سقطت مدينة وسقط رجال من جبل حيدوب.
أين اختفى الوالي؟ ومن اختطف أمين الحركة الإسلامية؟
من سلّم صغاره للغول؟
حينما تشتدّ الظلمات وتغشى العيون غمّة، ويتمدد جرح القلب عميقًا، نمدّ الخطى نحو دار المجاذيب ونرتشف مرّ الكلام من قبس تلك النار:
“جدار الدجى أعمى عيوني،
وفي يدي تساقط مصباح بدمع مبدّد،
أين بلادي؟ كل وجه رأيته قناع،
وأخشى صدق وجهي المجرّد.
تأمّلت في الظل الواقف وما زاد، وحدّقت في حروف نداء كتبها الدكتور بشير آدم رحمة بقلب ملهوف، لم تصرفه مأساته الخاصة بفقدان فلذة كبده الذي لا يُعرف عنه نبأ: هل قُتل أم في أغلال السجن يُصبّ على رأسه العذاب؟ مأساة وطن نشأ فيه وعلى حبه شاب، وفي ترابه تسيل الآن الدموع قبل الدماء.
النهود في الأسر، تحت أحذية البغاة، تئن من وطأة الألم ووحشة الظلمة وقسوة المغتصبين للأرض والنساء والرجال. المتوحشون في دار حمر أحالوها إلى أرض خراب، كما قال تولستوي. يدْمع القلب، ويوسف عمارة أبوسن يرسم بحروفه مأساة ذلك الشيخ الأسير الذي بات كعصفور كبير في يد طفل صغير.
عيون الناظر عبد القادر منعم منصور يلمع فيها بريق شموخ وكبرياء أجداده، يستلقي على ذراعه ولا يستوضح السبب، والأعياء و”غلب” الزمان ومحنة الدنيا تضع ناظر عموم دار حمر أسيرًا في يد مليشيا آل دقلو، بعد أن رفض الخروج من النهود، واستقبل الموت برصاص الجنجويد، وفضّل البقاء في “دار منعم ود منصور” بدلًا من النجاة بجسده وجرح كبريائه.
بنات دار حمر يُوطأْن بأقدام عبيد آل دقلو، وبعض الخونة من أهل الدار يبيعون شرف الغشيميات والغريسيات والدقاقميات، فمن لا شرف له لا يعرف قيمة الشرف عند الأخوات والأمهات.
يطلق بشير آدم رحمة النداء لأبناء دار حمر لإغاثة التائهين في القيزان، والأعمى حامل الكسيح، والناس في فزع وجزع وخوف من دعاة الديمقراطية المفتَرى عليها، وقادتها الذين يسرقون حليّ النساء ويأكلون من مدّخرات القرى ويقتلون برصاص أصم الصغار والكبار، وهم يرفعون شعارات “حرية سلام وعدالة” و”آل دقلو خيار الشعب.”
بشير رحمة ينادي دار حمر، وكل السودان اليوم دار حمر.
ويوسف عمارة أبوسن يُوجع القلوب بمقال لم يُكتب قبله وربما لا يُكتب بعده، عن الناظر منعم منصور الذي وضعه “الأشاوس” في السجن داخل بيته، ينظرون إليه نظرة المغشيّ عليه من الموت، ومنعم منصور هو من يسجن سجانه:
يا فارس النهود المنو الخصيم متورّع
تقدّل بالمكارم وبالنصر مدرّع
يا مطر الضراع الساقي البلد ومترّع
مات عبد القادر منعم أكثر من موته، ورجال حمر تُسفك دماؤهم في الصباح وعند العشيات، وعبد القادر ينظر إلى السجّان بعين الأسد المحاط بأعمدة الحديد، يتمنّى صعود روحه، وكأنّه يتذكّر حال عكير الدامر الذي هدّه المرض فقال آخر أبيات حياته:
كيف أمسيتِ يا المزنة أم سحابًا شايل
وشِن سويتي في السلْمة وبلاد ناس نايل
واحدين في الخلا وواحدين بسقوا الشايل
معاكِ سلامة يا الدنيا أم نعيمًا زايل
٢
سقطت النهود وحفرت جرحًا عميقًا في كل قلب تهفو نفسه لكردفان ويمدّ خطاه للأمل القريب وأشواق كثيرة قُصرت.
سقطت النهود ولاذ الناس بالفرار، لا تعرف مَن يأتيك ولا مَن تأتيه.
سقطت معها قيم ومروءة وأحلام بأن تبقى مدينة العلم والنور صامدة في وجه الزمان الشين.
لكن النهود ليست الفاشر، والفاشر لا تشبه النهود. صمدت الفاشر لأن سوس السياسة لم ينخر عظمها، والخيانة لا تعرف لها مكانًا، ولأن حكّام الفاشر منها وحاكم النهود عليها.
الحكّام ثلاثة كما يقول ابن خلدون: حاكم مِنّا أي جاء بإرادة الناس، وحاكم فيهم أي بغلبة السلطان، وحاكم عليهم بسنان السلاح.
وحين اشتجرت دار حمر وما بقي من دار المسيرية، كان إجماع أغلب أهل الديار على ضابط متقاعد خدم في جهاز الأمن والمخابرات، صالح سليمان، لكن حكّامنا في بورتسودان لم يعجبهم ذلك، وكان خيارهم واليًا لا يُعرف له مكان، رفض الانسحاب مع الجيش، لا فراسة ولا رغبة في القتال، بل لسبب غامض اختفى في “حلال” وقرى دار حمر.
حار الصحافي خالد بخيت: ماذا يكتب عمّا حدث في النهود والوالي يرفض العودة مع القوات المسلحة إلى الأبيض؟
تتمدد علامات الاستفهام: من دردوق إلى السعاتة الدومة، هل لغياب الوالي ما قبله وما بعده؟
حكومة الوالي نفسها تحيط بها الشكوك.
بل أمين الحركة الإسلامية اختُطف من قبل المليشيا، تبسّم في وجه خاطفيه الذين صلّى بهم العصر جماعة وركب معهم.
وأين وزير المالية الذي كان يسهر الليل مع إخوانه من المؤتمر السوداني وهم له كارهون؟
عادت بنا الأحداث إلى ودمدني، واجترار ما حدث دون اعتبار، ولم نقرأ كتاب الفاشر التي عجزت المليشيا عن اختراق مجتمعها وزرع عملائها، بينما النهود سقطت سياسيًا قبل أن تسقط عسكريًا، سقطت بالخيانة وبالتساهل والتغافل.
٣
الآن، بعد أن سقطت النهود، ليس مهمًا كيف يسترد الرجال البلاد التي فقدوها، فهذا شأن عسكري نثق فيه كامل الثقة بجيشنا.
نحن هنا نجيب على السؤال: لماذا نسترد النهود؟
لأنها عاصمة كردفان الثانية بعد الأبيض، ولأنها أرض الرجال الشجعان، ولأنها النهود: العطر الذي يغسل رشح الجرح النازف ويمسح ظلّ الآهة من شفاهنا.
بعد سقوطها جفّت الكلمات، لا خليفة نناجيه، ولا جنرال يسمع صوت أنين المرأة الحبلى على ظهر حمار أعرج.
شعب كردفان قادر على تحرير النهود، وهي أرض شعب كريم، لا حارة ولا زقاق.
لا شيء يقف أمام عودة النهود التي تردّ لكردفان كرامتها المهدورة وشرفها المخدوش، وتعيد لنا ولو مؤقتًا فرحًا سُرق منا.
النهود هي مطمورة غلّة الدخن، ومخازن الفول السوداني، وزيوت المأمون، وهي الضأن الحمري في السودان والسواكني عند عرب الخليج.
تعود النهود من أجل الإنسان أولًا، والصمغ العربي ثانيًا، ومن أجل فنقوقه، والسعاتة، وطقنوه، وصقع الجمل، وعيال بخيت، ودونكي المناخر، ومن أجل طمبور دار حمر، وتوية دار حمر، ودلوكة قليصة، وودملكي، ومن أجل أبوزبد المرين، وحتى يستريح كباشي سيد الزوق وديني ود دردوق، نحضر خضار السوق.
سنحضر النهود وإن تأخرت خيولنا، وليتنا نجد من أفسد الأرض وهلك الضرع وجعل أعزّة أهل النهود أذلّة، وكذلك يفعلون.
????*يوسف عبد المنان*
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
مأزق حواضن الجنجويد
□ اليوم عبد الرحيم دقلو في النهود ليقدم لهم العزاء والمواساة والاعتذار عن ما بدر من القوة التي دخلت النهود، هذه القوة قتلت أكثر من ثلاثمائة من أبناء النهود وسرقت أربعمائة وخمسون شاحنة محملة بالفول السوداني ومئات من عربات المواطنين والكارثة الكبرى تم إختطاف فتيات من المدينة وتهريبهن إلى دول الجوار.
□ أحد الخاطفين يقول لوالد البنت المخطوفة، ووالدها من الحمر ومن القادة الذين دخلوا المدينة مع الدعم السريع، يقول له زميله بالدعم السريع والذي خطف البنت وهو من غرب أفريقيا (بتك معاي وكان راجل تعال شيلها).. فأصبح والد البنت كالمجنون لأنه كان على رأس القوة الغازية لمدينة النهود…
□ مأزق الدعم السريع هو عندما وافق على خوض هذه الحرب تحت شعارات مختلفة منها (الديمقراطية، قضية الهامش، الجلابة، الفلول و…) تفاجأ أثناء الحرب بأشياء غريبة، وتحدث عقلاؤهم بذلك، ولكن كان قد فات الأوان بالنسبة لأبناء المليشيا السودانيين ومن ضمن هذه الأشياء، على سبيل المثال لا الحصر:
١- المرتزقة الذين جاؤوا من غرب أفريقيا كان همهم السرقة وخطف البنات. والمليشيا ترى ذلك ولا تسطيع منعهم…
٢- هناك فرق متخصصة من جنسيات مختلفة وهم خبراء (روس وكولمبيون وأوروربيون) قاموا بتفكيك كل الأجهزة الطبية بكل المستشفيات..
٣- هناك فرق فككت المصانع ببحري ومصنع سكر سنار ومحالج القطن بالجزيرة..
٤- هناك فرق فككت ورحلت الآثار..
٥- هناك فرق أخذت كل ما موجود بمراكز البحوث والمعامل بما في ذلك معمل إستاك..
والقائمة تطول وشملت محولات الكهرباء والأسلاك الكهربائية ومعدات معالجة محطات المياه..
تبين للجنجويد. فيما بعد، أن هناك يد خفية إستخدمتهم كواجهة ولكنها نفذت مخطط لا يتماشى مع شعارهم المرفوع وهو *قضية الهامش* واكسسواراتها من (ديمقراطية وفلول وجلابة وتقسيم الثروة) والشيء الذي إنتبهوا له، بعد فوات الأوان، هو *أن الحبوب التي كانت تصرف لهم* بذريعة زيادة النشاط والحركة والتركيز قد سببت لهم *فشل كلوي* نعم فشل كلوي وأمراض أخرى، وخوفاً من الشماتة لم يصرحوا بذلك..
هنا إنتبهت الحواضن إلى أمر خطير وهو أن الجهة الخفية التي تدير الحرب تريد السودان *خالياً من السكان* لو نجح، لا قدر الله، مخطط إستيلاء الجنجويد على السلطة كانت المرحلة القادمة هي قتل الجنجويد وإبادتهم وهم الآن قد بلعوا الطعم ولن يعمروا طويلاً والأيام ستثبت ذلك…
والمأزق الكبير هو أن كل ما تم من دمار وخراب وما سيحدث بواسطة اليد الخفية ينسب إلى حواضن الجنجويد الذين إستخدمتهم هذه اليد الملعونة كقفاز لتنفيذ الأعمال القذرة… وبذا كسبوا عداوة الدهر من قبل الشعب السوداني..
هل تعلم أن المخطط كان يشمل حتى إغتيال العلماء والنوابغ من الشعب السوداني تماماً كما حدث بالعراق وأن هناك قوائم كانت معدة مسبقاً ولكن الله سلم…
الحمد لله الذي سخر الجيش السوداني لصد هذا العدوان ولم يعطي الفرصة لمحدثهم الرسمي ليكرر كلمة برايمر حاكم العراق بعد الغزو الذي وقف أمام الكاميرات وقال (*لم نترك في العراق شيئاً ذا قيمة*) والآن عقلاء الجنجويد إنتبهوا لذلك وها هو عبد الرحيم كما ذكرنا بالنهود، لإصلاح ما أفسده بيده بجلب مرتزقة تعيث فساداً حتى في حواضنهم فأصبحت خطراً عليهم ونقول له *يداك أوكتا وفوك نفخ* … *والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون.
** متداول
إنضم لقناة النيلين على واتساب