تجوع غزة.. وحولها ألف مدينة
تاريخ النشر: 10th, May 2025 GMT
د. محمد بن خلفان العاصمي
حالة غزة لا تشبهها أي حالة في التاريخ القديم أو الحديث على السواء، هذه القطعة الصغيرة من أرض فلسطين السليبة التي صار اسمها معروفًا لدى العالم كله كشفت للعالم حقيقة الكيان الإرهابي الذي كان يصور نفسه من قبل كضحية للإرهاب وأنه يتعرض للاضطهاد من قبل الفلسطينيين والعرب والمُسلمين، بل كشفت حقيقة العالم أجمع، لقد أثبتت غزة أن معايير المساواة والعدالة وحقوق الإنسان تقاس وتفصل من خلال أصحاب القرار والسلطة، وأن العالم لا ينظر إلى المسحوقين ولا يحترم إلا الجلّادين.
في غزة حكايات كثيرة وفي غزة ألف قصة تحكي لأجيال صمدت وتحدت الخوف والجوع ونقص الأنفس والثمرات، حكايات نسجت بنسيج الفخر والعشق لأرض مباركة سرى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرج منها إلى السماء، أرض الأنبياء والرسل عليهم السلام، هناك في غزة حيث يولد الصغار كبارًا والنساء رجالًا والرجال مقاليع شهب في أعين العدو الغاصب، فقط في غزة يعد الموت حديث عابر والحياة مجرد محطة هامشية في عين قضية كبرى اسمها الحرية.
ما يحدث في غزة لا تستوعبه كثير من العقول التي تتساءل عن سر الحياة في أرض يحوم بها الموت في كل لحظة، وفي ساحة ينعدم فيها الأمن والأمان والاستقرار، وسط أرض أثقلتها القنابل وحرثتها مجنزرات الجبناء وحرقت أرضها الصواريخ بشتى أنواعها، أرض تعبت من القصف وإنسانها مازال يقول عزيمتي لا تنثني بمثل هذا العبث. وهناك حيث يصنع الرجال وتزف مواكب السائرين الوافدين إلى جنان الخلد يولد الفرسان على صهوات الرصاص متترسين بقلوب لا ترى الحياة سوى لحظة الشهادة، هناك تنبت الكرامة وتتدلى كروم الكبرياء.
لم تتعب غزة من سكب ينابيع الكرامة لأمة أثخنت بالجراح، ونهشتها كل صنوف المحن ولم تهنأ بالراحة منذ تغلغل هذا الكيان الغاصب في قلب هذه الأمة، ومازالت غزة تقاوم السقوط وترفض أن تكون يافا وحيفا جديدة، وتأبى أن تنحني في انتظار استفاقة المجدل وجنين وعكا من تحت ركام الغاصب المستبد، ولن تتوقف غزة عن التنفس من تحت الركام لأنها العزة في أبهى صورها، رغم أن ما تعانيه لا تصفه الكلمات ولا تعبر عنه المقالات وكما يقولون إن من رأى ليس كمن سمع، وهناك من يعيش الأمر بكل تفاصيله يومًا بيوم.
غزة هي مختبر الإيمان وامتحان الصبر؛ فليس من السهل على الإنسان أن ينتظر الفقد في كل رنة هاتف وأن يتقبل حقيقة أنه ربما يكون الجنازة التالية، أن ترى أطفالك يضحكون هزوًا بالحياة ويتعفرون بغبار القذائف ويستنشقون البارود، ليس سهلًا أن تبحث من بين الركام عن صرخة ولا تجد إلا جزءًا من بقايا طفلك، ليس سهلًا أبدًا أن تنظر للأفق وأنت تعلم أن كل معاناتك هي بسبب قرار اتخذه آخرون ليسوا أفخر الثياب وتأنقوا ثم نفخوا دخان سجائرهم وقرروا أنَّ هذه الأرض ليست أرضك وهذه الحقيقة التي عليك أن تعيشها، هناك في غزة لا يقدر على ذلك إلا المؤمنون حقًا.
إن الجوع الذي يلف غزة هو فصل جديد من معاناة 80 عامًا من القهر والظلم واغتصاب الأرض والموت والدمار، وكأن لا عذاب بقي لأهل هذه الأرض المباركة سوى الجوع، لتكتمل دائرة العذابات التي سلطها عدو غاصب ومجرم على أهل غزة الصامدة، وأن مشاهد الجوع التي تطبعها غزة عار في جبين الإنسانية والأمة، فكيف تجوع غزة وحولها ألف مدينة متخمة شبعًا، وكيف ننظر لغزة وأبناؤها يقاسون الجوع ولا نحرك ساكنًا، هل ماتت المروءة فينا أم صرنا بلا رحمة، هل تمكن الخوف من قلوبنا فلم نعد نشعر بما يشعر به الإنسان نحو الإنسان من تعاطف، ماذا حل بهذه الأمة من غضب وذل.
كيف لنا أن نعيش الحياة طولًا وعرضًا وبذخًا وهناك طفل بانت عظامه من شدة الجوع وامرأة تنظر لفلذات أكبادها يغادرون الحياة جوعًا وظمأ وما بينهم وبين البذخ بضع كيلومترات وسور وحاجز شوكي وبحر، كيف لنا أن نستوعب أنَّ مؤامرة إبادة غزة لا شركاء فيها وأن العدو هو فقط من قرر ذلك؟ لماذا كل هذا الصمت والاكتفاء بالمشاهدة والحوقلة وصب اللعنات والدعاء على العدو، هل أيقنا أننا لا نملك إلا اضعف الايمان؟ هل تبددت إنسانيتنا وصرنا لا نشعر بغيرنا ولا يهمنا من أمر الإنسان إلا من كان مثلنا في نعيم الحياة ورغدها، لماذا وصل بنا الحال إلى هذا الحد من البؤس.
تجوع غزة ويشبع العالم ويتباهى بموائد الطعام ويتفنن بصنوفه، تجوع غزة ويموت أطفالها جوعًا وفي العالم من يشتكي الراحة والشبع والتخمة، تجوع غزة وضجيج الاحتفالات من حولها يصل إلى قلب سكانها ولا يصل طعامهم إليها، يجوع طفل غزة ويتمنى رغيف خبز وأطفال العالم يبكون من أجل لعبة جديدة وعلبة حلوى، يموت طفل غزة ولم يعرف يومًا طعم الحلوى ولم يجرب شعور امتلاك لعبة جديدة، تموت غزة جوعًا وحولها ألف مدينة تتفرج، والله غالب على أمره ولكن أكثر النَّاس لا يعلمون.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وفيات الجوع في قطاع غزَّة ترتفع 35 ضعفاً
الثورة / متابعات
يعيش قطاع غزة واحدة من أقسى الكوارث الإنسانية في تاريخه، حيث تتقاطع المجاعة مع حرب مدمرة تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، وسط شلل تام في الإغاثة الدولية
يأتي هذا فيما يشهد القطاع ارتفاعًا حادًا في أعداد الوفيات الناجمة عن سوء التغذية، وسط استمرار الحصار الإسرائيلي وتدهور الوضع الإنساني.
وكشف المكتب الإعلامي الحكومي أن عدد الوفيات تضاعف منذ عام 2023 بنحو 35 مرة، إذ ارتفع من 4 حالات فقط في ذلك العام إلى 50 حالة في 2024، ثم قفز إلى 212حالة منذ بداية 2025، من بينهم 98 طفلًا . فيما بلغ إجمالي ضحايا لقمة العيش في مراكز المساعدات المزعومة حتى يوم أمس 1,743 شهيداً وأكثر من 12,590 إصابة.
وحذّرت منظمة الصحة العالمية من أن الأزمة الإنسانية في غزة تتفاقم بوتيرة مقلقة، مؤكدة أن سوء التغذية منتشر على نطاق واسع، وأن الوفيات المرتبطة بالجوع آخذة في الارتفاع. .
وأشارت المنظمة إلى أن القيود الإسرائيلية على دخول الغذاء والمساعدات الطبية أدت إلى انهيار شبه كامل للنظام الصحي في القطاع، الذي يعاني أيضًا نقصًا حادًا في الأدوية والمستلزمات الطبية. ودعت إلى إعادة فتح المعابر فورًا، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بلا عوائق، معتبرة أن إنقاذ الأرواح يتطلب تحركًا دوليًا عاجلًا.
ومن جهتها، أعلنت الأمم المتحدة أن مستوى سوء التغذية الحاد بين الأطفال في قطاع غزة وصل إلى أعلى مستوى تم تسجيله. وقال نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة فرحان حق، خلال مؤتمر صحفي “إن أزمة الجوع وسوء التغذية في غزة تتفاقم بشكل متزايد، خاصة بين الأطفال” .
وأشار إلى أنه في شهر يوليو الماضي وحده، تم فحص 136 ألف طفل دون سن الخامسة، وتم تشخيص 12 ألفًا منهم بسوء تغذية حاد، و 2500 طفل في خطر شديد على حياتهم.. موضحاً أن هذه النسبة تمثل زيادة بنسبة 18 بالمئة مقارنة بشهر يونيو .
مسرحية هزلية
إلى ذلك وفي مشهد بات يتكرر خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، تتحول السماء فوق غزة إلى مسرح لعمليات إنزال جوي لمساعدات إنسانية، تلقيها طائرات تابعة لدول عربية وأجنبية على مناطق مختلفة من القطاع.
وبينما يُفترض أن تكون هذه الحمولات طوق نجاة لمئات آلاف المحاصرين، فإنها في أحيان كثيرة تتحول إلى مصدر خطر، يصيب من قصدت إنقاذهم.
وبحسب مصادر طبية وشهود عيان، فقد أسفرت بعض عمليات الإنزال عن سقوط المساعدات مباشرة فوق رؤوس المدنيين أو فوق خيامهم، ما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد منهم، بينهم أطفال ونساء، وتهدم خيام وإتلاف ممتلكات بسيطة تمثل كل ما تبقى لعائلات نازحة.
وبلغ إجمالي ضحايا عمليات الإنزال الجوي الخاطئ للمساعدات منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة 23 شهيداً و124 إصابة حتى الآن.
ترويج للوهم
وتواجه آلية الإسقاط الجوي انتقادات فلسطينية ودولية لعدم جدواها مقارنة بالنقل البري، فضلاً عن تسببها بخسائر في الأرواح والممتلكات، وتحويلها إلى مشاهد مصوّرة تبثها وسائل الإعلام للترويج للدول والمنظمات المانحة.
وفي هذا الصدد، قالت وزارة الداخلية بغزة، إن “الآثار السلبية لإسقاط مظلات المساعدات وما تخلقه من فوضى وخسائر أكبر بكثير من أي منفعة تحققها للمجوعين”.
وأوضح المكتب الإعلامي الحكومي في غزة ، إن غالبية هذه الإنزالات الجوية تسقط في مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال أو في أحياء مفرغة قسرياً، ما يُعرّض من يقترب منها للاستهداف والقتل المباشر.
وأشار إلى سقوط شحنات من عمليات الإنزال الجوي داخل البحر أدت إلى غرق 13 فلسطينياً من المدنيين العام الماضي.
وندد «المكتب الإعلامي» في غزة، باستمرار سياسة «هندسة التجويع والفوضى» التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي، محمّلًا تل أبيب والإدارة الأمريكية والدول المنخرطة في الإبادة الجماعية والمجتمع الدولي المسؤولية الكاملة
ومنذ 2 مارس الماضي، أغلق الاحتلال الإسرائيلي جميع المعابر المؤدية إلى قطاع غزة، منقلبًا على اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 18 يناير 2025 والذي نصّ على إدخال 600 شاحنة مساعدات و50 شاحنة وقود يوميًا.
وحتى إشعار آخر، ستظل السماء في غزة تحمل الأمل والخطر معًا، فيما ينتظر الناس على الأرض شيئًا واحدًا، أن تصل المساعدات إليهم دون أن تودي بحياتهم.