هل أنت من الفرقة الناجية؟
تاريخ النشر: 12th, August 2025 GMT
بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
تتسلل فكرة "الفرقة الناجية" إلى الوعي الجمعي كهَمْسٍ يثير القلق ويُغذِّي التساؤلات الوجودية؛ فهي فكرة تتجلى بأشكال مختلفة في نسيج المعتقدات الإنسانية، لتطرح سؤالًا جوهريًا: هل هناك طريق واحد فقط للخلاص، أم أن دروب النجاة تتعدد بتعدد الساعين إليها؟
في السياق الإسلامي، يتردد صدى هذه الفكرة بقوة، مستندة إلى حديث نبوي شريف يُعرف بـ"حديث الافتراق"، الذي يشير إلى أن الأمة ستفترق إلى 73 فرقة، كلها في النار إلّا واحدة.
من الناحية العقدية، حَمَلَ حديث الافتراق دلالة حصرية للنجاة؛ حيث يشير إلى أن فرقة واحدة فقط هي التي ستنجو، وأن معيار النجاة هو التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا التفسير الصارم دفع كل فرقة وطائفة إسلامية إلى ادعاء أنها هي الفرقة الناجية، وأنها وحدها التي تملك الحقيقة المطلقة. مثلًا ابن تيمية يؤكد في "الفتاوى الكبرى" أن الفرقة الناجية هي أهل السُنة والجماعة، وأنهم يمثلون السواد الأعظم من الأمة، بينما الفرق الأخرى هي أهل البدع والأهواء. هذا التصور، وإن كان يهدف إلى الحفاظ على نقاء العقيدة، إلّا أنه أفرز واقعًا من الانقسامات الحادة؛ حيث تحولت الاختلافات الفقهية والعقدية إلى حواجز صلبة بين أبناء الأمة الواحدة.
وقد تجلّى هذا الادعاء بالحصرية في مواقف الفرق الإسلامية الكبرى؛ فأهل السُنَّة والجماعة يرون أنفسهم الفرقة الناجية، والشيعة الإمامية تؤمن بأن النجاة مرتبطة بولاية أهل البيت، بينما يرى المعتزلة أن منهجهم العقلي هو الطريق الصحيح للخلاص، والإباضية بدورها ترى أنها على الحق.
في المقابل، يطرح الإمام الغزالي في كتاب "المُنقِذ من الضلال" رؤية مختلفة؛ حيث يرى أن النجاة ليست حكرًا على فرقة معينة بالاسم؛ بل هي لمن اتبع المنهج الصحيح الذي يقود إلى معرفة الله والعمل الصالح. وفي السياق ذاته، يشير الفيلسوف ابن رشد في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" إلى أن الحقيقة واحدة، وأن الشريعة والفلسفة كلاهما يهدف إلى الوصول إليها، وأن الخلافات تنشأ من سوء التأويل أو عدم استخدام المنهج العقلي الصحيح.
هذه الرؤى العقدية والفقهية تتشابك مع أبعاد فلسفية عميقة، حيث لم تقتصر فكرة النجاة على البعد الديني البحت؛ بل امتدت لتلامس قضايا الخلاص والتحرر من منظورات مختلفة. ابن سينا، على سبيل المثال، يقدم في كتابه "النجاة" مفهومًا للخلاص لا يقصد به الخلاص الديني بالمعنى الكلامي؛ بل النجاة من الجهل والوهم، مؤكدًا أن المعرفة هي السبيل الوحيد للتحرر.
وفي الفلسفة الغربية، نجد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، يبحث عن النجاة من الشك من خلال اليقين العقلي، كما يرى الفليسوف الفرنسي جان بول سارتر أن النجاة تكمن في التحرُّر من سوء النية والوجود الزائف، والعيش بأصالة. أما عالم النفس السويسري كارل يونغ، فيرى أن النجاة هي نجاة نفسية، تتحقق بالتحرر من الانفصال عن الذات وتحقيق التكامل النفسي.
هذه المنظورات الفلسفية المتنوعة تنعكس بدورها على الواقع الاجتماعي؛ حيث كان لفكرة "الفرقة الناجية" أثرٌ بالغ في بناء الهوية الدينية والانقسام الطائفي؛ فكل جماعة سعت إلى ترسيخ هويتها من خلال التأكيد على أنها تمثل الحق المطلق، وأن الآخر هو الضال أو المُبتدِع. وقد أدى هذا التصور إلى تعزيز الانغلاق الديني، وصعوبة التعايش بين الفرق المختلفة، بل وفي بعض الأحيان، إلى نشوب صراعات عنيفة.
ومن هنا يؤكد الدكتور محمد عمارة، الباحث في الفكر الإسلامي، في كتابه "الإسلام والتعددية" أن التعددية هي جوهر الإسلام، وأن مفهوم الفرقة الناجية يجب أن يُفهم في سياق أوسع لا يقصي الآخر. كما يشير الأستاذ رضوان السيد، في مقال نشر في مجلة الفكر العربي، إلى أن التفسيرات الحصرية لمفهوم الفرقة الناجية أدت إلى تضييق مساحات التسامح والتعايش، وخلقت بيئة خصبة للتطرف والإقصاء.
وفي هذا السياق، يطرح الباحث العُماني خميس بن راشد العدوي، في ورقته البحثية "قراءة في فقه الفرقة الناجية"، رؤية نقدية مهمة، إذ يرى أن هذه الروايات قد تكون تأثرت بسياقات تاريخية وسياسية معينة، وأنها لا تُعبِّر بالضرورة عن جوهر الدين الذي يدعو إلى الوحدة والتآلف. كما يؤكد أن هذه الروايات قد استُغلت في بعض الأحيان لتغذية الصراعات المذهبية، ودفعت بالعديد إلى الغلو والإقصاء والتكفير؛ مما أوقع الأمة في فتنة عظيمة. ويخلُص العدوي إلى أن الأمة بحاجة إلى دراسة هذه الروايات بملاحظات موضوعية، لاستخلاص الفوائد منها، وتجنب الوقوع في الغلو والإقصاء.
وبالنظر إلى الأديان الأخرى، نجد أن فكرة النجاة والخلاص ليست حكرًا على الإسلام؛ ففي اليهودية، يتجلى مفهوم "شعب الله المختار" و"بقية إسرائيل" كجماعة مختارة للنجاة. وفي المسيحية، يركز مفهوم الخلاص على الإيمان بالمسيح و"الكنيسة الأمينة" كطريق للنجاة. وفي البوذية، تسعى "السوترا" إلى تحقيق "النيرفانا" والتحرر من المعاناة. هذه المفاهيم، وإن اختلفت في تفاصيلها، إلا أنها تشترك في فكرة وجود طريق أو جماعة معينة للوصول إلى الخلاص. ومع ذلك، فإن التفسيرات الحديثة في هذه الأديان، كما في الإسلام، تتجه نحو فهم أكثر شمولية للنجاة، يركز على القيم الأخلاقية والسلوكية، وعلى التعايش والتسامح بين أتباع الديانات المختلفة.
ويمكن القول إن فكرة "الفرقة الناجية"، وإن كانت تحمل في طياتها دلالات عقدية عميقة، إلّا أنها تحتاج إلى قراءة تحليلية ونقدية في سياق العصر الحديث؛ لأن التمسك بالتفسيرات الحصرية لهذه الفكرة قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام والانغلاق، بينما الفهم الأوسع الذي يركز على النجاة السلوكية والروحية، وعلى القيم المشتركة بين البشر، يمكن أن يفتح آفاقًا أرحب للتعايش والتسامح. فالنجاة الحقيقية قد لا تكمن في الانتماء إلى فرقة بعينها، بل في السعي الدائم نحو الحق والخير والجمال، وفي بناء جسور التواصل والتفاهم بين جميع البشر، على اختلاف معتقداتهم ومشاربهم.
لذا.. فإنَّ إجابة السؤال "هل أنت من الفرقة الناجية؟" لا تكون في تحديد هوية جماعة؛ بل في عمق الالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة، وفي القدرة على احتضان التعددية، والبحث عن النجاة في رحاب واسعة تتسع للجميع. هذا هو التحدي الذي يواجهنا اليوم، وكيف يمكننا أن نُحوِّل فكرة النجاة من مصدر للانقسام إلى دافع للوحدة والتعاون الإنساني.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
البيتلز على بوابة هوليود.. 4 أفلام تعيد إحياء أسطورة فرقة الخنافس
بدأ المخرج الأميركي سام مينديز تنفيذ مشروعه السينمائي الطموح، الذي يعيد تسليط الضوء على فرقة "الخنافس" (The Beatles) بأربعة أفلام مستقلة، يركّز كل منها على أحد أعضائها، وهم جون لينون، بول مكارتني، جورج هاريسون، ورينغو ستار. المشروع، الذي دخل مرحلة التطوير في أوائل 2025، يحظى بدعم رسمي من أعضاء الفرقة الباقين على قيد الحياة ومن ورثة الراحلين.
من المتوقع أن يرى النور في عام 2028، وقد بدأ التصوير في لندن منتصف 2025. يتجاوز العمل البناء النمطي للسير الفنية الموسيقية، ويعتمد أسلوبًا سرديًا متشابكًا؛ حيث تُروى قصة كل عضو من وجهة نظره الذاتية، مع محطات زمنية ومكانية متقاربة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"روكي الغلابة".. دنيا سمير غانم في تجربة أكشن غير مكتملةlist 2 of 2هل يعيد "الخطوات الأولى" إحياء سلسلة "الخارقون الأربعة" بعد إخفاقات ثلاثية؟end of listوكان المخرج البريطاني المعروف بفيلمه الأشهر "الجمال الأميركي" 1999(American Beauty) قد صرح لمجلة "فانتي فير": "غيّرت فرقة البيتلز فهمي للموسيقى. دائما كنت أتمنى إنتاج فيلم عنهم، كنت أبحث عن طريقة لسرد قصتهم، وكان لا بد من وجود طريقة لهذه القصة الملحمية للجيل الجديد"، مضيفًا: "أؤكد لكم أنه لا يزال هناك كثير لاستكشافه، وأعتقد أننا وجدنا طريقةً للقيام بذلك، ربما تكون هذه فرصة لفهمهم بشكل أعمق، نحن لا نصنع فيلمًا واحدًا فقط، نحن نصنع أربعة أفلام".
استثمار سينمائي في الموسيقىويندرج مشروع سام مينديز ضمن تيار كبير من الأعمال السينمائية الحديثة التي تستثمر في إرث فرق موسيقية لا تزال تحظى بقاعدة جماهيرية عالمية، مثل "كوين" Queen و"إلفيس بريسلي" Elvis Presley و"بوب مارلي" Bob Marley، وغيرها. لكن ما يميز هذا المشروع هو طموحه البنائي والإبداعي، إذ هو أول تجربة تقدم أربعة أفلام في إطار سردي متسلسل واحد، مع الاستعانة بحقوق موسيقى كاملة، ومستندات أرشيفية أصلية، وأيضًا تقنيات "الواقع المعزز" لإعادة تصميم الحفلات الأسطورية للفرقة، ومنها حفل ملعب "شيا" في لندن، والذي أقيم في 15 أغسطس/آب، وكان أحد أشهر أحداث الحفلات الموسيقية في عصره، وحضره أكثر من 55 ألف شخص، وحقق إيرادات بلغت 304 آلاف دولار.
إعلانحصل مينديز على تصريح من الورثة مباشرة باستخدام التراث الموسيقي، والبصري للفرقة، وذلك لبناء نسخ طبق الأصل من الفرقة وحفلاتها وموسيقاها بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
أنشأت فرقة "البيتلز" في ليفربول، بإنجلترا، عام 1960، وحققت شهرة عالمية منتصف الستينيات ضمن الحركة الثقافية المعروفة بـ«الغزو البريطاني» للغيتار والبوب إلى الولايات المتحدة، وذلك فضل مزجها الفريد بين البساطة الموسيقية والابتكار الفني، مما جعلها أيقونة تجاوزت الموسيقى لتصل إلى حد التأثير الثقافي والفكري. وعبرت أغاني مثل "تخيل" (Imagine) و"ثورة" (Revolution) و"الغواصة الصفراء" (Yellow Submarine) عن رغبات جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في السلام، والشعور بالذات.
ولا تزال الفرقة قادرة على جذب جمهور عالمي، إذ تشير البيانات إلى أن أكثر من 60% من مستمعيها عبر تطبيق "سبوتيفاي"(Spotify) هم دون سن الخامسة والثلاثين. يتنبأ نقاد ومحللون غربيون أن مشروع مينديز يحمل إمكانيات كبيرة، لكنه في الوقت ذاته محفوف بالتحديات، إذ قد يجسد الموسيقى التي أثارت إعجاب وخيال شباب الستينات، لكن هل يستطيع أن يفعل المشروع الشيء نفسه مع جيل العصر الرقمي.
ضمت الفرقة الأشهر في تاريخ الموسيقى في العالم أربعة موسيقيين، هم جون لينون، الذي حقق بعد انفصال الفرقة عام 1970 مسيرة فردية ناجحة في الموسيقى، وأصدر ألبومات تعبر عن آرائه السياسية والاجتماعية. قتل لينون عام 1980، بإطلاق نار عليه أمام منزله في نيويورك من مارك ديفيد تشابمان، ما أحدث صدمة كبيرة لدى عشاق الفرقة وعالم الموسيقى.
واستمر العضو الثاني في الفرقة، بول مكارتني مغنيا وكاتب أغاني، وأسس فرقة جديدة باسم "وينغز"، حققت نجاحاً كبيراً في السبعينيات. ويعد اليوم من أكثر الموسيقيين تأثيراً في تاريخ الموسيقى، وله آلاف الأغاني الناجحة مع البيتلز وفي مشواره الفردي.
أما العضو الثالث، فهو جورج هاريسون، الذي اتجه إلى موسيقى الروك الفردية، وبرز في استخدام الموسيقى الشرقية والأدوات الهندية، وتوفي بسبب سرطان الرئة عام 2001 بعد معاناة مع المرض.
وتابع العضو الرابع في الفرقة وهو رينغو ستار مشواره كموسيقي منفرد وممثل، وأصدر ألبومات ناجحة. كما كون فرقة خاصة، وهو لا يزال نشطاً في الموسيقى ويشارك في جولات موسيقية.
في أول تعليق له بعد إعلان اختياره تجسيد شخصية جون لينون، قال الممثل هاريس ديكنسون لمجلة "فانيتي فير" إنه يشعر بـ"رهبة ممزوجة بالحماس"، مضيفًا: "لينون لم يكن مجرد موسيقي عبقري، بل كان روحًا قلقة تبحث عن المعنى في عالم مضطرب، وهذا ما سأحاول أن أستحضره على الشاشة". وأوضح ديكنسون أنه أمضى شهورًا في دراسة طبقات شخصية لينون من خلال أرشيف المقابلات والرسائل الشخصية.
أما الممثل بول ميسكال، الذي يؤدي دور بول مكارتني، فقد أشار في حوار لـ"هوليود ريبورتر" (The Hollywood Reporter) إلى أن التحدي الأكبر يكمن في تجسيد فنان لا يزال حيًا وفاعلًا في المشهد الثقافي. قال ميسكال: "أشعر بمسؤولية ثقيلة. مكارتني أسطورة لا تزال نابضة، وأنا أريد أن أقدّم نسخة إنسانية تحترم هذا الإرث دون الوقوع في التقليد السطحي".
إعلانوفي تصريح آخر، عبّر باري كيوغان، الذي سيؤدي دور رينغو ستار، لصحيفة "الغارديان" (The (Guardian عن فخره بالمشاركة في المشروع: "رينغو ليس فقط ضاربا للدرامز بل هو قلب نابض بالدفء والفكاهة داخل الفرقة. أحاول أن ألتقط طاقته العفوية وأعيد تشكيلها سينمائيًا".
أما جوزيف كوين، الذي اختِير لتجسيد جورج هاريسون، فقد قال في مقابلة لـ"رولينغ ستون" (Rolling Stone): "هاريسون شخصية غامضة وذات بُعد روحي عميق، وقد أسرتني رحلته من نجم عالمي إلى متصوف يبحث عن الحقيقة. أظن أن هذا المشروع فرصة لفهم الجانب الهادئ في البيتلز".
ومع موافقة الورثة والشركات المالكة لحقوق الملكية الفكرية والأداء العلني على الاستخدام الكامل للموسيقى الأصلية، يصبح العمل قادرًا على الانتقال من إعادة تمثيل بسيطة إلى تجربة سمعية بصرية متكاملة تُعيد الكرة الإنتاجية.