الخرطوم في 9 مايو 2025- (راديو دبنقا) - البعد عامين من لهيب الحرب الذي اكتوى به السودان، تتجلى فصول كارثة إنسانية متفاقمة، لا تقتصر فصولها المؤلمة على قصص الضحايا والنازحين الذين عصفت بهم رياح الصراع. ففي العاصمة القومية الخرطوم، يبرز وجه آخر للمأساة، يتمثل في الدمار الشامل الذي لحق بجميع المؤسسات الإعلامية والصحف السودانية التي كانت يوماً نبضاً للحقيقة ومنبراً للمعرفة، مُسهمةً في ترسيخ قيم التعايش المشترك والديمقراطية.

باستثناء مبنى الإذاعة والتلفزيون القوميين الذي سقط تحت سيطرة قوات الدعم السريع لرمزيته السيادية، تحولت هذه الصروح الإعلامية إلى مجرد أطلال صامتة، شاهدة على حجم الخراب الذي طال حتى صوت الكلمة.
يتضح من خلال هذا المشهد المأساوي، كيف لم يسلم من نيران الحرب حتى حراس الحقيقة وناقلوها، ليضاف فصل جديد ومؤلم إلى سجل الخسائر الفادحة التي تكبدها السودان وشعبه. نحاول في هذا التقرير استعراض نماذج للدمار الذي تعرضت له هذه المؤسسات، بعد ان اصبح الوصول لدور ومقار هذه المؤسسات ممكنا عقب اعادة الجيش السيطرة على الخرطوم.

إذاعة "هلا"... صمتٌ يلف الأثير
ياسر أبوشمالة، مدير إذاعة "هلا" التي كانت نبض الشباب السوداني وأحد أكثر المنابر الإذاعية شعبية، حبس أنفاسه وهو يشاهد للمرة الأولى صوراً ومقاطع فيديو لمبنى الإذاعة العريق في قلب العاصمة الخرطوم. "الخسارة فادحة ومؤلمة"، قالها بصوت يخنقه الأسى.


يضيف أبوشمالة، واصفاً حجم الكارثة: "لم يكن الأمر مجرد تدمير لمبنى، بل هو تدمير ممنهج لاستوديوهات البث والإنتاج بالكامل. كانت هذه الاستوديوهات مجهزة بأحدث التقنيات الرقمية: مازجات صوت متطورة، سيرفرات ضخمة، مكتبات صوتية لا تقدر بثمن، أرشيف برامجي يوثق لتاريخنا، ميكروفونات، كوابل، وحتى جهاز الإرسال الرئيسي الذي كان يحمل أصواتنا عبر الأثير إلى المحطات الأرضية لإعادة البث". يؤكد أبوشمالة أن كل تلك المعدات الثمينة "أتت عليها نيران الحرب ويد النهب، ولم تسلم الملحقات الأخرى، بما في ذلك أنظمة البودكاست الصوتية والمرئية المتطورة، شبكة الحواسيب، وأجهزة لا حصر لها". قُدّرت الخسائر المادية الأولية لإذاعة "هلا" بأكثر من 350 ألف دولار.
مركز "أرتكل"... حلمٌ تحوّل إلى أنقاض
مشهد الخراب لم يقتصر على "هلا"، بل امتد ليطال مركز "أرتكل" للإنتاج الإعلامي، الذي كان يُعد منارة إعلامية واعدة وصرحاً إنتاجياً ضخماً في السودان، مبنىً ومعنى. عثمان فضل الله، مدير المركز، عبّر عن صدمته بصوت كاد يغيب من فرط الألم: "ليتني لم أرَ تلك الصور القاسية... الدمار الذي لحق بالمركز جعلني أشعر وكأن خمسين عاماً من عمري قد سُحقت، وأن 25 عاماً من مسيرتي المهنية تحولت إلى مجرد ركام."
يتحدث عثمان عن "أرتكل" بحرقة، كأنه يتحدث عن كائن حي فُجع فيه: "المركز لم يكن مجرد مبانٍ ومعدات تُقدّر بمئات الآلاف من الدولارات، بل كان قصة حياة، مشروع حلم راودني طيلة مسيرتي المهنية، سكبت فيه عصارة فكري وجهدي، وكل ما أملك من خبرة وعلاقات وتفانٍ."
ويستطرد قائلاً: "كل قطعة أثاث، كل جهاز، كان يمثل لي جزءاً من كياني، ومساحة من ذاكرتي. كان طموحنا كبيراً، أردنا لـ"أرتكل" أن يكون نقطة ضوء حقيقية تشع في سماء الإعلام السوداني."
يكشف فضل الله أن المركز، الذي أُنشئ عام 2022 بُعيد ثورة ديسمبر المجيدة، حمل في طياته رؤية طموحة ليتجاوز كونه مجرد مركز إنتاج، ويصبح مدرسة للصحافة. "نظمنا العديد من الدورات التدريبية المتخصصة في صحافة السلام، ومكافحة خطاب الكراهية، وتعزيز النسيج الاجتماعي. كان المركز منصة لتوثيق فعاليات الثورة وملتقى للحوارات البناءة بين الصحفيين والصحفيات."
من الناحية الفنية، كان "أرتكل" صرحاً متكاملاً لإنتاج البرامج التلفزيونية، يضم استوديوين من أفخم الاستوديوهات المتكاملة، وخمس وحدات صوت مجهزة بتقنيات متنوعة، وثماني وحدات إضاءة حديثة، وثماني كاميرات احترافية، من بينها ثلاث كاميرات من طراز Canon 5D. كما كان يحتوي على ثلاثة حواسيب "ماك" متقدمة بأنظمة مونتاج وأرشفة متكاملة، ووحدة طباعة حديثة، وقاعة مؤتمرات شهدت العديد من الفعاليات الهامة، بالإضافة إلى قاعتين تدريبيتين مجهزتين بأحدث الوسائل.
"كنا نطمح لتحويله إلى أكاديمية تخرّج أجيالاً من الإعلاميين القادرين على مواكبة التطورات المهنية باحترافية عالية"، يقول فضل الله بحسرة، ثم يتنهد بعمق: "لكن كل ذلك الطموح أمسى حطاماً."
الدمار الشامل... ورغم الجرح، يبقى وميض الأمل
لم يسلم شيء من آلة الدمار؛ فالأجهزة والمعدات والأثاث وشبكات البث، وحتى السيارة الخاصة بإدارة المركز، كلها إما سُرقت أو دُمّرت بالكامل. ورغم هول الفاجعة، يقول فضل الله بنبرة يمتزج فيها الأسى بالإصرار: "لا أريد أن أبدو محبطاً أو يائساً، فذلك ليس من شيمنا، ولكن إعادة بناء المركز بنفس المواصفات والمعايير تبدو مهمة بالغة الصعوبة في ظل الظروف الراهنة." ومع ذلك، يختتم حديثه بلمحة أمل: "سنبذل قصارى جهدنا لإعادة الحياة إلى "أرتكل" قدر المستطاع... فالأمل، رغم كل شيء، ما زال يراودنا."

 

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فضل الله

إقرأ أيضاً:

اغتيال خيمة الصحفيين في غزة: جريمة بحق الكلمة والصورة وصمت يفضح العالم

في مشهد يعكس أقصى درجات البشاعة، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي جريمة اغتيال منظمة بحق الصحفيين في غزة، حيث استهدفت "خيمة الصحفيين" قرب مستشفى الشفاء، مما أدى إلى استشهاد خمسة من أبرز الإعلاميين العاملين على نقل الحقيقة وسط أتون الحرب. هذه الحادثة ليست مجرد جريمة حرب، بل صفعة على وجه القانون الدولي وحرية الصحافة، ورسالة واضحة أن الكلمة والصورة باتت هدفا مشروعا في منطق القوة.

ووفق مصادر إعلامية، أسفر القصف الإسرائيلي عن استشهاد خمسة صحفيين من قناة الجزيرة: أنس الشريف، ومحمد قريقع، وإبراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، محمد نوفل.

وقد وصفت الجهات الفلسطينية هذا الهجوم بأنه "اغتيال مع سبق الإصرار والترصد"، يستهدف إسكات الحقيقة وحرمان العالم من الشهود على الجرائم اليومية في غزة.

إن حجم الكارثة الإعلامية منذ بداية العدوان في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم غير مسبوق، فبلغ عدد الصحفيين الشهداء في غزة 237 صحفيا، في سابقة لم يشهدها تاريخ الحروب المعاصرة، حيث تُستهدف الكاميرا كما يُستهدف السلاح، وتُقصف الكلمة كما يُقصف المقاتل
إن حجم الكارثة الإعلامية منذ بداية العدوان في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم غير مسبوق، فبلغ عدد الصحفيين الشهداء في غزة 237 صحفيا، في سابقة لم يشهدها تاريخ الحروب المعاصرة، حيث تُستهدف الكاميرا كما يُستهدف السلاح، وتُقصف الكلمة كما يُقصف المقاتل.

ورغم وضوح الجريمة، يلوذ معظم العالم بالصمت. يعود هذا الصمت الدولي إلى:

1- إسكات الحقيقة: القوى الكبرى تدرك أن الصورة الحقيقية لغزة تهدم رواياتها الإعلامية، لذلك يُستهدف الصحفي قبل أن ينقل المشهد.

2- غياب المحاسبة: القانون الدولي الإنساني موجود على الورق، لكن غياب آليات الردع الفعّالة جعل قواعد الحرب تتحول إلى "قوانين غابة".

3- هيمنة اللوبي الصهيوني المسيحي: تحكمه في الإعلام والسياسة يضمن حماية الجناة وتبرير جرائمهم، بل وتحويل الضحية إلى متهم.

الحقيقة المُرّة

لقد سقطت كل شعارات "العالم الحر" و"حقوق الإنسان" في مزبلة التاريخ، بعدما كشفت الحرب على غزة أن هذه القيم مجرد أدوات سياسية تُستخدم حين تخدم المصالح، وتُسقط حين تعارضها. عادت روح الحروب الصليبية، لكن بثوب أشد قذارة وهمجية، يقودها تحالف صهيوني مسيحي يستغل الشعارات الإنسانية لفرض سيطرته ونهب ثروات الشعوب.

ومهما اشتد الحصار وتكالب الأعداء، يبقى لأهل غزة صبر المجاهدين ورباط المرابطين. وقد علّمنا التاريخ أن "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". النصر ليس حكرا على من يملك القوة المادية، بل هو وعد إلهي للصابرين، والمتمسكين بحقهم، والرافعين راية الحق مهما كانت التضحيات. هذه هي رسالة المقاومة بكل وضوح.

ختاما: اغتيال خيمة الصحفيين في غزة لن يُسكت الحقيقة، بل سيجعل الكلمة والصورة أكثر قوة وانتشارا. ستسقط الصهيونية، ومعها كل الأنظمة الخائنة التي تمشي في ركابها. وسيظل أهل غزة -أهل الرباط- شوكة في حلق المحتل حتى يأذن الله بالنصر والتمكين.

مقالات مشابهة

  • هذا الرجل وبسطحية واضحة يفتخر بقتل غردون الذي ضحى بحياته وظل في الخرطوم
  • الحاج أبو محمد… بائع الأمل الذي تحدى الحرب بابتسامة
  • كشف عن خطط جديدة.. هل يستطيع جبريل إنعاش الاقتصاد السوداني؟
  • الخرطوم تحذر المواطنين من التعامل مع مخلفات الحرب
  • اغتيال خيمة الصحفيين في غزة: جريمة بحق الكلمة والصورة وصمت يفضح العالم
  • ميليشيا كتائب حزب الله:ما أعلنه السوداني في الإعلام عن إعفاء أمري لوائي حشد 45 و46 يختلف عن الوثيقة الرسمية لدى الحشد!!
  • مأساة غزة من منظور الإعلام المتصهين : بأي وجه ستلقون الله ؟
  • مقابر الحرب العشوائية.. مأساة وحكايات لم تُروَ في قلب الخرطوم
  • الحديث عن حرب أهلية مجرد حكي صالونات
  • أذكار الصباح اليوم الأحد 10 أغسطس 2025.. «بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء»