د. صالح بن ناصر القاسمي
بعض اللقاءات التي تجمعك مع بعض القامات الفكرية، وما يدور في تلك اللقاءات من نقاشات، تجعلك تقف أمام مشاهد قلَّ أنْ تلاحظها بتلك الصورة، لولا احتكاكك بتلك العقول، التي حباها الله بميزة القراءة الناقدة المتفحصة والمتأنية قبل إطلاق تصوراتها المبنية على اقتناع بأفكارها تجاه القضايا المجتمعية.
ولا شك أن تلك التصورات لم تكن ناتجة فقط عن عملية القراءة والمطالعة، بل هي نتيجة امتلاك عقلية نقية حباها الله بميزات استثنائية، تجعلها تفرز تصورات قابلة للفهم وهي أقرب للواقع، بحيث تمكن المتلقي من فهمها وتقبلها بصورة سهلة وبسيطة.
نعم، كم هي ذات فائدة مثل تلك اللقاءات وما ينتج عنها من تنوير للعقول، واكتساب المعرفة التي ربما كانت أفضل من اكتسابها بطرق أخرى، وذلك لسهولة وبساطة التلقي، ولوجود تلك الكاريزما التي لديها القدرة على التأثير والإلهام.
وفي أحد تلك اللقاءات دار النقاش حول ما الذي يجعل بعض الشخصيات تتمتع بمزايا وصفات إيجابية، وسمات أخلاقية، تميزهم عن الآخرين، بل تجعلهم محطة ومهوى لجذب قلوب واستحسان كل من يعرفهم ويخالطهم، ويحرص على اللقاء بهم، بل ويلجأ إليهم متى ما ضاقت بهم الأحوال.
والسؤال المطروح: هل للبيئة تأثير في تكوين تلك الشخصيات؟ أم أن للجينات الوراثية تأثيرا في ذلك؟ وإذا كان للبيئة تأثير فلماذا لا تتشابه الشخصيات في المحيط الواحد؟
أسئلة جديرة بالتفكر -لا شك في ذلك- فمن المعلوم أن البيئة المحيطة ذات تأثير مباشر على تكوين شخصية الإنسان، ونعني هنا: البيئة بمعناها الطبيعي؛ أي الحياة على الشواطئ، والصحاري، والجبال، هذه البيئات التي تنعكس بشكل مباشر على شخصيات الناس التي تقطنها. ناهيك عن المؤثرات الأخرى مثل التعليم والثقافة العامة للمجتمعات في تلك البيئات.
ما يعنينا هنا هو التأكيد على أن البيئة لها انعكاس مباشر على شخصية الإنسان، وذلك التأثير يظهر أثره على تصرفات وتعاملات الإنسان بحسب كل بيئة، مثل صفات الكرم، والأمانة، والتسامح، وتقبل الآخر، والصبر، وغيرها من الصفات، ولا شك أيضًا أن هناك صفات تُعد سلبية بحسب تقييم وتقدير المتعامل مع تلك الشخصيات.
ومن خلال ذلك المعترك البيئي المادي، والموروث الثقافي والأخلاقي، تبرز على الساحات تلك النماذج من الشخصيات الإنسانية المميزة النادرة، وهو ما جعل أحد المحاورين يطلق عليها -وزراء الاجتماع- وهو مصطلح، وبحسب ما يتضح، أنه من إبداعات ذلك العقل الرائع، وهو في الحقيقة مصطلح استوقفني وشدني ووجدتني أخط هذه الأسطر لنتناوله ولو بشيء من التوضيح.
ببساطة شديدة.. فإنَّ شخصيات وزراء الاجتماع هي تلك الشخصيات التي تتمتع بدماثة الأخلاق، وطيبة النفس، والكرم، والصبر، ونقاء الفطرة، وحسن العشرة، بالإضافة إلى امتلاك بشاشة الوجه، وطلاقة اللسان.
مثل هذه الشخصيات، تجدها دائمًا حريصة كل الحرص على التواصل المجتمعي في المناسبات بشكل عام، مع حرصها على التواصل الفردي بشكل خاص، هذا التواصل الخالي من المصلحة الشخصية، والنفاق المجتمعي- كما يُطلق عليه- عند البعض.
وغالبًا ما تكون هذه الشخصيات محورية في مجتمعها، وتمثل محل جذب إليها دون تكلف أو حتى تعمد الجذب، وإنما هي فطرة وسجية لديها. وغالبًا ما تكون مثل هذه الشخصيات تتمتع بصفة الكرم والبساطة.
هناك جانب آخر مضيء لهذه الشخصية، إنه جانب التسامح غير المتكلف مع الآخر، فهو لا يتوقف كثيرًا عند الأخطاء والزلات، فتجده يعاشر من أخطأ في حقه وكأن شيئًا لم يحدث، فيلاقيه بوجه طلق ويبدأه بالسلام والتحية، بل أحيانًا يبالغ في إكرام من أخطأ في حقه.
وقد روى لي صاحب مصطلح "وزراء الاجتماع" عن قصة حدثت عند أصحاب إحدى تلك الشخصيات؛ حيث تنامى إلى مسمعه أن أحد الأشخاص تكلم في شخصه كلامًا مسيئًا، وما هي إلا أيام معدودة حتى وجه له دعوة لزيارته في منزله وكأن شيئًا لم يحدث بينهما، إنها الشجاعة الأخلاقية في أبهى صورها، والنفس النقية التي لا تعرف الحقد والضغينة.
إنهم حقًا وزراء اجتماعيون بطبيعتهم، بثقلهم الأخلاقي، ولكون هذه المناصب -وزراء الاجتماع- من يتولاها هم أناس قليلون؛ فإنهم حقًا يستحقون هذه المناصب عن جدارة واستحقاق، فليس من السهولة في هذا الوقت المتسارع الأحداث، المليء بالآفات النفسية والأخلاقية، أن نجد مثل هؤلاء بكل سهولة، ومع هذا لا يخلو منهم مجتمع، تجدهم مثل النور الذي يُستضاء به في العتمة.
ولعل أجمل ما يميز هؤلاء، أن وجودهم في المجتمع يشبه وجود الجذور العميقة للشجرة، تلك الجذور التي قد لا نراها، ولكنها تحفظ الشجرة من السقوط في وجه الرياح، وتغذيها بالماء حين تجف الأرض. إنهم يربطون الماضي بالحاضر، ويحافظون على الخيط الرفيع الذي يمنع القلوب من التباعد، ويصونون حرارة العلاقات الإنسانية وسط برودة الحياة المادية المتسارعة. وحين يرحلون، نشعر وكأن جزءًا من ملامح المجتمع قد غاب، لا لكونهم أشخاصًا عاديين، بل لأنهم كانوا يمثلون صمامات الأمان التي تهدئ النفوس، وتعيد التوازن حين تميل الكفة إلى الصخب أو الخصام.
ألا يخطر على بالنا ونحن نتحدث عن مثل تلك الشخصيات آباؤنا وأجدادنا الذين كانوا على قدرٍ عالٍ من التسامح، وعلى مرتبةٍ رفيعة من الحكمة، ومكانةٍ مرموقة لم يكونوا يبحثون عنها؛ وإنما فرضت حضورها في المجتمع، وحظيت بما حظيت من احترامٍ وتقديرٍ في أوساط فئات المجتمع.
والسؤال هنا: هل سيأتي زمن تختفي فيه مثل هذه الشخصيات من مجتمعاتنا؟ أم أن بيت الطين لا يخلو من الطحين؟ بحسب المثل السائر.
إنَّ الخطوة الأولى التي ينبغي علينا الاهتمام بها، لكي نحافظ على وجود مثل هذه الشخصيات في مجتمعنا، بل وزيادة عددها، لإيماننا بأن هذه الشخصيات هي ميزان التوازن لمجتمعنا، أن نكرس اهتمامنا بغرس مبادئنا وقيمنا الأخلاقية في الناشئة، سواء في مدارسنا، وجامعاتنا، ومجالسنا العامة والخاصة، فمجتمعنا له تلك النكهة الخاصة به، والسمت الذي يشعرك بالاطمئنان والأمان.
ونأمل أن يُصبح جميع أفراد مجتمعنا وزراء اجتماعيون؛ فليس ذلك على الله بعزيز.
فبقدر ما تشرق الشمس فتمنح الأرض دفئها، يشرق هؤلاء في قلوبنا فيمنحونها سكينة وسلامًا، وبقدر ما يروي الغيم الحقول بالماء، يروون الأرواح بحسن الخلق وجميل العشرة، فإذا غابوا، بقي عبيرهم في الأفق شاهدًا أن النبل لا يزول، وأن الخير مهما تراجع، لا ينطفئ نوره أبدًا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الحاج أبو محمد… بائع الأمل الذي تحدى الحرب بابتسامة
الحاج أبو محمد، من مدينة غزة ، يُعرف بين الناس كبائع الابتسامة والأمل. قبل السابع من أكتوبر، كان يبيع الحلوى للأطفال، لكن ظروف الحرب القاسية دفعته للتحول إلى بيع الشيبس والمياه الباردة، حتى لا يحرم أبناء غزة من ابتسامته التي تجذب الصغار والكبار على حد سواء. ورغم فقدانه لعمله الأساسي، ظل متمسكاً بروح الحياة، يوزع الأمل كما يوزع بضاعته، في مشهد يلخص صمود الغزيين في وجه المحن.
تصوير : تالا نشوان
المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من أخبار غزة المحلية سوق حي الرمال بغزة … حياة تجارية باهتة تحت ظلال الحرب "القسام" تُعلن استهداف موقعين عسكريين للجيش الإسرائيلي بغزة تسجيل 69 شهيدا في غزة خلال الـ 24 ساعة الماضية الأكثر قراءة الإمارات تنفذ الاسقاط الجوي رقم ٦٢ وترسل شاحنات مساعدات بينيت: إسرائيل تفقد دعمها في الولايات المتحدة وتُنظر إليها كـ"عبء" نتنياهو يعقد مشاورات أمنية بشأن غزة: زامير سيعرض 3 بدائل لاحتلال القطاع غزة: 8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية خلال 24 ساعة عاجل
جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025