ما تأثيرات تدمير واشنطن ميناء رأس عيسى على اقتصاد اليمن؟
تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT
تسود اليمن مخاوف واسعة من أضرار اقتصادية جسيمة جراء الغارات الأميركية التي استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي الإستراتيجي في محافظة الحديدة المطلة على البحر الأحمر غربي البلاد.
وفي مساء الخميس الماضي، أعلنت القيادة المركزية الأميركية في بيان أنها دمرت منصة الوقود في ميناء رأس عيسى الخاضع لسيطرة جماعة الحوثي، واعتبرته "مصدرًا رئيسيًا للوقود الذي يستخدم في تمويل أنشطة الجماعة المدعومة من إيران".
من جهتها، أعلنت جماعة الحوثي أن الميناء تعرض لسلسلة غارات أميركية أسفرت عن مقتل 80 شخصًا وإصابة 150 آخرين من عمال الميناء، في حصيلة تُعد الأعلى منذ بدء التدخل العسكري الأميركي في اليمن مطلع عام 2024.
تأثيرات اقتصادية متعددةيتوقع خبراء أن يؤدي تدمير الميناء إلى انعكاسات اقتصادية مباشرة، لا تقتصر على جماعة الحوثي، بل تمتد إلى حياة المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
ويقول الكاتب والباحث اليمني عبد الواسع الفاتكي إن ميناء رأس عيسى يُعد من أهم المنافذ البحرية التي ما زالت تحت سيطرة الحوثيين، وإن تدميره يشكل تطورًا خطيرًا ينعكس على الوضع الاقتصادي للجماعة والسكان المحليين على حد سواء.
إعلانوأوضح الفاتكي في حديثه للجزيرة نت أن توقف الميناء سيؤدي إلى أزمة خانقة في إمدادات الوقود، وارتفاع أسعاره في السوق المحلية، مما يخلق فجوة تموينية تزيد من تكلفة السلع والخدمات، ويؤثر بشكل مباشر على تكاليف النقل والإنتاج.
وأشار إلى أن قطاعات حيوية عدة ستتأثر جراء الضربة الأمركية على الشكل التالي:
الكهرباء التي تمد المنازل والصناعة ستتأثر بشدة ستكون الزراعة من أبرز المتضررين، نظرًا لاعتمادها على الوقود في تشغيل مضخات المياه. ستواجه المستشفيات والمرافق الصحية صعوبات كبيرة بسبب نقص إمدادات الطاقة، ما سيرفع من كلفة الخدمات الطبية، وربما يعيق تقديمها بالكامل.ونبه إلى أن الأثر الإنساني والاجتماعي سيكون بالغًا، خاصة مع تقيد حركة السلع داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وهو ما سيؤدي إلى صعوبات كبيرة في إيصال المساعدات الإنسانية، لا سيما إلى المناطق النائية، مما قد يفاقم من أزمة انعدام الأمن الغذائي في البلاد.
وأضاف الفاتكي أن "إذا كانت الولايات المتحدة تهدف من خلال تدمير ميناء رأس عيسى إلى توجيه ضربة اقتصادية موجعة للحوثيين، فعليها أن تراعي التداعيات الخطيرة على المدنيين، وأن تعمل على إيجاد بدائل تضمن استمرار تدفق الوقود والمساعدات الإنسانية إلى السكان".
وتوقع الباحث اليمني أن تستمر الولايات المتحدة في استهداف ما تعتبره مصادر تمويل ودعم للحوثيين، سواء عبر ضربات عسكرية مباشرة أو من خلال قصف منشآت مدنية يُعتقد أنها تساهم في تمويل الجماعة اقتصاديًا. وشدد في هذا السياق على أهمية تحييد المنشآت المدنية والحيوية في أي عملية عسكرية، لأن المتضرر الأول منها سيكون المدنيون، بينما تبقى الأضرار التي تلحق بالجماعة غالبًا محدودة على المدى الطويل.
مورد اقتصادي رئيسي للحوثيينويرى الدكتور محمد قحطان، أستاذ الاقتصاد بجامعة تعز (جنوب صنعاء)، أن تدمير ميناء رأس عيسى يقطع الشريان الرئيسي الذي تعتمد عليه جماعة الحوثي في تمويل أنشطتها. وقال إن الميناء كان يستقبل المشتقات النفطية والغاز المنزلي التي تُستخدم لتشغيل المعدات العسكرية وتلبية احتياجات السوق في مناطق سيطرة الجماعة.
إعلانوأضاف قحطان أن جزءا كبيرا من هذه الإمدادات يأتي عبر مساعدات من إيران أو يتم استيراده من قبل تجار مرتبطين بالجماعة، وأن توقف الميناء سيؤدي إلى انقطاع هذه الموارد، مما سيضعف قدراتهم المالية واللوجستية بشكل ملحوظ.
ورغم ذلك، يشير الأكاديمي اليمني إلى أن هناك بدائل محتملة يمكن من خلالها تلبية احتياجات السوق اليمنية من الوقود والغاز، أبرزها موانئ الحكومة الشرعية في عدن، وشبوة، وحضرموت، التي يمكن أن توفر هذه المواد بأسعار أقل، وفقًا لتصريحات مسؤولين في موانئ خليج عدن.
كما لفت إلى إمكانية استيراد الغاز من محافظة مأرب لتغطية النقص. ورأى قحطان أن هذه البدائل قد تضمن عدم تضرر المواطنين بشكل كبير، ما قد يدفع الحوثيين إلى الدخول في مفاوضات مع الحكومة الشرعية للخروج من الأزمة الاقتصادية واستئناف تصدير النفط والغاز، وإنهاء حالة الانقسام المالي والنقدي التي يعاني منها اليمن.
من جانبه، قال الصحفي الاقتصادي وفيق صالح إن خروج ميناء رأس عيسى عن الخدمة يعني توقف النشاط الملاحي فيه بشكل كامل، بعد أن ظل لسنوات المنفذ الرئيسي لاستيراد الوقود والمشتقات النفطية، خاصة من قبل شركات محسوبة على جماعة الحوثي.
وأوضح صالح في حديثه للجزيرة نت أن توقف الميناء سيتسبب في إشكاليات كبيرة في سلاسل الإمداد، ويعيق وصول المواد الغذائية والسلع الأساسية إلى الأسواق المحلية، ما يشكل خسارة كبيرة للحوثيين، الذين كانوا يحصلون على موارد مالية ضخمة من خلال فرض رسوم جمركية وضرائب على السلع الواردة عبر الميناء.
وأكد أن عرقلة وصول المواد الغذائية ستزيد من تعقيد الوضع الإنساني المتدهور في اليمن، لكنه أشار إلى إمكانية التخفيف من آثار هذه الأزمة من خلال تطوير وتجهيز الموانئ اليمنية الأخرى الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية، مثل موانئ عدن والمكلا والمخا، لاستيعاب السفن التجارية وسفن الحاويات، وضمان استقرار التموين الغذائي في الأسواق المحلية، إلى جانب تسهيل دخول الوقود والسلع عبر المنافذ البرية.
إعلان انعكاسات سلبية على الإمدادات النفطيةوأدانت جماعة الحوثي في عدة بيانات تدمير الميناء، محذّرة من تداعيات اقتصادية وإنسانية كبيرة. وقالت مؤسسة موانئ البحر الأحمر اليمنية التابعة للجماعة إن القصف الأميركي تسبب في "أضرار بالغة بميناء رأس عيسى"، مما أدى إلى تعطيل نشاطه الحيوي بالكامل.
وأضافت المؤسسة أن هذا التعطيل "سينعكس سلباً على حركة الملاحة البحرية والإمدادات النفطية، وسيزيد من معاناة الشعب اليمني التي تفاقمت جراء الحصار المفروض منذ أكثر من عشر سنوات". وأكدت أن الميناء يُعد من الأعمدة الأساسية في تأمين الوقود لسكان اليمن، وأنه مرتبط ارتباطًا مباشرًا بمعيشة المواطنين واحتياجاتهم اليومية.
ويقع ميناء رأس عيسى النفطي في الشمال الغربي من مدينة الحديدة، ويبعد عنها نحو 42 ميلاً بحرياً و78 كيلومتراً براً. وقد بدأ العمل فيه كمرسى إضافي يتبع لإدارة ميناء الصليف منذ فبراير/شباط 2016، بعد استكمال بناء الخزانات الخاصة به في عام 2014.
ووفقاً للموقع الإلكتروني لوزارة الأشغال في صنعاء، يُعد ميناء رأس عيسى من أعمق الموانئ التابعة لمؤسسة موانئ البحر الأحمر، حيث يتمتع بقدرة على استقبال ناقلات نفطية عملاقة، بفضل أعماقه الطبيعية التي تصل إلى 50 متراً، و16 متراً قرب الساحل.
تحميه من الغرب جزيرة كمران، مما يوفر له حماية طبيعية من الأمواج، ويجعله منطقة رسو آمنة. كما أن المساحة المائية الواسعة لبحيرة الميناء وحوض المرسى تمكّنه من استيعاب أكثر من 50 سفينة وناقلة في وقت واحد، ما يجعله من أبرز الموانئ الاستراتيجية في اليمن.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات میناء رأس عیسى البحر الأحمر جماعة الحوثی من خلال
إقرأ أيضاً:
«اقتصاد ما بعد النفط»رحلة سلطنة عُمان نحو التعقيد الاقتصادي
د. يوسف بن حمد البلوشي -
لم يعد ازدهار الدول على المدى الطويل يُقاس بحجم الموارد الطبيعية والبشرية ورأس المال وبما في باطن الأرض، بل بقدرتها على دمج المعرفة في منتجاتها وعملياتها ومجتمعاتها. ففي اقتصاد تتسارع فيه التحولات، وتتقاطع فيه حدود المعرفة والتقنية؛ أصبحت القدرة على إنتاج الأفكار، وتطويعها في خدمة الاقتصاد مقياس التقدّم الحقيقي. ولم يعد الازدهار رهينًا بوفرة الموارد، بل مرهونًا بمدى ما تبنيه الأمم من أنظمة معرفية تُترجم العلم إلى قيمة، والابتكار إلى إنتاجية، والمعرفة إلى ميزة تنافسية. وفي إطار سعينا المستمر لتقديم رؤية شاملة ومتعمقة حول مقومات التنمية الاقتصادي في هذا البلد العزيز. نسلط في هذا المقال الضوء على مؤشر التعقيد الاقتصادي الذي يمثل أداة قياس متقدمة تعكس حقيقة تقدم الأمم ونموها بعيدًا عن المؤشرات التقليدية مثل الناتج المحلي الإجمالي، ومعدلات الباحثين عن عمل. إذ يقيس هذا المؤشر المحفزات والدوافع الكامنة للنمو المستدام على المدى الطويل من خلال تقييم مدى تنوع المعرفة، وتعقيدها داخل الهياكل الإنتاجية للاقتصاد ما يعكس قدرة الاقتصاد على الابتكار، والتطور، والتكيف مع المتغيرات العالمية.
وسنحاول الإجابة في السطور المقبلة على سؤال مفاده: «أين تقف سلطنة عمان في مؤشر التعقيد الاقتصادي؟» وسوف نستعين في إجابتنا على بيانات مختبر النمو ومركز التنمية الدولية في جامعة هارفارد، ومرصد التعقيد الاقتصادي التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
مُؤشر التعقيد الاقتصادي هو مقياس شامل يعكس خصائص الإنتاج في بلد مُعين؛ حيث يُبين حجم المعرفة المتراكمة التي تمتلكها الدولة، والتي تُترجِم قدرتها على مواصلة الابتكار، والتصنيع، والإنتاج المتنوع، وتُقيم هذه المعرفة من خلال تحليل مدى تنوّع وتطوّر مجموعة المنتجات الصناعيّة التي تمكّنها من المنافسة على المستويين الإقليمي والعالمي، ما يسهم في دفع عجلة ازدهارها الاقتصادي.
لذلك؛ هناك علاقة طردية بين حجم المعرفة الإنتاجية المتراكمة في المجتمع، وتنوع المنتجات التي يستطيع هذا المجتمع إنتاجها. وهناك علاقة إيجابية بين درجة التعقيد الاقتصادي، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي. يتشكل التعقيد الاقتصادي تدريجيًا عبر الزمن من خلال تكرار دورات الابتكار، وتطوير القدرات، وتنويع الأنشطة الإنتاجية. ويرتكز مؤشر التعقيد الاقتصادي على عاملين رئيسيين: التنوع الذي يعكس عدد المنتجات القابلة للإنتاج محليًا، والوفرة التي تقيس مدى انتشار كل منتج على مستوى الدول. ولقد أثبتت أقوى الاقتصادات العالمية، مثل: اليابان، وألمانيا، وكوريا الجنوبية أن تحقيق الثراء الاقتصادي لا يأتي فقط من خلال زيادة حجم الصادرات، بل من خلال تصدير منتجات عالية التعقيد تتطلب مهارات وتقنيات متقدمة لا يمتلكها إلا عدد محدود من الدول. ومع تزايد تعقيد سلة صادرات الدولة تتحسن جودة مؤسساتها، وتعزز نظمها التعليمية، وترتقي بنيتها الأساسية، وتنمو كفاءات قوتها العاملة. وهذا هو المسار الذي يجب أن تسلكه بلدنا العزيز؛ لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة ترتكز على الابتكار، والتنافسية العالمية.
وفي ظل التحديات الهيكلية التي يعاني منها اقتصادنا المحلي تزداد أهمية مؤشر التعقيد الاقتصادي كأداة رئيسية لفهم أبعاد هذه التحديات، لا سيما محدودية القدرة على خلق فرص عمل ذات دخول مرتفعة. كما يبرز من خلاله الحاجة الملحة لإعادة النظر في النموذج الاقتصادي الحالي؛ بهدف التحول نحو نموذج تنموي يرتكز على قاعدة إنتاجية قوية، وتعزيز القدرات الاستثمارية والصناعية والتصديرية. وخاصة في ضوء تواضع السوق المحلي، ومحدودية درجة تنوع وتعقيد المنتجات المصدرة. ونستطيع من خلال هذا المؤشر تشخيص مكامن الضعف في الهياكل الإنتاجية، وتحديد القطاعات الواعدة التي تمتلك إمكانيات النمو والتوسع.
ووفقًا لبيانات العام 2023م؛ فقد احتلت سلطنة عُمان المرتبة 66 من أصل 145 دولة بدرجة تعقيد بلغت -0.15 ما يضعها ضمن الشريحة المتوسطة الدنيا عالميًا. وتعتبر هذه الدرجة من التعقيد متواضعة لدولة في نفس مستوى دخل وموارد سلطنة عمان. وهنا من المهم أن نفهم أن هذا التصنيف لا يعكس نقصًا في الجهد أو الطموح، بل يعكس نقصًا هيكليًا في الاستثمار في القطاعات الغنية بالقيمة المضافة والمعرفة. ونشير هنا إلى أن ملف الصادرات العُمانية الذي لا يزال تهيمن عليه صادرات الهيدروكربونات، والمواد الأساسية مثل: النفط الخام، والأسمدة، والمعادن نصف المصنعة. وعلى الرغم من أن هذه الصادرات قد خدمت الاقتصاد الوطني جيدًا عبر السنوات، إلا أنها لا تمثل اقتصادًا معقدًا. إنها تمثل الأساس، لكنها ليست المستقبل.
ودائما نؤكد أننا في سلطنة عُمان أمام نقطة تحول محورية في تاريخنا الاقتصادي، وأمام تغيرات كبيرة فإما أن نتقدم وإما أن نتقادم. فالعناصر الأساسية للتنمية المتمثلة في العلاقات الدولية، والمكانة الرفيعة بين الأمم، وتوافر البنية التحتية على أفضل المستويات، والموارد والموقع الجغرافي الاستراتيجي أصبحت أكثر جاهزية من أي وقت مضى. وقد أولت الحكومة أولوية واضحة للتنويع هياكل الإنتاج ضمن رؤية عُمان 2040، كما تشهد بيئة الأعمال والمناطق الاقتصادية الخاصة تحسناً وتزايدا في تدفق الاستثمارات نحو قطاعات التنويع، ومجالات اللوجستيات، والطاقة الخضراء، والتصنيع. وعلى الرغم من كل هذه الجهود تُظهر البيانات الخاصة بالاقتصاد العماني أن التطور في مؤشر التعقيد الاقتصادي لا يزال محدودا، وهو ما يمثل بدوره فرصة استراتيجية.
مهمة يمكن الاستفادة منها في دفع مسيرة التنويع الاقتصادي وتعزيز الإنتاجية، فمن خلال استهداف القطاعات عالية التعقيد بشكل استراتيجي، يمكن لبلدنا العزيز تحقيق تحولات نوعية في الحراك الاقتصادي والإنتاجي وحتى في هويتنا الاقتصادية، ومن المهم أن نفهم أن التعقيد لا يعني تكرار ما نقوم به من أعمال وسياسات؛ فبدلًا من أن نكون دولة تُصدّر الأسماك، يجب أن نصبح مُنتجين لتكنولوجيا الأحياء البحرية، وبدلًا من مجرد استخراج النحاس، أن نصبح مركزًا لسلسلة القيمة الخضراء للنحاس، وأن ننتقل من استيراد الغذاء إلى قيادة إقليمية في معالجة الأغذية والتكنولوجيا الزراعية، ومن استخدام خدمات النقل إلى تقديم حلول نقل ذكية متكاملة.
القطاعات التي ترتبط بالتعقيد الاقتصادي العالي معروفة ومتاحة تمامًا لسلطنة عُمان، وكما أوضح مختبر النمو بجامعة هارفارد والتقارير الحديثة علينا زيادة درجة التعقيد في اقتصادنا والتركيز على القطاعات: التصنيع المتقدم (الإلكترونيات، والآلات، والمكونات الصناعية)، والصناعات الدوائية والكيماويات المتخصصة، واللوجستيات الذكية والنقل عالي التقنية، والتقنيات الخضراء والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا الزراعية ومعالجة الأغذية، وصناعات الشق السفلي؛ هذه ليست مغامرة غير محسوبة، بل أهداف واضحة مدعومة بالبيانات، وتقع هذه القطاعات ضمن المزايا النسبية للاقتصاد العماني وتركيبته الحالية على خريطة «فضاء المنتجات»، وهي بطبيعة الحال لا تمثل قناعات شخصية فقط، بل خطوات استراتيجية تعد بتحولات نوعية كبرى بما يتناسب مع نسيج الاقتصادي العماني.
ويجب أن يتطور اهتمامنا ليتجاوز الاهتمام بتمويل القطاعات التقليدية فقط، ليصبح محفزًا وطنيًا للتعقيد الاقتصادي، وهذا يتطلب إعطاء الأولوية للقطاعات القائمة على الابتكار التي تقدم إنتاجًا معقدًا عالي القيمة، وفي الوقت نفسه الاهتمام بالمشاريع التي تجذب القدرات العالمية وتنقل المعرفة محليًا، وتعزيز المبادرات في الاقتصاد الدائري، ويتطلب هذا التحول النوعي لاقتصاد أكثر تعقيدا إعادة تصميم نماذج المخاطر الحالية، وبالرغم من أن القطاعات عالية التعقيد قد تبدو أكثر خطورة على المدى القصير، إلا أنها تقدم عوائد استثنائية في التوظيف والصادرات على المدى الطويل.
إنّ الاستثمار في تعقيد سلاسل القيمة المحلية يعني بالضرورة الاستثمار في رأس المال البشري، وتحديدًا في تطوير القوى العاملة الماهرة؛ فلا يمكن لأي اقتصاد معقد أن يزدهر دون قاعدة بشرية مؤهلة تمتلك المهارات والمعرفة القادرة على دعم الابتكار والإنتاج المتقدم.
ويجب أن تتحول سياسات التعمين الحالية من مجرد تحقيق نسب مستهدفة إلى تنمية حقيقية للمهارات، ومن الضروري مواءمة برامج التدريب المهني والمناهج الجامعية والتعليم الفني مع احتياجات اقتصاد المستقبل، وقد يشمل ذلك إنشاء مختبرات التصميم الصناعي في المناطق الصناعية بصحار، وإطلاق أكاديميات للذكاء الاصطناعي والأتمتة داخل المناطق الحرة بالدقم، وتشجيع حاضنات للتكنولوجيا الزراعية بالمنطقة الحرة بصلالة؛ والأهم من ذلك، غرس ثقافة وشغف المعرفة والعمل والإنتاجية.
ومن الضروري إعادة تعريف النجاح الاقتصادي؛ حيث لم يعد النجاح يُقاس فقط بنمو الناتج المحلي الإجمالي والمؤشرات الكلية القائمة على سعر النفط، بل بجودة وشمولية ذلك النمو لمختلف القطاعات والشرائح.
المجتمعية ودرجة تعقيد منتجاته، وتمكين المواطنين وتحسين مستوى معيشتهم وخلق فرص العمل، وتحصين جدار الثقة وزيادة قدرة البلاد على الصمود في وجه الأزمات العالمية. ولا يخفى أن مؤشر التعقيد الاقتصادي يوفر عدسة قوية لقياس التقدم الحقيقي؛ فلنا أن نتخيل مستقبلًا لا تقوده صادرات السلع الخام، بل منتجات عالية القيمة، مستقبلًا تكون فيه المنتجات العُمانية مطلوبة عالميًا، وتُعرف ليس فقط بجودتها، بل بتفردها، وصناعات لا تقتصر على التجميع، بل تتبنى البحث والتطوير وتصنع الفارق. إن تحقيق هذا المستقبل ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية لتحقيق الاستدامة والتقدم الاقتصادي الحقيقي.
وكما نؤكد دائما أن مصير الدول ليس مُحددًا مسبقًا؛ بل يُصاغ ويصنع من خلال السياسات الوطنية وتبني مسار التعقيد، فلنصنع مستقبلنا الذي يستوجب حشد الهمم والموارد والطاقات. ولتحقيق التحول المنشود، لا بد من الانتقال من عقلية الندرة وشح الموارد إلى تبني عقلية ترى في المعرفة وفرة لا تنضب، وتُسخّر أدوات الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، لتمكين الإنسان وتعظيم القيمة المضافة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وختامًا نقول: إن واقع مؤشر التعقيد الاقتصادي في الاقتصاد العماني لا يزال دون مستوى الطموح، ولا ينسجم مع تطلعات «رؤية عُمان 2040»، الأمر الذي يستوجب تحركًا استباقيًّا ومعالجة استراتيجية لا تحتمل التأجيل؛ فالفهم العميق لهذا المؤشر لا يمنحنا فقط أداة للتشخيص، بل بوابة لإعادة هندسة الاقتصاد العماني نحو مزيد من الابتكار والمعرفة والتنوع، وأنا على يقين تام وراسخ بأن بلدنا العظيم، بما يمتلكه من ثروات بشرية وموارد متعددة، قادرة على إحداث قفزة نوعية نحو اقتصاد أكثر تعقيدًا وإنتاجية، يقوده المحتوى التكنولوجي والعرفي المرتفع، وتعززه صناعة متقدمة وذات قيمة مضافة كبيرة. إن هذا التحول ليس ترفًا فكريًا، بل خيار استراتيجي لا غنى عنه لبناء اقتصاد أكثر صلابة وقدرة على المنافسة في عالم يتسارع نحو المعرفة؛ فلندفع نحو تسريع رحلة عُمان نحو التعقيد الاقتصادي لتوليد فرص العمل وتنويع هياكل الاقتصاد.
د. يوسف بن حمد البلوشي/ مؤسس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات