النمري .. الدولة حسمت قرارها وإخوان الأردن أمام خيارين
تاريخ النشر: 4th, May 2025 GMT
#سواليف
كتب .. #جميل_النمري
ماذا بعد بشأن #الإخوان_المسلمين في #الأردن؟
الجميع يحبس أنفاسه بانتظار القادم القريب! هناك من يتوقع – أو يؤكد – أن ملف #حزب_جبهة_العمل_الإسلامي على صفيح ساخن، وأن حشدا من الأدلة الجديدة يتم تجميعها لإصدار قرار قضائي بحل الحزب، وهذا الرأي يفترض أن حظر نشاط الإخوان بدون حلّ الحزب وكتلته البرلمانية الضخمة يبقى بلا معنى، لأن الحزب هو الذراع السياسي للإخوان المسلمين، وهو الغطاء الشرعي الذي يحمي الإخوان وقواعدهم ونهجهم ودورهم إلى ما شاء الله.
الوجود غير القانوني للجماعة
هذا السيناريو التصعيدي حتى نهاية الشوط يهمل حقيقة التزام الدولة بمسار قانوني دقيق، وأن القرار بشأن الإخوان تم تحت سقف القانون وامتثالا له. أما جبهة العمل الإسلامي فهي حزب مرخص لا يحلّ إلا بقرار قضائي بعد ثبوت تجاوزات حددها القانون بدقة. وحسب مراجع قانونية وتشريعية لا يعتبر الحزب مسؤولا عن تجاوزات فردية من الأعضاء قاموا بها على عاتقهم الشخصي ومن دون علم الحزب. ومن بين الموقوفين هناك ثلاثة أعضاء في الحزب بادر الحزب لإبلاغ الهيئة المستقلة للانتخاب بتجميدهم بانتظار كلمة القضاء.
وعضوية المعتقلين من جماعة الإخوان لم تكن الأساس القانوني لحظر الجماعة، بل هي سرّعت العزم على أخذ القرار مرّة وإلى الأبد. فلا تساهل ولا تغاض عن نشاط الجمعية المنحلّة وقد صدر بها قرار لمحكمة التمييز عام 2020. وكانت جماعة الإخوان قد ترخصت كجمعية بقرار من مجلس الوزراء عام 1946 تحت رعاية الملك المؤسس عبدالله بن الحسين. ويفترض أن تكون فقدت ترخيصها مع صدور قانون للجمعيات عام 1953، لكن لأسباب سياسية تم التغاضي عن الأمر. وكان يجب على الجمعية تصويب أوضاعها لترخيص جديد بموجب قانون الجمعيات الجديد لعام 2008. وصحت الدولة مجددا حين نشب الخلاف الداخلي بين الصقور والحمائم في الإخوان فطلبت الحكومة من الجمعية تصويب أوضاعها واستجاب جناح يقوده عبد المجيد ذنيبات، واعترفت لهم الحكومة بالجمعية الجديدة عام 2015. ونشب نزاع قضائي حول القرار وحول توريث أصول وممتلكات ومقرات الجمعية. وفي نهاية المسار القضائي قررت محكمة التمييز أن الجمعية المرخصة تعتبر جديدة ولا ترث أملاك الجمعية القديمة. كما قررت أن الجمعية القديمة لجماعة الإخوان المسلمين «منحلة حكما وفاقدة لشخصيتها الاعتبارية والقانونية». مع ذلك استمرت الجماعة بالعمل بدون أي غطاء قانوني واستمر التنظيم الذي يضم حوالي 15 ألف عضو موزعين على فروع وشعب وأسر وبنفس الاسم والشعار بممارسة كل الأنشطة من دون الخضوع للتدقيق الإداري والمالي على التمويل والإنفاق المطبق على مختلف الجمعيات والمؤسسات والأحزاب.
شلال دم في غزة وشلال أصوات في الأردن
استمر الحزب «جبهة العمل الإسلامي» يعمل كتفريع تحت مظلة التنظيم الأم. وقبل أشهر انتقل المهندس مراد العضايلة من موقع الأمين العام للحزب إلى موقع المراقب العام للجماعة وكان ذلك بمثابة انتقال من موقع أدنى إلى موقع أعلى، واستمر ينشط بهذه الصفة ويطلق التصريحات ويخطب في مهرجانات التضامن مع غزة ويقرع الدولة على تقصيرها وتخاذلها.
حصدت الجماعة والحزب ثمار الحرب الوحشية على غزة شلالا من الأصوات في الانتخابات النيابية وحصدت الدولة ضيقا لا يوصف أمام المسيرات المتواصلة والتهييج والضغوط والاتهامات التي كانت تريد انخراطا أكبر من الأردن مثل إلغاء اتفاقية السلام أي بالنهاية تعريض الأردن لمآلات خطيرة، في حين أن الأردن رمى بكل قدراته (الممكنة) في المعركة لإسناد غزة ووقف العدوان سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا إلى جانب المساعدات الإنسانية والمستشفيات الميدانية والقوافل، وكانت أول الطائرات لإلقاء المساعدات من الجو من الأردن وبوجود جلالة الملك شخصيا على متنها. وفي اللقاء مع ترامب أكد الملك على الرفض المطلق لخطة تهجير أهل القطاع وقال له: أنا طرت فوق القطاع عدة مرات ودعني أقول لك إن هناك مساحات فارغة تكفي وتزيد لإقامة الناس حتى إنجاز الإعمار وهم يوفرون يدا عاملة لإعمار بلدهم، فنظر ترامب إلى نائبه وقال كما ترى جلالته يعرض خطة أقل كلفة بكثير.
حصلت جبهة العمل على عدد غير مسبوق من المقاعد في البرلمان وتعزز إحساس الإخوان بالقوة الهائلة المستمدة من دورهم كامتداد للمقاومة وحماس، ولم تتوقف الشائعات عن حلّ المجلس، لكن المجلس استمر، فهو ثمرة مشروع التحديث السياسي الذي لن يتراجع عنه الملك، لكن حماية مشروع التحديث يحتاج إلى حل عدة مشاكل إحداها تخص الإسلاميين الذين لم يبدر منهم أي تغيير للتلاقي مع التحديث السياسي أو مراجعة لإشكالية العلاقة بين الحزب والجماعة وبين الجماعة وحماس. وهذه الأخيرة تهدد بإعادة إنتاج المشكلة التاريخية الحساسة لعلاقة القوى الفلسطينية بالساحة الأردنية.
إعادة إنتاج المخاوف
والحساسيات التاريخية
المشكلة بدأت بالانحسار منذ انتقال منظمة التحرير إلى الداخل وقيام السلطة الفلسطينية، وكان دور الإخوان مساندا للنظام نتيجة عداءهم لمنظمة التحرير وللوطنية الفلسطينية والدولة المستقلة هذا حتى نشوء حماس وتصدرها المشهد وانقلاب نمط العلاقة والنفوذ بل انعكاسه، فقد أصبح إخوان الأردن امتدادا لإخوان فلسطين أي لحماس التي تضخمت في كل الساحات والأردن إحداها إلى جانب خصوصيته كباحة خلفية وتحت الشعار الديني (أرض الحشد والرباط). وخلال الحرب على غزة كان الإغواء يتزايد بهذا الاتجاه ما بين التلميح والتصريح وتكرر في شعارات المظاهرات «كل الأردن حمساوية». وأفلتت من قادة حماس دعوات لأهل الحشد والرباط لدور يتجاوز المسيرات والمساعدات ومع التظاهرات قرب السفارة الإسرائيلية (المغلقة في الواقع) دعا الإخوان للتظاهر على الحدود. وتم الاحتفاء بعملية عسكرية على الحدود نفذها إثنان من أعضاء الجماعة وواحدة قبلها نفذها أحد أبناء عشيرة الجازي. وفي الأثناء كانت الأجهزة الأمنية تتابع خيوط اتصالات وتنقلات (بدأت منذ عام 2021 كما اعلن) تختلف عن الحالات المألوفة لتهريب السلاح والتي كان يقبض على بعضها من دون الإعلان عنها وانتهت إلى الكشف عن أفراد وخلايا مشروع تصنيع الصواريخ والمسيرات وتخزين متفجرات بتمويل وتدريب في لبنان.
اللعبة القديمة تصل إلى خط النهاية
من المفهوم أن الدولة ما عادت تشتري الكلام عن الحرص على أمن واستقرار الأردن. وعلى الأقل فإن الأردن في برنامج محور المقاومة أصبح ساحة مستهدفة، وربما في مرحلة أولى بتجارب تصنيع وتخزين السلاح والصواريخ والمسيرات لتكون جاهزة عند صدور قرار ما يخص هذه «الساحة». وبالتأكيد كما كشفت التحقيقات والاعترافات فلسنا أمام مغامرات فردية، بل عمل مخطط وموجه من الخارج ما زال يتوجب أن نعرف أين تصل خيوطه وإلى أي مستوى.
السلطات في الأردن كانت في منتهى المهنية في التعامل قانونيا وإعلاميا مع الحدث. فقد قدمت الوقائع ذات الصلة بدون أي تفسيرات سياسية أو توصيفات. والوقائع هي سفر أفراد إلى لبنان وتلقي تمويل وتدريب وعمل تخزين للمتفجرات واستيراد معدات وبناء قاعدة سرية لتصنيع الصواريخ والمسيرات. هذه هي التجاوزات على القانون بغض النظر عن الخلفيات والنوايا والأهداف.
لكن بيان حماس تعليقا على الحدث كان صادما، فقد أشاد بالمتهمين وطالب بإطلاق سراحهم، وقال إن ما قاموا به هو لدعم المقاومة ويستحق الشكر والتثمين، وكأنها تتبنى استخدام الأردن قاعدة للمقاومة المسلحة، ولهذا الموقف ما بعده من تداعيات وأولها ذهاب حماس ولأول مرة للاستقواء على الدولة وفي شأن أمني داخلي بقضية المقاومة، وتجاهل مبدأ مسؤولية الدولة وواجبها وحقها في احتكار السلاح. وبدل أجواء الوحدة الوطنية والتضامن طوال الحرب الإجرامية على غزة حلّ التوجس والقلق ولاحت أشباح الانقسام.
أجواء الدولة والإخوان على خط الافتراق الأخير
الدولة استنفرت القواعد الشعبية والعشائر والإعلام لحماية قرارها ومواجهة حملة الاستقواء المتوقع بالمقاومة الإسلامية للطعن في الرواية الرسمية واللعب على نظرية المؤامرة ودور الضحية وتحويل الموقوفين إلى أبطال. وكالعادة فالفضاء الإلكتروني يصبح ميدانا مفتوحا للتهييج والفتنة، وما بين خطابات بعض النواب والردود على وسائل التواصل الاجتماعي كان الجو يتعكر. ونبهت أصوات عقلانية لما تتعرض له الوحدة الوطنية من مخاطر وطالب البعض بمنع التعليقات على القضية بما انها باتت منظورة أمام القضاء. أما الخطاب الرسمي فالتزم الرزانة والتحفظ واللغة القانونية الصرفة حتى أن التعليق على بيان حماس اقتصر على عبارة واحدة، أن الدولة لا ترد على فصائل.
في الوسط الإخواني كان الرأي السائد في البداية انها سحابة صيف وتمر. حتى جاء المؤتمر الصحافي لوزير الداخلية وإعلان الإخوان جماعة محظورة ليخلق صدمة شلّت قدرة الإخوان والحزب على إدارة الموقف بأي اتجاه. وظهرت أصوات تدعو الإخوان لوقفة مراجعة ونقد وتصويب جريئة والمبادرة لإعلان حلّ الجماعة نهائيا والقطع مع تاريخها ونهجها. لكن الوسط الإخواني لم يكن مؤهلا ولا مهيأ لهكذا قرار. وتعترف أوساط شبابية في الإخوان بالانقسام بين تيارات وتوجهات تتجاذب الإخوان، وأن التيار الأكثر تشددا وارتباطا بحماس تسيد في فترة الحرب على غزة، ويعاني التيار المعتدل من المزاودات والاتهامية والطعن في مراميه، وهو يطرح مغادرة فكرة الأردن كساحة والتنظيم كجزء من مشروع عقائدي فوق وطني. وبالمحصلة أصبح الترقب سيد الموقف بانتظار الآتي الأعظم، وساهمت حملة المداهمات لمقرات الحزب ومصادرة وثائق وأجهزة كومبيوتر في ترجيح سيناريو التصعيد. ويرى محللون أن الدولة لا تستطيع التوقف عند الحدّ الحالي وستمضي حتى النهاية في حملة تنتهي بحظر شامل للتيار الإخواني بكل أشكاله ولو اقتضى الأمر إجراءات عرفية وحلّ البرلمان. ويدعم محبو الإثارة في الصالونات السياسية هذا السيناريو، وتذهب تحليلات إلى أن المسألة ليست محلية وأن قرارا إقليميا ودوليا قد اتخذ والأردن ملتزم به.
نرجح بقوة أن هذا غير صحيح ويندرج ضمن التوليفات المألوفة لنظرية المؤامرة. وسلوك الدولة حتى الساعة يؤشر على التزام دقيق بالقانون بعيدا عن أي مشاريع سياسية خيالية. صحيح أن خطوة حظر الجماعة تجد صدى طيبا عند بعض الأشقاء الذين أعلنوا الإخوان تنظيما إرهابيا، لكن الأردن لم يستجب في الماضي لأي ضغوطات ولن يمضي لأبعد من الإجراءات التي يتطلبها تطبيق القانون. ولن يمس الحزب المرخص جبهة العمل الإسلامي إلا إذا ظهرت وثائق وأدلة جديدة تبين ممارسات غير قانونية ستخضع بدورها لما ينصّ عليه القانون. وهي على الأرجح ستطال الأفراد المتورطين شخصيا، أما حلّ الحزب فشأن آخر تماما والقانون يحدد بدقة الحالات التي تقتضي الحل وبقرار قضائي يكون نافذا بعد استنفاد إجراءات التقاضي. ولن تقع أي اعتقالات جديدة إلا لمن تكشف تحقيقات وأدلة جديدة عن صلتهم بالخلايا المسلحة أو بأنشطة غير قانونية على غرار أعضاء الحزب الثلاثة الذين اعتقلوا.
الدولة حسمت قرارها
والكرة في ملعب الإخوان
ليس متوقعا عودة الدولة والجماعة إلى مقايضات وتسويات، ولن يرى الإخوان من الدولة إلا الوجه الحازم في تطبيق القانون، أما زئير التخويف والتشكيك والمظلومية فسيواجه بأعلى منه والدولة مطمئنة إلى رصيد قوتها بما يغني عن الذهاب إلى إجراءات عرفية واستئصالية، لكن هناك قناعة أن عهد التساهل قد ولى، وأن هذا التيار يجب أن يرتد بالكامل إلى المشاركة السياسية تحت سقف الدستور والقانون والمصالح الوطنية الأردنية بمنأى عن أي أجندة أخرى وخصوصا أجندة حماس التي ينم تصريحها عن عيش الماضي وعدم إدراك للمستجدات لكنها ستدركها بعد قليل وهي على كل حال تواجه نفسها تحدي التحول في شكل وجودها الذي سيفرضه أي اتفاق لوقف الحرب.
الخلاصة أن الأردن لن يعيش التجربة المصرية لكنه لن يستمر في التجربة القديمة. وتعي دوائر القرار الخصوصية الأردنية في إدارة التجربة الديمقراطية على مدار العقود الماضية والتي استوعبت التيار الإسلامي ـ الإخواني بكفاءة. لكن مشروع التحديث السياسي الذي يستهدف التحول إلى برلمان حزبي بالكامل والتداول على السلطة التنفيذية لحكومات حزبية له مقتضيات ليس من بينها استئصال هذا التيار من الحياة السياسية بل تحول حقيقي في شكل وجوده وعمله. والمسار القانوني الحازم الذي تسلكه الدولة يضع الكرة بالكامل في حضن التيار لتحديد خياراته.
بعد تراجع أعراض الصدمة واتضاح أن الدولة ليست بصدد حملة إستئصالية سيكون حزب جبهة العمل الإسلامي وكل قيادات وكوادر التيار أمام خيارين، أما المراوغة بالصيغ القديمة نهجا وخطابا أو المراجعة الجوهرية. وأي قراءة نبيهة لموقف الدولة وللمناخ الإقليمي والدولي تفترض أن لا يكون الخيار الأول واردا.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف الإخوان المسلمين الأردن حزب جبهة العمل الإسلامي جبهة العمل الإسلامی أن الدولة على غزة
إقرأ أيضاً:
في ذكرى انقلاب مايو ماهي حقيقة التأميمات والمصادرة عام 1970م؟
alsirbabo@yahoo.co.uk
في ذكرى انقلاب مايو ما هي حقيقة التأميمات والمصادرة عام 1970م؟
بقلم: تاج السر عثمان
١
اشرنا سابقا الي الذكرى ال ٥٦ لانقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩، وكيف تم تقويض الديمقراطية، وكان كارثة كبيرة حلت بالبلاد قادت لكل التدهور اللاحق الذي وصلنا اليه كما في الحرب الجارية حاليا.
ومن أخطاء الانقلاب كانت خطوة التأميمات والمصادرة التي اتخذت طابعا فوضويا، تم فيها نهب ممتلكات الناس باسم الاشتراكية، وكانت كارثة حقيقية حلت بالاقتصاد السوداني. فما هي حقيقة تلك التأميمات والمصادرة؟
٢
في مايو 1970م، قامت الحكومة السودانية بمصادرة وتأميم عدد من الشركات الخاصة، ففي 14/مايو/1970م، تم الاستيلاء على شركات رجل الأعمال الثري عثمان صالح واولاده، وصودرت 16 شركة أخري في الرابع من يونيو: مجموعة شركات بيطار، وشركة شاكروغلو وشركة كونتو ميخالوس وشركة مرهج وشركة سركيس ازميريان وشركة جوزيف قهواتي وشركة صادق ابوعاقلة وأعمال حافظ البربري وشركة السجائر الوطنية(تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان، ص 231).
أعلن الرئيس جعفر نميري أولي قرارات التأميم في خطاب ألقاه في الذكرى الأولى لاستيلائه على السلطة وشملت جميع المصارف الي جانب أربع شركات بريطانية، وشملت البنوك 24 فرعا لبنك باركليز وستة فروع لبنك مصر وأربعة فروع لناشونال آند جراند ليزا وثلاثة فروع للبنك العربي والفرع الوحيد للبنك التجاري الإثيوبي والبنك التجاري السوداني وبنك النيلين والأخيرين تأسسا برأسمال سوداني.
أما الشركات البريطانية فقد كانت شركة كوتس وشركة جلاتلي هانكي وشركة سودان مركنتايل وشركة الصناعات الكيماوية الامبريالية. وفي الرابع من يونيو أممت شركة اسمنت بورتلاند علي أساس أن الاسمنت سلعة استراتيجية، وأعقب ذلك تأميم عشرات الشركات الأخري، بنهاية يونيو 1970م، كانت الدولة قد استولت علي كل الشركات العاملة في مجال التصدير والاستيراد وكل المؤسسات المالية، وغالبية مؤسسات التصنيع، كما امتد التأميم والمصادرة لتشمل مطاعم ومحلات صغيرة ودور سينما وبعض المساكن.
٣
وقد تمثل التعويض في شكل صكوك بفائدة 4% وبنفس قيمة الممتلكات المؤممة يبدأ سدادها في عام 1980م ويستمر حتي 1985م، وقد وصفت صحيفة التايمز اللندنية التعويضات بأنها (غير عادلة ولا ناجزة وغير فعالة) ( تيم نبلوك: المصدر السابق، ص 231).
وهكذا بدأت تتضخم مؤسسات القطاع العام، وقبل ذلك بدأت محاولات إحكام سيطرة الدولة على الاقتصاد والحد من حريات القطاع الخاص في وقت مبكر، ففي 16/أكتوبر/1969م، اعلن عن تأسيس شركتين حكوميتين للسيطرة على قطاعات مفتاحية في التجارة الخارجية، واحدة لاحتكار حقوق استيراد الجوت والسكر والمواد الكيماوية والأخري لاستيراد كل مشتريات الحكومة من الخارج كالسيارات والجرارات والادوية.
٤
ولايمكن معالجة هذه الاجراءات بمعزل عن الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي يومئذ، فتأميم البنوك وشركات التأمين والشركات الأجنبية كان من الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي في برنامجه المجاز في المؤتمر الرابع 1967م، بهدف تحقيق الآتي:
- بالاستيلاء على تلك المراكز يمكن وقف تدفق موارد البلاد الذي كان يتم في شكل أرباح البنوك وشركات التأمين وشركات التجارة الخارجية وفي شكل مرتبات وعلاوات وامتيازات للموظفين الأجانب، وفي شكل تهريب للعملة في اسعار الصادرات والواردات. ان استيلاء الدولة علي هذه الموارد يمكنها من استخدامها في عملية التنمية الاقتصادية.
- باستيلاء الدولة علي المصارف وشركات التأمين تتمكن الدولة من التحكم في حجم المدخرات والعمل علي زيادتها باتخاذ كل القوانين المشجعة لذلك وتوجيه تلك الاستثمارات في مشاريع التنمية للقطاعين العام والخاص حسب الاسبقيات والاولويات التي تضعها الحكومة في خطط التنمية الاقتصادية.
- وباستيلاء الدولة علي البنوك وتصدير واستيراد السلع الأساسية تتمكن من التحكم في التجارة الخارجية من حيث الجهات والدول التي تتعامل معها ومن حيث نوعية السلع المستوردة ومن ناحية الكميات ويصبح للدولة وضع احتكاري يمكنها من ايجاد احسن الاسعار للصادرات واقل الاسعار للواردات والتحكم في تموين البلاد باحتياجاتها الضرورية من السلع.
( أزمة طريق التطور الرأسمالي في السودان، اصدار الحزب الشيوعي السوداني، 1973م ، ص 30).
ولكن ما حقيقة التأميمات والمصادرة ؟:
- لقد اتخذت هذه الاجراءات بدون أن يصدر قرار بذلك لا من مجلس الثورة ولامن مجلس الوزراء، بل اتخذها عدد من أعضاء مجلس الثورة من وراء ظهر بقية الأعضاء.
- كان هناك تفكير من جانب المنقسمين من الحزب الشيوعي السوداني وبعض أعضاء مجلس الثورة يقول:إذا ما قامت الحكومة بالتأميم والمصادرة، تكون قد نفذت شعارات الحركة الثورية وتكسب الحكومة القوي التقدمية الي جانبها وتسحب البساط من تحت أقدام الحزب الشيوعي ويسهل بذلك ضربه. ولهذا تمت هذه القرارات في عجل وفي وقت بدأ السخط يزداد بسبب نفي سكرتير الحزب الشيوعي وبداية الاضطهاد للقوي الثورية، وتمت كذلك دون مشاورة العناصر التقدمية في مجلس الوزراء أو في مجلس قيادة الثورة.
تواصل وثيقة ( أزمة التطور الرأسمالي ..)، وتقول: ( في مجال المصادرة كان رأي الحزب الشيوعي والقوى التقدمية ولا يزال أن هذه المرحلة من تطور الاقتصاد السوداني – مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية- تتطلب موضوعيا قيام القطاع الخاص بدور هام في التنمية الاقتصادية في إطار الخطة العامة التي ترسمها الحكومة، وأن أى انكار لدور القطاع الخاص في هذه المرحلة الانتقالية، ومحاولة القفز فوق المراحل أمر خطير وضار بالاقتصاد القومي، ولذا يجب عدم اتخاذ اجراءات يسارية عفوية تخيف القطاع الخاص وتجبره علي الانكماش. ان المصادرة لأى فرد أو جهة من الجهات يمكن أن تتم في ظل القانون والشرعية الثورية ويجب ألا تتم دون تهم محددة ودون تقديم المتهم للمحاكمة واعطائه فرصة الدفاع عن نفسه. لقد تمت المصادرة بطريقة مستعجلة وبدون محاكمة الأمر الذي أدى إلى كثير من الجرائم وعمليات الفساد والافساد واصبحت مجالا للتهديد والابتزاز. لقد أدت عمليات المصادرة الي نشر جو من الفزع والخوف عند جميع افراد القطاع الخاص والي إخفاء الأموال والإحجام عن الاستثمار، الأمر الذي أضر بعمليات التنمية الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك اضرت كثيرا بالشعارات الاشتراكية وتشويهها، واصبحت كل الجرائم والفساد والسرقة يتم باسم الاشتراكية).
ويؤكد د. منصور خالد الذي كان وزيرا للشباب والرياضة يومئذ، في كتابه (السودان والنفق المظلم) ما جاء في وثيقة الحزب الشيوعي ويقول حول الجهة التي أوعزت لنميري للقيام بتلك التأميمات والمصادرة ، يقول د. منصور خالد ( لقد وجد النميري سندا قويا في معركته مع الشيوعيين من داخل الحزب الشيوعي نفسه، خاصة من جانب المجموعة المنشقة بقيادة أحمد سليمان وزير التجارة الخارجية ومعاوية إبراهيم وزير الدولة للشئون الخارجية ووزير العمل، وحاولت تلك المجموعة إحراز نصر على الحزب الشيوعي بالضغط من أجل التأميم الشامل والمصادرات والذي قام بإعداد تفصيلاتها احمد سليمان بمعاونة المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة احمد محمد سعيد الأسد ، وقد هزت تلك التأميمات الاختباطية الاقتصاد السوداني هزا عنيفا لسنوات).
ويخلص د. منصور خالد إلى أن الحزب الشيوعي لاعلاقة له بالتأميمات والمصادرة، وقد كان صادقا في ذلك.
٥
أما عبد الخالق محجوب فقد كتب مقالا في صحيفة( أخبار الاسبوع) بتاريخ يوليو 1970م، بعنوان ( حول المؤسسات المؤممة والمصادرة)، جاء فيه ( ان المصادرة في هذه الفترة الوسيطة من الثورة الوطنية الديمقراطية تعتبر عقوبة اقتصادية علي أصحاب المال "من الرأسماليين" الذين يخرجون علي قوانين واوامر الدولة المالية والاقتصادية وبهذا يضعفون التخطيط المركزي ومؤشراته المختلفة التي رسمتها الدولة ، وبما ان هذا الاجراء السياسي الاقتصادي والاجتماعي اجراء خطير في هذه المرحلة التي مازالت فيها العناصر الرأسمالية مدعوة للإسهام في ميدان التنمية وتنفيذ الخطة الخمسية. من المهم أ لا تقتصر المصادرة في إطار سيادة الدولة على رعاياها. يجب أن تحاط المصادرة بالتالي:
– وضع تشريعات دقيقة ومفصلة ومحكمة تشمل الجرائم التي تستوجب توقيع عقوبة المصادرة.
– تعرض الأموال المختلفة علي دائرة قضائية لها القدرة علي الحسم السريع في القضايا وذات قدرات سياسية ايضا(برئاسة عضو من مجلس قيادة الثورة مثلا).
لماذا نقترح هذا؟.
– لأن في هذا ضمان لانتفاء الفساد وتفادي القرارات الذاتية التي ربما طوحت في كثير من الأحيان عن الموضوعية.
– لإدخال الطمأنينة في قلوب اصحاب أصحاب المال الذين تحتاج اليهم البلاد الي استثماراتهم في هذه الفترة مدركين جيدا أن العلاقات الرأسمالية مازالت تمتد الي اعماق مجتمعنا، الي خلاياه الأساسية).
٦
خلاصة الأمر كانت قرارات التأميمات والمصادرة خاطئة حيث قامت زمرة المنقسمين من الحزب الشيوعي مع زين العابدين محمد احمد عبد القادر ومحمد عبد الحليم، بتعيين مجالس إدارات ومديري البنوك والمؤسسات دون التشاور مع مجلس الثورة أو مجلس الوزراء مما أدى الي تعيين عدد كبير من الأشخاص غير الأكفاء لهذه المناصب بسبب عدم معرفتهم وقلة تجربتهم بالمسائل الاقتصادية والمالية وعدم الأمانة. الأمر الذي عرض النشاط الاقتصادي لهذه المؤسسات لكثير من الأضرار والخسائر ولعمليات الثراء الحرام، وبدلا من أن تكون مصدرا للأرباح للقطاع العام ومساعدته في التنمية تحول الكثير من هذه المؤسسات من مؤسسات رابحة الي مؤسسات تشكل عبئا على مالية الدولة مثل: مؤسسة الزيوت الافريقية وغيرها. بالإضافة إلى ذلك تزايد عدد المستخدمين في هذه المؤسسات لا بسبب حاجة العمل، ولكن بهدف إرضاء الحكام بتعيين المحاسيب والأقرباء وغيرهم الأمر الذي ادى الي ارتفاع تكلفة الإنتاج وإلى تقليل الأرباح وزيادة الخسائر.( أزمة طريق التطور الرأسمالي، ص 31).
اضافة الى انه اثناء عملية استلام المؤسسات المصادرة والمؤممة تمت كثير من عمليات النهب للاموال من الخزائن والبضائع والي سرقة الكثير من المعدات والاثاثات من المنازل. كما قام المسئولون عن الكثير من الشركات بعمليات فساد كبيرة مع رجال القطاع الخاص، وذلك بالتحكم في استيراد السلع لصالح مجموعات قليلة من التجار وتحويلها للسوق السوداء كما حدث في تجارة الاسبيرات ومواد البناء وبعض المنسوجات والتلاعب بحسابات هذه المؤسسات. لقد ورث الكثير من المديرين كل امتيازات أصحاب هذه المؤسسات من منازل وعربات وعلاوات. وكل ذلك تم تحت شعار الاشتراكية الأمر الذي أدى الي تشويه معنى تحرير الاقتصاد السوداني والمفاهيم الاشتراكية واضر بقضية التنمية الاقتصادية وبتبديد موارد البلاد.
وبهذا الشكل بدأت تنشأ فئة الرأسمالية المايوية الطفيلية على حساب جهاز الدولة عن طريق النهب والفساد،وفي عملية حراك طبقي شهدتها الفترة المايوية. مما يوضح أن الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي كان له علاقة بالصراع الطبقي الدائر في المجتمع ومن خلال تطلع بعض القيادات من كادر الحزب الشيوعي المنقسم من الحزب للثراء السريع والانضمام إلى نادي الرأسمالية السودانية.