور المهني والإنساني للأطباء البيطريين في حماية الحيوانات والمجتمع، وتهدف إلى تسليط الضوء على أهمية الرعاية البيطرية، ومناقشة التشريعات والقوانين الجديدة المنظمة لهذا الملف، بهدف الخروج بحلول علمية وعملية قابلة للتطبيق.

أشاد النقيب العام بالتعاون المثمر بين الجمعية الطبية البيطرية وجمعية الرفق بالحيوان، كما أكد في كلمته على أن النقابة العامة تدعم بقوة كافة المبادرات التي تسعى لوضع حلول علمية وإنسانية لمشكلة الكلاب الضالة، مشدداً على أن هذه القضية تمثل تحدياً مجتمعياً وصحياً يتطلب تضافر جهود جميع الجهات المعنية، وأن النقابة لن تدخر جهداً في سبيل ذلك.

وقال الدكتور حامد الأقنص، رئيس الهيئة العامة للخدمات البيطرية، إن الدولة تتبني مفهوم "الصحة الواحدة" الذي يربط بين صحة الإنسان والحيوان والبيئة، مشيراً إلى أن التعامل مع قضية الكلاب الضالة يجب أن يتم من هذا المنظور الشامل، وأوضح أن الهيئة تعمل على تطوير استراتيجياتها للسيطرة على الأمراض المشتركة، مع مراعاة معايير الرفق بالحيوان التي أقرتها المنظمات الدولية.

ونوه الدكتور مجدي حسن النقيب العام للأطباء البيطريين أن الورشة ضمت عدة محاضرات علمية متخصصة، ألقاها نخبة من الخبراء، وكان من أبرزها:

ـ "الرفق بالحيوان: أصالة الماضي و تحديات الحاضر" - أ.د.أشرف أبو سعدة.

ـ "دور الطب البيطري في تعزيز الرفق بالحيوان من منظور الصحة الواحدة و أثره على مشكلة الكلاب الضالة" - أ.د.منال زكي.

ـ "القوانين والتشريعات البيطرية المحلية والدولية الجديدة لمشكلة الكلاب الضالة وزيادة أعدادها" - د.شهاب عبد الحميد.

ـ "ممارسات مهنية في التعامل الإنساني مع الحيوانات - نماذج ناجحة وتطبيقات عملية لمشكلة الكلاب الضالة وزيادتها" - د.بهاء الغرباوي.

أكد النقيب العام أن الورشة اختتمت بجلسة نقاش مفتوحة تضمنت عرضاً للتوصيات والمشاريع والتجارب المقدمة، من العديد من الأطباء البيطريين والنقباء الفرعيين وأعضاء مجلس النقابة العامة، تمهيداً لبلورة رؤية موحدة ورفعها للجهات المسئولة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات،

مقالات مشابهة

  • البشير والسواد يبحثان مشاريع طاقة استراتيجية بين العراق وسوريا
  • رأس الخيمة تشهد طفرة عقارية… فهل لا تزال نافذة الاستثمار مفتوحة؟
  • تلغراف: هكذا تسعى أوكرانيا لاختراق أسطول روسيا النووي
  • المملكة تعزز أمنها الأحيائي البحري بجهود علمية لحماية الاقتصاد الأزرق
  • دراسة: تغيرات بالحمض النووي قد تساعد في تحديد مخاطر القلب لدى مرضى السكري
  • أكدت أن النووي «حق أصيل».. إيران: التفاوض مع واشنطن ليس تراجعاً
  • استدعاء ضحايا المتهم بالنصب بمنحهم شهادات علمية بالنسبة
  • محافظ المنيا: بتوجيهات الرئيس المحافظة شهدت طفرة غير مسبوقة في قطاع الصحة
  • قنبلة ليتل بوي السلاح النووي الذي دمر ثلثي هيروشيما
  • نقيب الأطباء البيطريين: حلول علمية وإنسانية لمشكلة الكلاب الضالة في مصر