في ذات رمضان مضى ابتدع الأستاذ شكر إلله خلف الله برنامجا تلفزيونيا ممتدا مع الفنان محمد وردي كان يبث في حلقات يومية كسهرة. تقوم فكرته على إحضار شخصية من خارج الوسط الفني تقوم بإجراء حوار مفتوح مع وردي تتخلله بعض أغنياته التي تبقى بمكتبة التلفزيون بعد البث. اسند لي شكرالله حلقة من تلك الحلقات فناقشت وردي عن أغانيه التي غناها لمايو مثل (في حكاباتنا مايو) و (يا حارسا وفارسنا) وقلت اننا كنا نطرب لها لما فيها من ألحان شجية وموسيقى رائعة وأداء ممتاز وحتى كلماتها يمكن أن تتعامل معها الأجيال اللاحقة التي لم تشهد الصراع السياسي في مايو كتراث فلماذا تحرم منها ففاجاني بالقول إنه نادم عليها لأنه ضلل بها الشعب السوداني فمايو لم تكن كذلك فدافعت عن وجهة نظري فاحتد النقاش بيننا لدرجة توقف التسجيل عدة مرات فالرجل كان منفعلا بينما كنت هادئا اتبسم مما زاد أنفعاله.
بعد حوالي عامين من تلك المقابلة فوجئت بوردي وفي لقاء مع الاستاذ حسين خوجلي متحدثا عن تجربته الفنية الطويلة قائلا بأنه يفخر بكل ما قدمه بما في ذلك غنائه الذي يصنف بأنه سياسي لأنه غناه في ساعة قناعة ولا ذنب له في تغيير الأنظمة لسياساتها فالمهم انه قدم الحانا جيدة وأداء رفيعا فاثري المكتبة الغنائية السودانية.. لقد سعدت بما قاله وردي ولا أزعم إطلاقا انه قدتبني وجهة نظري بل لأنه فرق بين الفن والسياسة فوقف موقف فني من غنائه
مناسبة كل هذة الرمية الطويلة هو أنني توقفت عند عبارة (شلت طيارتي ومشيت) التي وردت في خطبة عبد الرحيم دقلو الشهيرة والأخيرة وقد تناولت هذة الخطبة من حيث مضمونها السياسي الكارثي هنا قبل أيام.. لقدتوقفت عند تلك العبارة معجبا بها لأنها تدل على أن لغة هؤلاء القوم فيها شي من البلاغة حيث الاستعارة والتشابيه المقلوبة لقد ذكرتني بعبارة للشاعر المجيد عاطف خيري التي تقول (كان لابسا الفستان… مشحونة بالأسرار) في اغنية لسيف الجامعة يقول مطلعها (وصتني وصيتها.. قالت لي اترجل…. خليك في الواقع.. اصلو الفراق واقع…. أكان ترضى كان تزعل.. )اختلاف الرأى السياسي لايلغي الموقف الفني لأن السياسة تخاطب العقل بينما الفن يخاطب الوجدان وكلا العقل والوجدان يؤثر بطريقته فإذا قرب الوجدان بين الناس ينبغي أن نرحب بذلك فهذا يقلل من حدة الاستقطاب و يقلل من شدة خطاب الكراهية فما أحوجنا لذلك فدعونا نبحث دوما عن الجمال في الأشياء ولو بالفتاشة وعليكم بالفنون فإنها تقرب المسافات
عبد اللطيف البوني
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
فرنسا بين الانفجار والانفراج السياسي
تعيش فرنسا منذ ما يقارب العام أزمة سياسية، اقتصادية، اجتماعية وحزبية لم تشهدها منذ عقود، وما يؤكد تلك الأزمة هو استقالة ثلاثة وزراء حكومة خلال عام، آخرها استقالة سيباستيان ليكورنو، الذي لم تدم حكومته أقل من خمس عشرة ساعة، وذلك بعد فشله في إقناع الأحزاب السياسية لتمرير خطة الميزانية الفرنسية للعام 2026، بل ولاصطدامه بالعديد من النقاط الخلافية التي ترفضها الأحزاب وبخاصة حزب اليمين المتطرف، بالإضافة إلى الأحزاب اليسارية، والمتعلقة بالتقشف في الإنفاق، وتأثير ذلك على الطبقات الكادحة، وقانون التقاعد الاجتماعي الذي كان قد أقره الرئيس الفرنسي رغم رفض غالبية المجتمع الفرنسي لهذا القانون، وما صاحبه من احتجاجات فرنسية متواصلة من جانب الفرنسيين، ومن جانب الأحزاب اليسارية، ورغم قبول الرئيس إيمانويل ماكرون استقالة ليكورنو، إلا أنه قد أمره بالاجتماع بقادة الأحزاب من أجل التوصل إلى انفراجة لتلك الأزمة السياسية التي تعصف بفرنسا، وبالفعل فقد تمكن ليكورنو من إقناع بعض الأحزاب بتقبل تعيين رئيس للحكومة المقبلة، وعدم رغبة قادة بعض الأحزاب في إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ومما أدى إلى تفاقم تلك الأزمة أيضا هو أن الانتخابات البرلمانية التي أجريت منذ أكثر من عام قد أسفرت عن برلمان معلق ومنقسم لثلاث كتل أحزاب معارضة لم تتمكن كل منها من الحصول على الأغلبية، ومنها حزب ماكرون الذي جاء ثانيا، الأمر الذي حرمه من مواصلة مدته الرئاسية بأريحية مقابل أغلبية نسبية لأحزاب اليسار مجتمعة، ليجد الرئيس الفرنسي الذي اجتمع مؤخرا بقصر الإليزيه من أجل الخروج من تلك الأزمة إما بنجاحه في اختيار رئيس حكومة متوافق عليه ومقبول من الأحزاب، وإما بتبكير الانتخابات البرلمانية، أو أن يجد الرئيس ماكرون نفسه مجبرا على تقديم استقالته قبل نهاية مدته الرئاسية، لِمَ لا والوضع الاقتصادي والاجتماعي يزداد تدهورا، والانتقادات تزداد من جانب المعارضة وبعض الأحزاب، ومن جانب الشارع الفرنسي، وكلها انتقادات تنهال على الرئيس ماكرون بسبب زيادة الدين الخارجي لفرنسا، والذي تخطى الثلاثة تريليونات يورو، مع تدهور الأوضاع الاجتماعية وتراجع القوى الشرائية للفرنسيين، الذين يجدون أنفسهم أمام مشروع ميزانية تتطلب توفير أكثر من 60 مليار يورو، انطلاقا من مشروع رئيس الوزراء السابق فرانسوا بايرو الذي كان قد اعتمد فيها على التقشف وتقليل النفقات الحكومية، وإلغاء بعض العطلات الرسمية، وإلغاء بعض المساعدات الاجتماعية التي تمس الغالبية الكبرى من الفرنسيين.
ومع الاقتراب من انفجار تلك الأزمة وتداعياتها السلبية الخطيرة على الاقتصاد الفرنسي، بل وتأثيرها على دول الاتحاد الأوروبي فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يأمل من خلال اجتماعه بقادة الأحزاب باستثناء حزب فرنسا الأبية، وحزب التجمع الوطني يوم الجمعة الماضي الموافق العاشر من أكتوبر بالتوصل إلى انفراجة، وحل مرضٍ لتلك الأزمة.
وفي حال تراجعه عن بعض القرارات يمكن أن يتوصل ماكرون إلى إحداث انفراجة في تلك الأزمة، فإما أن يقوم بتعيين رئيس حكومة مرة أخرى من أحزاب اليمين، وعندها سيكون قراره هذا بمثابة استفزاز للفرنسيين، واستمرار للأزمة، وفي حال تعيينه لرئيس وزراء اشتراكي بشروط قوى وقادة اليسار، فإن هذا القرار سوف يزعج الأحزاب اليمينية التي يمكن أن ترفض هذا التعيين، وعلى الجانب الآخر فإن رئيس حزب فرنسا الأبية "جان لوك ميلونشون" كان قد قدم عريضة من أجل عزل الرئيس ماكرون، والتي لم تحصل بدورها على الدعم الكافي من نواب البرلمان من أجل تمريرها، وأيضا فإن رئيسة حزب اليمين المتطرف جوردان بارديلا قد أعلنت هي الأخرى عن غضبها ورفضها لأي حكومة جديدة، ومطالبتها بإجراء انتخابات برلمانية تسعى في حال حدوثها على حصولها على الأغلبية، ومطالبتها الرئيس ماكرون بتقديم استقالته، وتحمل مسئولياته الكاملة عن تلك الأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية التي تعيشها فرنسا، فهل يمكن أن يتمكن الرئيس ماكرون من وضع حل مرضٍ لتلك الأزمة، أم أنه سيواصل تعنته السياسي وإيصال البلاد إلى الانفجار-وهو أمر لا يتمناه الفرنسيون والأوروبيون-؟