موقع النيلين:
2025-05-09@22:36:30 GMT

سودان ما بعد الحرب… أليس هذا هو الطريق؟

تاريخ النشر: 10th, April 2025 GMT

(1) أما وقد أزاح السودانيون عن صدورهم كثيراً من أثقال المليشيا المتمردة، فقد يتسنى لهم الآن أن يدركوا بوضوح أنهم قد تعرضوا بالفعل في العامين الماضيين إلى مخاطر “وجودية” كادت أن تقضى عليهم تماماً- دولة وشعباً وأرضاً. لقد كانت هذه المرة الأولى في تاريخهم الحديث أن يجدوا دولتهم محاصرة، وشعبهم مطارداً، وأرضهم وبيوتهم محتلة.

كما كانت هذه المرة الأولى أيضاً التي يستيقظون فيها ليجدوا أن قواتهم المسلحة-المكلفة بحماية أمنهم القومي- قد أُحيط بها تماماً من قبل واحدة من مليشياتها المسلحة، ففقدت السيطرة على معظم مصادر قوتها- من مقار للقيادة ومصانع للذخيرة ومخازن للوقود ومعسكرات للجند وشبكات للاتصال، وتتلفت يمنة ويسرى فلا تجد صديقاً أو حليفاً يهب لنجدتها (ونحن بالطبع لا نزال نجهل ما قاد لهذه الكارثة- خيانة أم تآمر أم نقصان في الكفاءة العسكرية). ولم ينقذ الموقف إلا أن تلجأ القوات المسلحة الجريحة- في ظرف استثنائي نادر الحدوث- إلى عمقها الشعبي، تستنفر المواطنين للدفاع عن الوطن، فيتوجه الشباب- في لحظة فدائية باهظة التكلفة وبالغة الأثر- إلى معسكرات التدريب، ثم لينطلقوا سراعاً إلى معركة الكرامة ليقاتلوا- كتفاً إلى كتف- مع القوات المسلحة حتى يتحقق النصر.
(2) قضية وجود: إن أول الدروس التي يجب أن تستخلص من هذه التجربة المريرة-التي سقط فيها مئات الشهداء والجرحى- هو: أن تقدم قضية “الوجود”- وجود الشعب والأرض والتراث- لتكون لها الأولوية على غيرها من القضايا، وأن يغلق كل منفذ يقود إلى كارثة مماثلة. ولكي يحافظ السودانيون على هذا الوجود ستعترضهم-بتقديري- ثلاث معضلات أساسية يلزمهم التصدي لها ومحاولة إيجاد صيغة للتوفيق بينها وهي؛ معضلة الامن القومي/والتنمية الاقتصادية/والشرعية السياسية. وقد طال-وسيطول- النقاش ويحتد حول هذه المعضلات، وقد تتباعد الآراء حول تفاصيلها، لكن لا بد لهم من التلاقي والتكتل- إن كانوا قد تعلموا شيئاً من هذه الحرب – في ثلاثة مسارات:
(أ‌) تثبيت سيادة الدولة، بحيث تبقى سلطة موحدة ذات قدرة عسكرية عالية تستطيع أن تحافظ على الأرواح، وأن تسيطر على الأرض، وتحمى الحدود، وتضع يدها بحزم على ثروات السودان القومية-ذهبه وبحاره وسمائه؛ خاصة وأن المعركة الوجودية لم تنته بعد، فما يزال المعتدى وحلفاؤه يواصلون العدوان ويطلقون المسيرات ويحرضون الجيران؛
(ب‌) تعزيز الاستثمار في الإمكان الاجتماعي؛ أي تعبئة الطاقات الاجتماعية والعلمية وتوجيهها نحو مشروع وطني يقوم على مضاعفة القدرات الإنتاجية الوطنية (الدفاع والغذاء والدواء معاً). وهذا يقتضي بالضرورة خطة مزدوجة تسعى من جهة لتحديث القاعدة الدفاعية الأمنية وتعظيم قدراتها وجاهزيتها (في مواجهة الموجة الثانية من العدوان)، وتسعى من جهة أخرى لحماية القاعدة الإنتاجية المحلية (في مواجهة الصدمة القادمة من تقلبات الأسواق المالية والتضخم والركود في الاقتصاد العالمي ووكلائه الإقليميين). ولا يمكن لمثل هذه الخطة المزدوجة أن تتحقق إلا أن تتواصل عملية الاستنفار وتُعمّق، فتعود قطاعات الشباب إلى ميادين القتال متى ما دعت الحاجة، وتدلف وحدات الجيش -في أوقات السلم- إلى ميادين الانشاء والإنتاج والتصنيع. أي أن الشراكة “الدفاعية” الناجحة التي قادت إلى النصر في “معركة الكرامة” ينبغي أن تتحول إلى شراكة “بنائية” ناجحة في معركة الإنتاج-زراعة وصناعة ونقلاً واتصالاً وتطويراً وتدويراً. وقد تكون هذه ترجمة عملية لشعار: “جيش واحد شعب واحد”- الشعار الذي ظلت تتغنى به الجماهير طيلة سنوات الحرب- حيث تزول الحواجز بين “الخندق العسكري” و”المختبر العلمي” “ومصنع” الغذاء والدواء والذخيرة، فتستولد مشروعاً عملاقاً للتنمية. ولا ينبغي أن يستغرب أحد مثل هذه الرؤية، وإن فعل فعليه أن يراجع طرفاً من تاريخ المشاريع العملاقة التي صنعت الأمم، كمشروع “مانهاتن” (1942) ليرى كيف تضامن في أوقات الحرب أكاديميون أمريكيون وفرق من الجيش وأرباب صناعات، وكيف حققت أمريكا من خلال ذلك التضامن تفوقها العلمي والتقني والعسكري إلى يوم الناس هذا- ناهيك عن مشاركات عسكرية اكاديمية شعبية صناعية مماثلة نهضت من خلالها دول كثيرة أخرى.
(ت‌) ترفيع القوى الأهلية والمهنية إلى مواقع صناعة القرار: وينبغي أن نتذكر في هذا المقام أن هذه القوى الأهلية الصابرة والقوى المهنية المهاجرة (المغتربة) هي التي تمثل نقاط القوة في المجتمع السوداني. لقد كانت الحرب الراهنة بمثابة اختبار حقيقي على قدرة وصمود هاتين القوتين في وجه الكوارث، فهما اللتان آوتا وأطعمتا وداوتا آلاف الأسر الناجية من جحيم الحرب، وهما اللتان ساهمتا بقوة في حرب الكرامة، ودعمتا القوات المسلحة بالمال والرجال. ويجدر بنا أن نتذكر أيضاً أن المليشيا وحلفاءها الإقليميين لم يسعوا إلى تدمير الدولة وحسب، وإنما سعوا إلى تدمير نقاط القوة في المجتمع الأهلي السوداني ولتجفيف المصادر التي تمده بالحياة؛ فكانت المليشيا حينما تدخل مدينة تدمر أبار المياه ومحولات الكهرباء والأسلاك الناقلة لها، وتعطل الطواحين، وتنهب الصيدليات والمستشفيات ومراكز غسيل الكلى، وتستهدف الشيوخ المحليين- سواء بسواء مع الأطباء والصيادلة والمهندسين.
(3) اكراهات الواقع. لم تبرز الدعوة إلى التكتل حول هذه المسارات المقترحة من عالم الخيال، بقدر ما أبرزها واقع الحال. فلا شك أن السودان يواجه-خاصة بعد الدمار الذي أحدثته الحرب الأخيرة- أوضاعاً إنسانية واجتماعية بالغة الصعوبة، وواقعاً اقتصادياً متردياً. ومما يزيد الوضع سوءاً وجود “فجوة” مخيفة في القيادة. إذ أن النخب السياسية (السابقون لانتفاضة ديسمبر 2018 والصاعدون على أثرها) تشهد صراعات وانقسامات وعداوات داخلية وبينية لا تمكنها في الوقت الراهن من الالتفات إلى المخاطر الوجودية التي تحيط بالسوان والمصائب التي ألمت بالمجتمع السوداني- من انهيار في مؤسساته وضياع لثرواته وتحطيم لمستقبل شبابه، كما لا تمكنها تلك الانقسامات والعداوات من انتهاز الفرص التي قد تنفتح للسودان لجهة ما يتمتع به من موارد طبيعية ومساحات زراعية ومعادن نفيسة وموقع استراتيجي. أما القوى الخارجية الكبرى (أمريكا -أوربا) فلديها الآن ما يكفيها من أزمات داخلية طاحنة، وحروب تجارية شرسة، فلا يتوقع-والحالة هذه- أن تفتح صناديقها لتدعم السودان أو غيره.
ولذلك فليس من الحكمة-والحالة هذه- أن يرتهن مستقبل السودان بأحزابه السياسية، أو أن يعول السودانيون كثيراً على نخبهم السياسية الراهنة. فهذه نخب ضررها أكثر من نفعها؛ يعاني بعضها من علل النشأة، ويعاني بعضها الآخر من علل الشيخوخة، فلا يملك أي منها “فكرة” كبيرة تلهم الجمهور، ولا “قادة” كباراً يستولدون الأفكار ويشحذون الهمم. من الأفضل حينئذ أن تُترك هذه الأحزاب لتعالج-على مهل- أوضاعها الداخلية الخاصة، ولترمم علاقاتها ولتراجع برامجها وأهدافها، ثم تُبلور-بمنأى عنها- كتل وفواعل وتضامنيات اجتماعية أخرى-قوامها الباحثون الخبراء والقوى الاهلية المحلية والزراع ورجال الأعمال وأرباب الصناعة والشباب الناهض أصحاب المصلحة الحقيقية في التنمية- لعلها تكون أقدر على النهوض بمهمة اعمار السودان في الفترة الراهنة. أما الأحزاب فيمكن أن تلحق بالركب الوطني في المحطة القادمة-بعد أن تتعافى.
فإذا صدقنا بهذا فستترب عليه أمور كثيرة، أهمها أن نعيد النظر في توجهاتنا الاقتصادية والسياسة الراهنة.
(أولاً) النموذج الاقتصادي: من الضروري أن نقر في بداية الأمر بأننا نعانى من ارتفاع مخيف في معدلات البطالة، وارتفاع مماثل في تكاليف المعيشة، وتدنى مريع في الإنتاج المحلى، وتدهور في البنية التحتية والهياكل المؤسسية، ومشكلات متفاقمة في قطاعي الصحة والتعليم. ولكن من الضروري أيضاً ألا نكذب على أنفسنا فنبنى أحلامنا على معونات من الخارج أو وعود من الدول المانحة وصناديق الاعمار. علينا أن نعيد النظر في نموذج تفكيرنا الاقتصادي واستبداله بآخر تكون من مسلماته أن الخروج من براثن هذه الكارثة الكبرى ستكون بدايته قيام “دولة قوية راشدة” تحفظ الأمن ثم تجمع الطاقات وتشحذ الهمم نحو هدف قومي استراتيجي رئيسي يتمثل في تحريك عجلة الإنتاج ورفع معدلاته ثم استخدام ما يعود منه لتلبية الحاجات الأساسية لمواطنيها (الأمن والصحة والتعليم).. علينا أن نضع نصب أعيننا نماذج مجتمعات صاعدة (الصين مثلاً) استطاعت أن تعبد طرقها وتبنى جسورها اعتماداً على سواعد أبنائها وظهورهم، واستحضاراً لمثال أجدادهم الأوائل الذين حولوا الجبال وصنعوا المعجزات، وليس على آليات وتجهيزات ممنوحة من الخارج.
ويحضرني في هذا الصدد مثالاً أورده أحد المفكرين المستبصرين لتوضيح الفرق بين الإمكانيات المادية والإمكانات الاجتماعية، فيقول: لو افترضنا أن زلزالاً هائلاً قضى على مدينة نيويورك فان الولايات المتحدة لا تستطيع- اعتماداً على إمكانياتها المادية فقط- أن تشترى مدينة مماثلة لنيويورك؛ ولكنها تستطيع- بالاعتماد على إمكانها الاجتماعي- بناء وإعادة بناء مئات المدن مثل نيويورك؛ فالإمكان الاجتماعي-لا الإمكانيات المادية- هو الذي يقرر مصير الشعوب. وعلى المنوال ذاته يمكن القول إنه في مقدور ثلاثة إلى خمسة مليون شاب سوداني-من ذوي العزيمة الصلبة والتأهيل المهني الرفيع- أن يعيدوا بناء السودان-إذا فسح لهم المجال- وأن يسهموا في تحقيق نهضته كما أسهموا في نهضة بلاد أخرى لم تكن شيئاً مذكورا.
(ثانياً) النموذج السياسي: علينا-معشر السودانيين- أن نغير نموذج تفكيرنا السياسي، فنتوقف في الفترة الراهنة عن الركض وراء الورش السياسية ومؤتمرات الخارج ومسودات الدساتير والمواثيق، فقد جربناها من قبل ولم نحصد غير الهشيم. كما علينا من ناحية أخرى أن نتوقف عن الركض وراء نموذج سياسي (مثالي) لا نملك في الوقت الراهن المعطيات (اللوجستية والأمنية والاقتصادية) التي تؤدى اليه، وأن نبدأ-في مرحلة تعزيز الوجود هذه- ببرنامج الحد الأدنى من الديموقراطية (العدالة وحكم القانون/التمثيل الشعبي الجغرافي/استشارة الخبراء)، ثم نتدرج نحو ديموقراطية أكمل. أما الإصرار على أنه يجب أن نحصل الآن ومنذ البداية على ديموقراطية تنافسية حزبية كاملة، كحال الدول الرأسمالية الغربية (المستقرة اجتماعياً، والمزدهرة اقتصادياً) فهو إصرار في غير محله. إذ أن هذه الدول الغربية ذاتها لم تصل إلى نظمها الديموقراطية الراهنة (على علاتها) دفعة واحدة. وكم من مجتمع في جوارنا الأفريقي وغيره ظل يكافح ويتعلم ويتدرج من نظام اوتوقراطي يحفظ الأمن وحسب، إلى آخر هجين أفضل منه، إلى ثالث أقرب منهما إلى الرشد والصلاح.
(ثالثاً) ماذا نتوقع؟ إذ قدر نجاحٌ للنموذج الاقتصادي التنموي المشار اليه آنفاً فقد لا يؤدى الى صد العدوان وحفظ الأمن ورفع مستوى المعيشة وحسب، وإنما سيؤدى إلى تقليص الفجوة بين العسكريين والأكاديميين ورجال الأعمال، وإلى تقليص الاعتماد على الخارج، وإلى خفض درجة الحرارة السياسية بين المجموعات السياسية المتناحرة، وقد يعيد التوازن بين فئات الهامش المهضوم والحواضر الهاضمة؛ إذ أن استمرار هذه المظالم والضغائن لا يلد إلا مناخات نفسية اجتماعية كارهة للديموقراطية، ومرحبة بالدكتاتورية (كما وقع في بعض المجتمعات الإقليمية المجاورة بعد ثورات الربيع العربي المشهورة). هذا ولا قوة إلا بالله.

التيجاني عبد القادر حامد
9 أبريل 2025

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

السودان: خيارا الإفناء الذاتي والإقليمي

(1)
تتزايد تعقيدات المشهد السوداني يوماً بعد يوم، فيما تتوغّل الحربُ الكارثية إلى عامها الثالـث، ويتواصل النزيف الذي سبّبته تلـك الحـرب ويتواصل قتل الأبرياء من أبناء الشعب السوداني بلا أفق يوقف تلك الحرب. كلّ يومٍ يمرّ على تلك الكارثة التي تجري فصولها داخل السودان، لا يخفى على المتابعين رصد امتداداتها خارج السودان، بما يخرج تصنيف هذه الحرب الكارثية من كونها حرباً أهلـية، إلى صيرورتها حرباً إقليمية بامتياز، بسبب تدخّلات وتقاطع لأجندات ومصالح لأطرافٍ تقع وراء حدود السودان الجغرافية المعلومة. إنّ التحولات التي طرأت على طبيعة الحروبات في سنوات الألفية الثالثة، تجاوزت ما شاع في سنوات القرن العشرين ممّا وقع من حروب بالوكالة، أو حتى عبر تجنيد مرتزقة أو جواسيس. تلك أمور لم تعد لها صلاحية في السنوات الماثلة، سنوات الثورة الرقمية واتساع رقعة الشفافية المعلوماتية، وانكشاف بقاع العالم على بعضها البعض بحيثيات افتراضية كاسحة.
تلك تطورات أدخلت العالم إلى مرحلة تجاوزت عبرها المعطيات التقليدية التي ظلتْ سائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، بقصد كبح جماح الصراعات التي قد تنشب بين أطراف المجتمع الدولي، وفق التعريف الذي بدأ يتهاوى في سنوات الألفية الثالثة.

(2)
إنّ نظرة واحدة لمجمل الصراعات التي تحوّلتْ إلى حروبٍ طاحنةٍ، مثل ما وقع بين روسيا وأوكرانيا، أو بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، أو الحرب الدائرة في السودان بين أطرافه الداخلية بامتداداتها الخارجية، تقنع أيَّ متابعٍ أنَّ ما توافق عليه المجتمع الدولي من مبادئ لحفظ السلم والأمن الدوليين ، بات هرطقة لغوية لا علاقة لها بالواقع الماثل. إنّ جميع هيئات ومنظمات المجتمع الدولي، باتت محض ظواهر صوتية، تجعجع دون طحن، وتولول لموت قتيل ولا تملك أن تعاقب قاتله.
لم يلتفت رئيس إسرائيلي إلى أيّ طرف دولي أو غير دولي، ليدير ما يشبه حرب إبادةٍ جماعية لشعب فاسطيني أعزل، يذبح وتدمر مدنه وقراه ويُجبر على الخـروج
إلى دياسبورا. كأنّ زعماء الدولة الصهيونية ينتقمون من عرب فلسطين ويذيقونهم ما ناله اليهود عبر تاريخهم في الشتات الطويل. إنهم يصنعون دياسبورا عربية، مستغلين عجز المجتمع الدولي عن ردعهم، ومتكئين على سيطرتهم بطريق غير مباشر على أطراف دولية نافذة ارتهنت إرادتها لهم.

(3)
ثمَّ نرى تصاعد الاشتباكات بين روسيا وأوكرانيا، حربا يقف العالم أمامها على أطراف أصابعه إن تواصلت تعقيدات تلك الحرب لتكون حربا نووية تأخذ العالم إلى إفناءٍ متبادل. تراجعت تلك الحرب بفراسخ بعيدة عن المجتمع الدولي، لتعزِّز عجز منظماتها عن التذكير بقيم ومبادئ حفظ السّلم والأمن الدوليين. هكذا بقيتْ الأمم المتحدة غير مأسوفٍ عليها، ظاهرة لسانية مبحوحة الصوت.
أمّا الحرب الدائرة في السودان فقد ظلت - على تنافس أطرافها -وبعضهم قبِلَ أن يكون وكيلا عن أطراف خارجية- في تدمير ثاني أكبر دولة مساحة وموارد وسكانا- شأناً منسياً، وتعجز حتى المنظمة الأممية عن لجم الاشتباكات فيها، وهي دولة من دول العالم الثالث الهشّة. إن التصعيد الماثل في حرب السودان وفي مشهد من مشاهد الحروب التي تدار اشتباكاتها بأسلحة الجيل الجديد الافتراضية، من طائرات بطيّارٍ أو بدون طيار، أو مسيّرات انتحارية أو مسيًرات ذكية تدمِّر وتهرب، يتجاوز تصنيفها محض حربٍ أهلية داخلية، لأن تكون حرباً إقليمية افتراضية، تتقاطع في فضائها مصالحُ بلدانٍ في الاقليم، وربما خارج الإقليم. إن الاشتباكات والضربات الموجعة في الحرب السودانية، من أطراف يصعب رصدها، قد تفتح بابا لشكوك حول استهداف على البعد يأتي من جهات وراء حدود السودان.

(4)
لعلّ الأخطر في مشهد السودان الماثل، هو إصرار الأطراف المتقاتلة على تواصل الاشتباكات بدعم من أطراف خارجية خفية، بما قد يفضي إلى تصعيد تسفر فيها تلك الأطراف بصورة جلية. إن اقدام السلطات العسكرية في السودان، خاصة بعد تعمد استهدافها في مقرها في العاصمة المؤقتة، للإعلان عن موافقتها على استضافة قاعدة عسكرية روسية في السواحل السودانية للبحر الأحمر، سيفتح باباً لتدويل عسكري لكامل الدول المشاطئة لذلك البحر. إن التصعيد الذي يجري الآن في معاقبة الحوثيين في اليمن، بمشاركة إسرائيل والولايات المتحدة، يجعل من احتمالات جعل ذلك الإقليم ساحة لمواجهات إقليمية ودولية أيضا.
يبقى على السلطات العسكرية في السودان أن تتحسب لتلك التطورات، وإلا ستكون طرفا في مواجهات عسكرية ذات أبعاد إقليمية وربما دولية، لن يكتب بعدها للسودان إلّا الفناء.
العربي الجديد اللندنية
القاهرة – 6 مايو 2025

   

مقالات مشابهة

  • السودان: خيارا الإفناء الذاتي والإقليمي
  • مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين يدين الهجمات التي استهدفت المنشآت الحيوية والاستراتجية بالسودان
  • بعد فشل كل المسارات التي اتبعها السودان، يكون قطع العلاقات هو بداية للحل
  • المسيّرات… حرب السعودية ومصر!! (2/2)
  • لماذا الهجوم على بورتسودان الآن؟
  • هل انتهت الحرب في السودان؟
  • عادل الباز يكتب: المسيّرات… حرب السعودية ومصر!!
  • اقْتِصَادَاتُ الحَل التَفَاوُضِي فِي السُودِان
  • لهيب أسود يلتهم نبض السودان
  • الفاتورة السياسية لإحتلال مدن وسط السودان كانت عالية، كذلك ستكون فاتورة الضربات الجوية