مجلة العربي الأفريقي (مارس 1979) باسطة سلا: عام كنت رئيس تحرير صحيفة لعدد واحد
تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT
(إلى روح الحبيب عبد الرحمن السلاوي، باسطة سلا، قبلني على علاتي وأحسن)
تمر بنا بشهر مارس )2009( هذا الذكرى الثلاثين لصدور مجلة “العربي الأفريقي” (مارس 1979) الشهرية التي لم يصدر منا سوى عدد بهي واحد وأغلقها نظام نميري بالضبة والمفتاح. وكان صاحب امتيازها هو الأستاذ عبد الرحمن السلاوي رجل الأعمال المعروف وقدت أنا هيئة تحريرها من وراء ستار.
جئت إلى رئاسة تحرير المجلة خلواً من خبرة مؤكدة في صالة التحرير. ولكنني التقطت بعض مفاهيم في التحرير انتهزت سانحة المجلة لتطبيقها. ومن تلك المفاهيم وجوب أن يكون للمجلة مركز معلومات. وبدأت بقص ما يرد في الصحف والمجلات في موضوعات بعينها لحفظها في فايلات ثم موالاتها بقص وإضافة ما يستجد في الأمر. وما زلت أعتقد أن غياب مثل هذا الأرشيف منقصة كبيرة في صحافتنا اليوم. فصحافيونا يهجمون على المسألة حارة من نارها لا يلطفها تاريخ لها أو منطق في ذلك التاريخ. ولذا كثيراً ما اتسمت تلك الكتابات ب “القطع الأخضر” المهوش. فيأتي الرأي فطيراً لا ينعدل به رأس البلد بحكمة النظر المحيط. ولا تستعين هذه الصحف حتى بأرشيف وكالة سونا الذي جمعت فيه مثل هذه الفايلات وأوعت. وبلغ بي اليأس من جفاء الصحف لإنشاء مراكز معلومات أن اقترحت على الحكومة أن تنشئ مركزاً تجري عليه من رسوم تفرضها على الصحف.
كان من بين أفكاري التحريرية الأخرى أن أسوى لغة المجلة. وأعني بذلك مسألتين. أن نتفق على طريق رسم كلمات خلافية حتى نكتبها بصورة موحدة في الجريدة. فكلمة مثل “مسئول” تعددت صور كتابتها. ولا يصح أن ترد في نفس المجلة برسوم مختلفة. هذه واحدة. أما الفكرة الأجرأ فكانت إعمال قلم التحرير فيما يرد من مقالات حتى نسوى الكتابة في المجلة على وتيرة واحدة تلتزم الديباجة العربية. وتذكرت تجربتي مع المجلة قبل أسابيع حين جمعتني بالدكتور عبد الله حمدنا الله مجلس امتحان لطالب دراسات عليا. فأحصى له عبد الله أخطاء في الأسلوب أخرجت البحث من مدار الديباجة العربية إلى سواها. وساقني هذا الحرص على هذه الديباجة لإخضاع مقالات لكتاب كبار لهذه السوية الأسلوبية. وخرجت من التجربة بأن أميز مثقفينا يحسنون التعبير عن أفكارهم باللغة الإنجليزية لأنهم تدربوا مدرسياً على ذلك. فإما العربية فهم يكتبون بها كفاحاً أو احتساباً.
ومن بين ذكريات تحرير العربي الأفريقي التي تمكنت مني هو نجاحنا في استدراج المرحوم إبراهيم حسن علام المراجع العام آنذاك للكتابة للمجلة بعد نزوله المعاش. فقد كنت قرأت له كلمة من أطرف ما عرفت أيامها مزج فيها بين اسمه (إبراهيم) وإطلاق “حاج إبراهيم” على (الكلب) عندنا. وراوح بين المعنيين خلال ملابسات في حياته ضحكت لها كثيراً. ولما فكرنا في كاتب لبابنا الأخير الخفيف “عن الزمان وأهله” اقترحت علاماً على السلاوي. وركبنا سيارته ساب وطفقنا ندور شوارع الامتداد الجديد بحثاً عنه. فوجدناه وأكرم وفادتنا وقبل بلطف أن يكتب لنا مرادنا. وكتب قطعة جميلة لعددنا الأول عنوانها “زواج عجوز فان”. وربما كان العنوان من اختياري. وهي عن عوائد الزواج بين شعب الجوامعة الذي نشأ هو بينه في بلدة أم روابة. فحدثنا عن الزواج بالمنيحة أو المنحة وهي الإمهال في الدفع. وعرض لدور النسيبة المبغوض بينهم. ولذا سموا شوكة الحسكنيت السوداء الفتاكة ب “خشم النسيبة”. وزواج العجوز من شابة من أبغض الحلال عندهم. فهم يأخذون الشاب “ساكت على حنجوره (الحنجرة)” بينما يلعنون الشائب ب “الملة الفوق صنقوره”. وحكي عن حفر الآبار وحيل ذلك كما تحدث عن إحسان الجوامعة لقص الأثر أو القيافة.
لم يحتمل نظام نميري العربي الأفريقي فأهلكها. مع أننا لم ندخر وسعاً في “ترقيد شعرة جلده”. فما كان خافياً علينا أنه نظام لا صبر له على التعبيرات المستقلة. واتخذ من ذريعة تحالف قوى الشعب العاملة سبباً ليطوي كل شيء تحت مظلته: الاتحاد الاشتراكي الفرد كما كان يقال بفخر مستبد. وفاتحت السلاوي، صاحب الامتياز، في ضرورة تأمين المجلة من القيل والقال وكيد النظام وشماتة المعارضين الذين لا يؤمنون أنه بوسع أحد أن يؤدي خدمة متجردة للوطن في شرط استبداد نميري. وهم سينتظرون إلى يوم الخلاص منه ليأذنوا بالصحافة. واقترحت عليه أن يجعل الغلاف كله لنميري. ولم يعجب السلاوي الاقتراح لأنه خشي ألسنة المعارضين الحداد. وراجعته فقبل على مضض. وما قبل حتى أبدع في اختياره صورة من أرشيف وزارة الثقافة والإعلام ظهر فيها نميري ينظر إلى مجسم للكرة الأرضية مركزاً على خارطة أفريقيا والشرق الأوسط. واقتطفنا عبارة له تقول: “لقد توحد السودان محققاً للأمة العربية صيغة جديدة لا تتعارض فيها أفريقيته مع عروبته”. وظننا أنّا ألقينا للوحش الهائج قطعة من اللحم النيء كما يقول اهل الإنجليزية عن ملاطفة الشرير. ولم تسلم المجلة من بطش نميري. فأوقفها.
ولا نعرف حتى الآن بالتحديد سبب تعطيلها للأبد. ولم يتفضل النظام علينا بوجهة وسمعنا بدلاً عن ذلك تكهنات. فسمعنا أن الصورة السخية التي ظهرت بها المجلة: مادة غنية ألوانها مفروزة تسر الناظر، وسوست للنظام. فظن أن ليبيا، عدوه اللدود آنذاك، هي التي انفقت عليها. وقيل لنا أن المؤسسة الصحفية الرسمية هي التي كانت وراء هذه الوسوسة لأنها فشلت بصورة ذريعة في إخراج أي من مجلاتها بما يشبه العربي الأفريقي من قريب أو بعيد. ولكن وجدت من رد التوقيف إلى نشرنا للدكتور عبد لله النعيم كلمة بعنوان “عودة الدين في الغرابة: الدين غائب، الدين عائد، وهو عائد في غرابة”. وهي كلمة خصصنا لها باباً عنوانه “رؤية إسلامية” ننشر فيه عقيدة الفرق الإسلامية السودانية في مناسبة بدء القرن الهجري الخامس عشر. وربما لم نوفق في البدء لرؤية الجمهوريين. فقد اتضح لي لاحقاً أن النصف الثاني من عقد السبعينات كان مسرحاً لصراع شديد بين الجمهوريين والعلماء الدينية. فقد تعقب العلماء الجمهوريين وأستاذهم محرضين المصلين عليهم في كل جامع وفوق كل منتدى لحمل الحكومة على تنفيذ حكم الردة في الأستاذ وفض تلاميذه عنه ومنعهم من الدعوة لفكرتهم. وأرادوا من ذلك تنفيذاً قرار محكمة الردة الأولى ضد الأستاذ محمود في 1968. وبدا لي من بحثي المتأخر أن جهلنا بخفايا صراع محمود والعلماء رمانا في نشر مقال ربما استفز العلماء المتنفذين لسد كل فرجة يتسرب منها فكر خصمهم الألد. ولم يمنع تحوطنا لكبر نفس نميري برسم صورته على الغلاف من التوقيف. فقد غابت عنا أشياء أخرى.
لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما رضيت من تجربة العربي الأفريقي بديلاً. كلها: باسطة سلا. رفقة عبد الرحمن وأخوته والمحررين والمصممين والمعينين كلهم. كنت رئيس تحرير لعدد واحد. ولكنه عدد ولا كل الأعداد.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: العربی الأفریقی
إقرأ أيضاً:
العراق، هايتي، أفغانستان.. جون ريندون عراب حروب أميركا
يُطلق جون ريندون على نفسه لقب "فارس المعلومات"، لكن اللقب الأدق هو: "خبير التضليل الإعلامي"، وفقا للمجلة الفرنسية لونوفيل أوبسرفاتور التي أعادت اليوم نشر تقرير كتبته في فبراير/شباط 2003 ضمن سلسلة تقارير عنونتها بـ"تاريخ الإمبراطورية الأميركية".
ولإتقانه لدعايته السرية، تقول المجلة، ظل ريندون لأكثر من 20 عاما الرجل الذي يلجأ إليه البنتاغون كلما أراد شن حرب دعائية أو غيرها كما في نيكاراغوا، لإضعاف معنويات الساندينيين، وفي بنما، لزعزعة استقرار الجنرال نورييغا، وكذلك في البلقان، وهاييتي وأفغانستان… ولكن أرض اللعبة المفضلة لريندون كانت العراق.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أكسيوس: ترامب يريد الترويج لخلو رئاسته من الأخبار السيئةlist 2 of 2مقال في هآرتس: إسرائيل تخطط لاحتلال غزة لكنها لا تريد تحمّل مسؤولية قرارهاend of listفمنذ عام 1990 إلى 2003، لم يتخلف جون ريندون عن المشاركة في أي محاولة انقلاب على الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين أو أي محاولة لزعزعة استقرار حكمه.
وتذكر المجلة أن ريندون أنشأ محطات إذاعية موجهة إلى بغداد، ركزت برامجها على السخرية من صدام، كما أنشأ منظمات عميلة مثل "التحالف من أجل العدالة في العراق"، وهو الذي أطلق، بناءً على طلب من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، اسما على إحدى حركات المعارضة الرئيسية في المنفى، وهي الحركة الوطنية العراقية التي كان أحد قادتها موظفا سابقا في مجموعة ريندون.
وريندون هو الرئيس والمدير التنفيذي لهذه المجموعة التي تصف نفسها بأنها شركة اتصالات إستراتيجية عالمية لها حضور في أكثر من 120 دولة.
وكان ريندون هو رأس الحربة في الهجوم الإعلامي المكثف الذي شنه صقور فريق الرئيس الأميركي جورج دابليو بوش لإقناع النخب والجماهير الأميركية بضرورة شن حرب على العراق في عام 2003.
ابتداءً من سبتمبر/أيلول من تلك السنة، تقول المجلة، إن عدة منظمات كلفت بـ"تسويق" هذه الحرب لم تكن تحظى بشعبية كبيرة، وكان لكل منها مهمة، فعلى سبيل المثال، بادر البيت الأبيض بإنشاء "لجنة تحرير العراق"، وهدفها الرسمي هو "الترويج للإطاحة بصدام حسين".
وقد خصص لهذه المنظمة منزل فخم في مبنى الكابيتول هيل بواشنطن، في موقع قريب جدا من الكونغرس، وفي مقرها الجديد، دأب قادة اللجنة على تنظيم حفلات عشاء للصحفيين مع مسؤولي البنتاغون، ووجبات إفطار مع مستشاري الرئيس، وجلسات إحاطة مع "متخصصين" في شؤون الشرق الأوسط، وجميعهم، بالطبع، يدعمون نفس الخط السياسي العدائي.
إعلانوتقول لونوفيل أوبسرفاتور إن هذه الصيغة (لجنة مُخصصة لجذب اهتمام وسائل الإعلام) حققت نجاحا باهرا عدة مرات في الماضي، ففي عام 1990، نجحت حركة "مواطنون من أجل كويت حرة"، التي لم تدم طويلا، في إقناع أميركا المُترددة بشن حرب الخليج. وعلى سبيل المثال، نجحت هذه الحركة، بدعم من جورج بوش الأب، في إقناع الكونغرس والصحافة العالمية بأن الجنود العراقيين قتلوا أطفالا كويتيين بإخراجهم من حاضناتهم، وهو ما ثبت لاحقا أنه غير صحيح.
وتضيف المجلة أن جيمس وولسي، وهو مدير سابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في التسعينيات، جاب في عام 2002، العالم باحثا عن أدلة تربط العراق بهجمات مركز التجارة العالمي، لكن من دون جدوى. غير أن ذلك لم يمنعه من الدفاع، بكل ما أوتي من قوة، عن نظرية تواطؤ بغداد مع إرهابيي 11 سبتمبر/أيلول.
وكانت القنوات التلفزيونية تستضيف العديد من أعضاء هذه اللجنة المُشجِّعة للحرب، يوميا تقريبا ويُشاهَد هؤلاء الصقور ذوو المراتب العالية، ويُسمَعون، ويُقرأ عنهم في كل مكان، في الولايات المتحدة وحول العالم. وتُشارك شركة بينادور أسوشيتس، إحدى شركات العلاقات العامة الأميركية الرائدة، بنشاط كبير في الترويج الدولي.
وشملت المرحلة الثانية من خطة الاتصالات المؤيدة للحرب، إنشاء هيئة عامة مسؤولة عن نقل وتضخيم رسائل الرئيس بوش الحربية إلى الخارج، وهي "مكتب الاتصالات العالمية".
ويرأس تاكر إسكيو، وهو من مؤيدي بوش المخلصين، هذا الجهاز الدعائي ويتحدث عن مهمته قائلا: "أنسق أنشطة المتحدثين الرسميين الرئيسيين باسم الإدارة، بحيث تصل رسالة واحدة فقط يوميا".
وبمعنى آخر، هو المسؤول الرئيسي عن "الهجوم"، وهو من جمع ونشر ملفات البيت الأبيض المزورة عن العراق (بلغت تكلفة تلك العملية حسب صحيفة تايمز اللندنية: 225 مليون دولار)، وصرح قائلا: "لقد نشرنا صور الأقمار الصناعية للمواقع النووية قيد الإنشاء".
ومع ذلك، وبعد زيارات عديدة، لم يعثر مفتشو الأمم المتحدة على أي شيء مثير للريبة في هذه المواقع المحددة. هل نُقلت المواد المحظورة بعد نشر الصور؟ هذا ما طرح آنذاك، وعلى أي حال، فإن هذه الملفات لم تقنع الكثيرين، وفقا للمجلة.
لكن، ورغم كل الجهود التي بذلت لـ"ترويج" الحرب، لاحظ العاملون على ذلك أن الرأي العام لا يزال غير مقتنع بها، وهنا أصبحوا يفكرون في "إجبار" الرأي العام على ذلك عبر المزيد من الخطوات: "فماذا لو، على سبيل المثال، دفعنا أموالا لصحفيين من دولة حليفة مهمة، مثل فرنسا، لكتابة مقالات مؤيدة؟"، يتساءل أحدهم.
وتنقل المجلة عن صحيفة نيويورك تايمز أن البنتاغون دأب في تلك الفترة على إثارة مثل هذه الأفكار، إذ كشفت أنه حتى في فبراير/شباط 2002، كان هناك مكتب يتولى مهمة عمليات التضليل يطلق عليه: مكتب التأثير الإستراتيجي (OSI)، والذي كان له الحق في تنظيم انقلابات، حتى في الدول الصديقة، وكان جون ريندون أحد ركائزه الرئيسيين.
وبعد نشر ذلك المقال، بلغت الفضيحة مداها لدرجة أن وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد اضطر للإعلان عن إغلاق ذلك المكتب لكن أنشطة البنتاغون السرية، التي لطالما شابها التشهير، لم تتوقف.
إعلانبل كان رامسفيلد نفسه هو من كشفها، في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، أمام عدد من الصحفيين: "قلتُ (لمن يهمه الأمر): حسنا، تريدون القضاء على هذا الشيء. حسنا، يمكنكم دفن الاسم. لكنني سأواصل فعل ما يلزم. وقد فعلتُه".
وهنا تقول المجلة إن الناس يتذكرون الشهادة الغريبة لمن قيل إن لها علاقات مزعومة مع صدام حسين، وهي امرأة مجهولة قالت إن لها علاقات خاصة مع الرئيس العراقي وإنه تحدث عدة مرات مع بن لادن، وهي عملية تضليل من تدبير جون ريندون ولم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وفقا لما ختمت به لونوفيل أوبسرفاتور مادتها.