د. أحمد ماهر أبورحيل يكتب: "ديكتاتورية الجغرافيا"
تاريخ النشر: 4th, May 2025 GMT
دائمًا تشكلنا الأرض التى نعيش عليها فهى التى كونت التحالفات الاقتصادية والحروب العسكرية والقوى السياسية والتنمية الاجتماعية بالنسبة إلى الشعوب التى تتوطن الآن كل جزء من الأرض تقريبًا؛ فقد تبدو التكنولوجيا قادرة على قهر المسافات التى تفصل بيننا فى كل من الفضائيين العقلى والمادى، ولكن ليس من السهل أن نتجاوز عوامل الأرض التى نعيش عليها ونعمل بها ونربى فيها أطفالنا ولا نقر بأن لها أهمية عظيمة، وأن اختيارات أولئك الذين يقودون سكان العالم على هذا الكوكب الأرضى سواء فى المجال السياسى أو الاقتصادي أو الاجتماعي؛ سوف تنتج إلى حد ما عن طبيعة الأنهار والجبال والصحارى والمعادن وعوامل الجغرافيا بشكل عام وهو مايسمى ب "ديكتاتورية الجغرافيا".
و ديكتاتورية الجغرافيا" هو مصطلح يُستخدم لوصف تأثير الموقع الجغرافي والظروف الطبيعية على قرارات الدول وسلوكها السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي؛ والفكرة الأساسية هي أن الجغرافيا ليست مجرد خلفية محايدة، بل عامل حاسم يفرض نفسه غالبًا بشكل قهري على الشعوب والدول، بحيث يحدد خياراتها ويقيّد إرادتها ويرسم استراتجيتها.
حيث يؤكد الكاتب "تيم مارشال" أن فهم الجغرافيا ضرورى لفهم السياسات الدولية وأن تجاهل العوامل الجغرافية يؤدى إلى سوء تقدير فى طبيعة العلاقات الدولية، ويحذر من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا كوسيلة لتجاوز القيود الجغرافية مؤكدًا أن الطبيعة لاتزال تلعب دورًا أساسيًا فى تشكيل مسار الدول والأقاليم.
ومن هنا جاءت الجغرافيا لتؤثر بشكل كبير وتلعب دورًا وضحًا فى التحالفات الدولية والإجرءات السياسة والتنظيمات الاقتصادية والهياكل المؤسسية بشكل عام؛ فهناك تحالف الإتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى وقوات درع الجزيرة وهناك تحالف الأوراسى بزعامة الروس، كما تؤثر بالتبعية على النماذج التنموية المختلفة، حيث تلعب العوامل الجغرافية دورًا حاسمًا في تشكيل الفرص والتحديات التي تواجهها الدول في مساراتها التنموية.
حيث أن البلدان الساحلية غالبًا ما تكون أكثر إنفتاحًا على التجارة الدولية، مما يعزز النمو الاقتصادي، بينما البلدان الحبيسة (غير الساحلية) تواجه صعوبات في الوصول إلى الأسواق العالمية، مما يحدّ من قدراتها التصديرية ويزيد من تكاليف النقل كدولة أثيوبيا ومحاولة السيطرة على موانئ فى دولة الصومال، كما أن التضاريس والمناطق الجبلية تعيق بناء البنية التحتية مثل الطرق والسكك الحديدية، وتزيد من تكاليف المشاريع التنموية كاليمن، بينما المناطق السهلية تسهّل الزراعة والتوسع العمراني، مما يدعم النمو السكاني والاقتصادي كالولايات المتحدة؛ بالاضافة إلى أن المناخ المعتدل أكثر ملاءمة للزراعة المستدامة والعيش البشري، مما يشجع على الاستقرار والتنمية، أما المناطق ذات المناخ القاسي (مثل الصحارى أو المناطق القطبية) تواجه تحديات كبيرة في الزراعة، توفر المياه، والموارد الطبيعية، مما يبطئ وتيرة التنمية كما فى بلاد الصحراء الإفريقية كمالى والنيجر، كما أنه واضح فى حالة وجود موارد طبيعية وفيرة مثل النفط، المعادن، أو الأراضي الزراعية يمكن أن يدعم نماذج تنموية تعتمد على الاستخراج كما هو الحال فى دول الخليج العربى والزراعة كما فى أوكرانيا، كما أن المناطق المعرضة للكوارث الطبيعية (كالزلازل، الفيضانات، الأعاصير) تحتاج إلى استثمارات إضافية في البنية التحتية والوقاية كاليابان والصين وجنوب شرق آسيا، مما يؤثر على وتيرة التنمية، ومن الجدير بالذكر أن الجغرافيا تؤثر على توزيع السكان، مما يخلق تفاوتًا في الوصول إلى الخدمات والفرص الاقتصادية بين المناطق الحضرية والريفية أو بين الساحل والداخل.
ومصر كغيرها من باقى بقاع العالم تأثرت بشكل عميق بعواملها الجغرافية، سواء من حيث شكل التنمية الاقتصادية أو توزيع السكان والبنية التحتية، أو من حيث التحديات البيئية والاستراتيجية والأمنية.
حيث أن الموقع الاستراتيجي في قلب العالم القديم، بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، وعلى البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، جعل من مصر نقطة عبور للتجارة العالمية، خصوصًا مع وجود قناة السويس التي تُعد من أهم شرايين التجارة الدولية، وبالرغم من أن هذا الموقع منح مصر قوة جيوسياسية واقتصادية هامة، وساهم في جعل الخدمات اللوجستية والنقل البحري من القطاعات المهمة في النمو الاقتصادي إلا إنه جعلها مطمع لجميع الدول الإستعمارية وجعلها تنتقل من احتلال إلى احتلال منذ نشأتها إلى فترة جلاء البريطانيين؛ ثم بعد ذلك تحول الإحتلال إلى إمبريالية مفرطة ضد مصر؛ حيث أن مصر تعانى دائمًا من جهود كثيفة للسيطرة على قرارها السياسى وهو دائمًا مايرفضه حكامها وهو مايعرضها دومًا للمؤامرات والأزمات؛ بالإضافة إلى وجود حدود طويلة مع دول تعاني من اضطرابات (مثل ليبيا والسودان) بعد مايسمى بثورات الربيع العربى، فرض تحديات أمنية تؤثر على التنمية، نتيجة الهجرة المتنامية، وفي الوقت نفسه الموقع الحدودي مع إسرائيل وغزة جعل من مصر فاعلًا رئيسيًا في قضايا الأمن الإقليمي وزج بها فى كثير من الأمور التى لا دخل لها بها؛ كما جعلها تدخل حروب متعددة مع الكيان الصهيونى وداعميه فى العالم سواء بالمواجهة العسكرية أو الاقتصاد أو بالتخابر؛ كما أن فى أغلب الأوقات يفرض تحديات وتهديات على الحدود الشمالية الشرقية ويعرض مصر على حافة دخول حرب جديدة.
أما بالنسبة لنهر النيل الذى هو شريان الحياة الرئيسي لمصر، إذ تتركز معظم الأنشطة الاقتصادية والزراعية والسكانية على ضفتيه إلا أن الاعتماد على مصدر مائي واحد جعل مصر عرضة لمخاطر شُح المياه، خصوصًا في ظل مشروعات مثل سد النهضة الإثيوبي بحيث جعل مصر تعانى من تهديد شح المياه واستخدامه كورقة ضغط فى كثير من الأحيان، كما جعلها تنفق الكثير والكثير فى بلاد أفريقية لكسب دعمها وتأييدها.
حيث أن النموذج التنموي المصري غالبًا ما ارتبط بـ "مصر النيلية" وهو ما خلق تركيزًا سكانيًا واقتصاديًا في دلتا النيل وواديه، وأدى إلى تكدس سكاني في مساحات محدودة وأهملت الدولة المصرية لسنوات عديدة استصلاح مساحات شاعة من الأراضى والإنتقال من الحيز الضيق لنهر النيل والدلتا إلى باقى مساحات مصر الشاسعة واستغلالها؛ حيث أن أكثر من 90% من السكان يعيشون على أقل من 10% من مساحة البلاد (حول نهر النيل والدلتا)، هذا التركز خلق مشاكل في الخدمات، السكن، والزحام المروري في مدن مثل القاهرة، والإسكندرية، كما أدى إلى فوارق تنموية كبيرة بين الحضر والريف، وبين الوجه البحري والوجه القبلي.
وفى النهاية يجب أن نشير من الناحية الإستراتجية ونؤكد على أن المنطة الجغرافية لها تأثير واضح على الدول سواء فى حالة السلم أو فى حالة الحرب سواء فى السياسات الخارجية أو فى السياسات الداخلية فهى التى تحدد النموذج المتبع سواء فى المجال السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى أو الثقافى...الخ
ومن الناحية السيكولوجية تؤثر الجغرافيا التى نعيش فيها بل ولها دلالة واضحة فى أفعالنا وفى أفكارنا، فهى تؤثر فى الشخصية وتعتبر مكون أساسى من مكونات التنشئة الاجتماعية؛ وبالتالى ينشأ الإنسان محبًا بالفطرة للمنطقة التى ولد فيهاـــــ وهذه هى الوطنيةـــــ وبالتالى يكون لها تأثير واضح على تصرفاته وسلوكياته وطالما أن الإنسان قد يصبح قائدًا ومؤثرًا فى بلده أو العالم إذن سوف يضع اعتبارًا للمنطقة والإقليم الذى ينتمى إليه.
ومن الناحية السياسية تؤثر الجغرافيا على السياسات بشكل عام؛ حيث إنه الذى يحرك سياسات الدول فى النهاية هم الأفراد، والكثير من السياسات الحكومية هى سياسات فردية ولكن تأخذ الطابع الجمعى بطبيعة أن الحكومة هى التى تصدرها، وأن ماينطبق على سياسات الدول ينطبق فى كثير من الأحيان على الأفراد الذين هم حصاد مناطقهم الجغرافية.
وختامًا عند تقيمنا وتحليلنا للشأن السياسى سواء على الصعيد المحلى أو الأقليمى أو الدولى سواء فى المجال الاقتصادى أو الاجتماعى أو فى مجال السياسة العامة؛ يجب أن ننظر بعين الإعتبار إلى أن الجغرافيا بمثابة نظامًا ديكتاتوريًا يفرض شروطه ومبادئه على الجميع، وذلك حتى يتثنى لنا الرؤية بصورة واضحة المعالم ومعرفة حقائق الأمور؛ وعلينا أن نتخيل لوكان القدر فرض علينا العيش بمنطقة أخرى؛ هل سوف نكون على هذه الشاكلة فى أمور حياتناالمختلفة أم تفرض الجغرافيا شروطها وتصبح نظامًا ديكتاتوريا على بنى البشر بل وحتى على الحيوان والجماد؟.
حفظ الله الأرض... حفظ الله مصر متكاملة الأركان.
المصدر: بوابة الفجر
إقرأ أيضاً:
30 يونيو.. انجازات وانتصارات للمرأة المصرية
في مثل هذا اليوم منذ ما يقارب الاثني عشر عاما من الزمان تغيرت صورة وتوجهات الدولة المصرية، حيث تم اعادتها على الطريق الصحيح بعيدا عن حالة اللادولة التي كانت موجودة قبل هذه الثورة، إلى جانب المهددات التي كانت قائمة على وضعية الدولة وأمنها القومي عقب ثورة 25 يناير ووصول جماعة الإخوان لسدة الحكم في البلاد و ما تلاها من انقسامات وانشقاقات طالت كافة أرجاء الوطن مما أوجب قيام ثورة 30 يونيو للعودة بكل ما تحمله الكلمة من معان.
ومنذ 30 يونيو 2013 الى 30 يونيو 2025 سعت القيادة السياسية إلى تدشين حزمة متكاملة من السياسات والخطوات التي هدفت لتمكين المرأة وحصولها على كافة حقوقها السياسية بداية من تخصيص ربع مقاعد البرلمان المصري للسيدات الى جانب مشاركتها في كافة قطاعات المجتمع سواء داخل السلطة التنفيذية ووجود وزيرات عدة في الحكومة المصرية الى جانب السفيرات خارج الوطن والمحافظات ونواب الوزراء وهو ما مثل تغيرا ايجابيا ملحوظا في العمل السياسي، إلى جانب السلطة التشريعية والتي ساهمت فيها المرأة بأدوارا عدة سواء في الجانب الرقابي أو التشريعي، بالإضافة إلى السلطة القضائية حيث شهدت مصر اعتلاء قاضيات مصر لمنصة القضاء لأول مرة في التاريخ الحديث.
ولم يكن التغيير قاصرا على الواقع السياسي للمرأة بل كان هناك توجها من القيادة السياسية لدعم واقع المرأة الإقتصادي حيث تم تدشين عشرات المشروعات القومية الكبرى لصالح دعم المرأة المصرية بداية من برامج تكافل وكرامة مرورا ببرامج دعم المرأة المعيلة وصولا لمساندة كافة المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر والتي تسعى المرأة من خلالها الى القيام بدور تشاركي مع الرجل في تنمية الدولة المصرية.
ولاشك وأننا نحتقل بثورة يونيو تبدو التحديات متعددة أمام مستقبل الدولة سواء في مجال منح المرأة مزيدا من الدعم والمساندة أو ما يرتبط بالتحديات الإقتصادية والمجتمعية وكلها أمور تمثل نقاط فاصلة في مسيرة الدولة المصرية والتي حافظت على مسيرة الإنجازات ومواجهة تحديات ما بعد ثورة 30 يونيو 2013.
وبنظرة فاحصة للمستقبل، نجد أن هناك تحديات عدة تواجه الدولة المصرية وفي القلب منها المرأة، خاصة تلك التي ترتبط بالإقتصاد ومواجهة المشكلات المرتبطة به مثل ارتفاع الأسعار والتضخم ونسبة البطالة بين النساء، وكذلك التحديات المجتمعية والتي تتطلب التعاطي بقدر من الوعي مع المتغيرات الحديثة ولعل ابرزها ضرورة بلورة صورة ايجابية للمرأة المصرية وتعظيم دورها الحضاري والتاريخي والواقعي عبر دراما تحترم تلك الادوار دون السعى نحو تقديم نماذج قد تسىء لهوية المراة المصرية ودورها التنويري عبر التاريخ.
جملة القول، إننا اليوم وبعد سنوات من ثورة 30 يونيو نقف أمام انجازات بالجملة في مسيرة المرأة المصرية سواء من خلال انجازات سياسية يراها القاصي والداني وكذلك نجاحات اقتصادية رغم الازمات العالمية التي يشهدها العالم وخاصة ما يحدث في الشرق الاوسط من تداعيات الحرب الإسرائيلية لكن تبقى ارادة الدولة في دعم متواصل للمرأة والحفاظ على ما تحقق من انجازات والسعى للبناء والتنمية رغم العديد من التحديات التي يشهدها عالم اليوم.