هجرة اللبنانيين إلى أفريقيا.. من باعة متجولين إلى قادة اقتصاد وتجارة
تاريخ النشر: 19th, May 2025 GMT
عند الحديث عن هجرة اللبنانيين إلى الخارج، عادة ما تتّجه الأنظار إلى أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) وإلى كثير من بلدان أميركا اللاتينية وما حققه أحفاد الفينيقيين من نجاحات اقتصادية وسياسية وأدبية في تلك الأصقاع البعيدة.
لكنّ التدقيق في تفاصيل وتاريخ هجرة اللبنانيين خارج تلك البلدان، يستدعي الوقوف على وجهات أخرى من المعمورة كانت قبلة آلاف منهم، منذ منتصف القرن الـ19، مثل أفريقيا، وأستراليا، وأوروبا، وبلدان الخليج العربي التي استقطبتهم في مراحل لاحقة.
وتأثّرت موجة الهجرة اللبنانية إلى أفريقيا بأحداث تاريخية كبرى، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخضوع لبنان للانتداب الفرنسي، والحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990.
وفي البداية، كانت رحلة اللبنانيين إلى أفريقيا صُدفا وأقدارا، إذ توقفت رحلاتهم إلى أميركا على شواطئ أفريقيا الغربية نظرا لبعض العوامل والأسباب التي لم تكن مبرمجة وقتها.
وتقول بعض السرديات، إن أوائل اللبنانيين الذين دخلوا أفريقيا، كانوا في طريقهم إلى أميركا لكنّهم تعرّضوا للخديعة بشأن وجهتهم النهائية إذ أقنعهم الناقلون بأن شواطئ السنغال وغينيا تقع في أميركا.
وتقول بعض التفسيرات، إن نسبة كبيرة من اللبنانيين الحالمين بالهجرة آنذاك لم يكن أمامهم من خيار سوى بلدان أفريقيا بسبب انخفاض تكلفة السفر مقارنة بمتطلّبات الرحلة إلى القارة الأميركية، إضافة إلى أن دخول عديد من بلدان غرب أفريقيا قبل عام 1923 لم يكن يتطلب جواز سفر.
إعلانوفي تلك الفترة الزمنية، كانت بعض بلدان غرب أفريقيا وجهة أنسب للمهاجرين القادمين من بيئات فقيرة، ولم يتلقوا تعليما كافيا، ولا يتمتعون بمهارات فنية أو خبرات عملية.
كل هذا العوامل جعلت الموجة الأولى من اللبنانيين في أفريقيا يشتغلون باعة متجولين في الأسواق والشوارع والقرى، قبل أن يمتهنوا تجارة التجزئة في المحلات الصغيرة، ثم تطور الأمر تدريجيا إلى نشاط تجاري مهيكل باحتكار مواد بعينها في هذا البلد أو ذلك، مثل الكاكاو والبن في كوت ديفوار، والأخشاب في الغابون.
طوائف وإحصائياتوكان معظم المهاجرين اللبنانيين نحو أفريقيا في البداية من المارونيين قبل أن تتوافد أعداد كبيرة من المسلمين الشيعة القادمين من جنوب البلاد، وكان القاسم المشترك بين كثير منهم هو الفرار من الاضطهاد السياسي والديني ومن الظروف الاقتصادية المزرية.
وتشير إحصائيات لبنانية إلى أن 70% من المهاجرين اللبنانيين في أفريقيا من الشيعة الذين يتحدرون من جنوب لبنان، وأن أعدادهم زادت بشكل لافت في الفترة بين عامي 1975-1990 (سنوات الحرب الأهلية).
وتشير بعض المصادر المختصّة في توثيق الهجرة وإحصائياتها إلى أن أول قدوم إلى أفريقيا كان من لبنان إلى السنغال عام 1860.
ومع بداية القرن الـ20 أصبح العدد بالمئات، وارتفع بعد ذلك بشكل ملحوظ، حين أصبحت لبنان تحت انتداب فرنسا التي تستعمر دولة السنغال أيضا، وتشكّل موانئها محطة مهمة لرعايا باريس.
وتسارعت هجرة اللبنانيين إلى أفريقيا خلال حقبة الاستعمار الفرنسي لكوت ديفوار، والسنغال، وغينيا، ثم مرحلة الاستعمار البريطاني لنيجيريا، وغانا، وسيراليون، وغامبيا.
ومن العناصر التي تسبّبت في استمرار الهجرة اللبنانية لأفريقيا هو طابعها العائلي والطائفي في كثير من الأحيان، إذ كانت الروح التكافلية تقتضي أن تتضافر الجهود لمساعدة الأقارب عائليا أو مذهبيا على القدوم إلى تلك البلدان.
ولا توجد أرقام دقيقة عن عدد اللبنانيين في أفريقيا، لكن التقديرات تشير إلى أنهم ما بين 300 ألف و500 ألف نسمة، ويقيم أغلبهم في غرب ووسط أفريقيا في دول مثل كوت ديفوار (نحو 100 ألف نسمة)، والسنغال (نحو 30 ألف نسمة)، ويعتبرون من أكبر الجاليات في نيجيريا، ويقدر عددهم ما بين 30 إلى 100 ألف نسمة، وفي الغابون بأكثر من 15 ألف نسمة.
إعلانوينتشر باقي اللبنانيين بالآلاف في غانا، وغينيا، وليبيريا، وسيراليون، وبوركينا فاسو، ومالي، وبنين، وتوغو، وأنغولا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والكونغو برازافيل، ودول أخرى بالمنطقة.
فقراء أم أغنياء؟ويثير التاريخ الطويل لهجرة اللبنانيين إلى أفريقيا كثيرا من الأسئلة بشأن حقيقة أوضاعهم، وأدوارهم، والصور النمطية الرائجة عنهم، وتتصل تلك الأسئلة عموما بالفقر والثراء والنفوذ التجاري.
ولعل ما يغذي التساؤلات والتكهنات عن "نجاح" أو "ثراء" اللبنانيين هو ذلك التحول الكبير في صورة المهاجرين اللبنانيين من بائعين متجولين، أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، إلى رجال أعمال وأثرياء يقودون مجموعات اقتصادية كبرى خلال العقود الأخيرة.
الصور السائدة عن نجاح اللبنانيين في أفريقيا الغربية دفعت بعالمة الأنثروبولوجيا مروة الشاب إلى كتابة أبحاث عن رجال الأعمال اللبنانيين في تلك المناطق.
وتسوق الباحثة اللبنانية تقديرات مفادها أن نحو 10% من أفراد تلك الجالية يمكن اعتبارهم ناجحين اقتصاديا أو أغنياء، وأن ما بين 70% و80% منهم يمكن اعتبارهم من الطبقة المتوسطة، والباقي يمكن تصنيفهم فقراء، قياسا بباقي اللبنانيين هناك.
ولا يزال بعض من هذه الفئة يمارسون تجارة التجزئة الصغيرة بالسنغال وغينيا، في ظروف تتسم أحيانا بالهشاشة ويعتمدون على مساعدات مالية واجتماعية عادة ما توفرها جمعيات أو هيئات تحت غطاء ديني من هذه الطائفة أو تلك.
وغالبا ما تتسم المكانة الاعتبارية بنوع من المفارقة، إذ ينظر إليهم أحيانا بأنهم يساهمون في تطوير البلدان التي يعيشون فيها ويلعبون أدوارا مهمة في تعزيز اقتصادها، لكن في بعض الدول يصنّفون بأنهم السبب في انتشار ممارسات اقتصادية سيئة من قبيل الاحتكار، والسوق السوداء، والاحتيال الضريبي والتهريب، وتهريب المخدرات، وتجارة الأسلحة، والألماس والمعادن النفيسة.
إعلانوترتبط الصور المتناقضة عن الجاليات اللبنانية في أفريقيا بالأحوال السياسية والاقتصادية في كل بلد على حدة، لكن رجال الأعمال غالبا يحظون بكثير من الإعجاب، خاصة في البلدان التي تشهد نوعا من الأمن والاستقرار.
وزن اقتصاديوتعتبر الجالية اللبنانية في كوت ديفوار هي الأكثر حضورا من حيث العدد، والوزن الاقتصادي وتشير إحصائية تعود لعام 2018 إلى أن مهاجرين لبنانيين يديرون أكثر من 3 آلاف شركة في قطاع العقارات والنقل والصناعة، والتوزيع، ويمثلون في المجموع نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن اللافت للانتباه أن نيجيريا أصبحت في السنوات العشر الأخيرة منصة اقتصادية جاذبة لرواد الأعمال اللبنانيين الذين يسعون إلى توسيع استثماراتهم وتنويعها.
ووفقا لبيانات غرفة التجارة الفرنسية اللبنانية عام 2018، فإن مساهمة رجال الأعمال اللبنانيين في ليبيريا تصل إلى نحو 50%، وفي غانا، تقدر بنحو 25%.
تأثير سياسيويعتبر نشاط اللبنانيين المكثف في قطاعات التجارة والخدمات والتصدير والاستيراد والأنشطة المالية والعقارية عنصرا مؤثرا في المجال الاقتصادي، وهو ما يمتد في بعض الأحيان إلى التأثير السياسي.
وخلافا للبنانيين في أميركا اللاتينية الذين انغمسوا في العمل السياسي، فإن نشاط الجالية في أفريقيا ظلّ محدودا في العلاقات مع بعض الوزراء، أو رؤساء الدول بما يعزز مصالحهم الفردية أو الجماعية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، لم يندمج اللبنانيون بشكل كامل في المجتمعات الأفريقية التي يعيشون فيها، وذلك لأسباب ثقافية وأسريّة، وهو ما جعلهم يعيشون في بيئات وشبكات فنّية وترفيهية خاصة بهم.
لكن مع مرور الوقت بدأت بعض عوائق الاندماج تزول بين اللبنانيين والسكان الأصليين، عندما فتح الباب أمام اللبنانيين في بعض البلدان للحصول على الجنسية.
أمام هذا الوضع بدأت تظهر أجيال جديدة من اللبنانيين تشعر بأنها جزء من الأرض التي استقبلت أجدادهم أكثر من قرن، وفي الوقت نفسه يظل ارتباط اللبنانيين بوطنهم الأم عميقا جدا كما هي الحال في سلوك المهاجرين في أغلب بلدان العالم.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات ألف نسمة إلى أن
إقرأ أيضاً:
مركبات الغاز في اليمن.. اقتصاد البقاء أم وقود للخطر؟
عدن- تغيرت وتيرة حياة سائق الأجرة اليمني محمد عارف، فأسعار البنزين التهمت دخله اليومي، مما دفعه إلى تحويل مركبته للعمل بالغاز، متخذا خيارا اقتصاديا يخفف أعباء المعيشة في بلد أثقلته الأزمات المتلاحقة.
وللوهلة الأولى، يبدو هذا الخيار طوق نجاة، إذ خفض التكاليف إلى النصف، لكنه لم يخلُ من الأخطار، فمع كل تشغيل للمحرك، يتجدد القلق من تسرب غازي غير مرئي أو شرارة طائشة قد تؤدي إلى كارثة، الأمر الذي وقع في عدة حوادث.
ولا يمثل محمد -الذي يعمل في نقل الركاب بين المحافظات- حالة فردية، بل يعكس واقع شريحة واسعة من السائقين اليمنيين الذين اضطرهم الوضع الاقتصادي إلى تبني هذا الحل، رغم المخاوف المتزايدة من احتمالات حدوث انفجارات.
تزايد ملحوظورغم غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة حول حجم الظاهرة، تشير مصادر محلية -للجزيرة نت- إلى تزايد واضح في أعداد المركبات العاملة بالغاز المسال، بالتزامن مع ارتفاع معدلات الحوادث المرتبطة بهذا التحول.
وفي محافظة تعز، يقول مدير الدفاع المدني العقيد فؤاد المصباحي إن المحافظة سجلت أكثر من 22 حالة احتراق لمركبات تعمل بالغاز منذ منتصف عام 2024، ويُقدّر أن نحو 35% من وسائل النقل أصبحت تعمل بهذا النوع من الوقود.
إعلانأما في مدينة عدن، فيشير علي العقربي -أحد العاملين في محطة لتعبئة الغاز الطبيعي- إلى أن الإقبال على تحويل المركبات للعمل بالغاز شهد ارتفاعا كبيرا خلال العام الماضي، موضحا أن ما يقرب من 70% من هذا الإقبال يأتي من سائقي سيارات الأجرة داخل المدينة.
ويضيف العقربي -للجزيرة نت- أن المحطة التي يعمل بها تستقبل يوميا أكثر من 200 مركبة، وهو رقم آخذ في الارتفاع، مما يعكس توسعا لافتا في الظاهرة.
جذور الظاهرةوبدأت موجة تحويل المركبات للعمل بالغاز منذ عام 2014، عقب قرار حكومي برفع أسعار البنزين بنسبة 60%، بينما بقي سعر الغاز المنزلي ثابتا. ومع تزايد الإقبال مؤخرا، انتشرت ورش التحويل بشكل عشوائي، وغالبا من دون مراعاة لشروط السلامة.
وخلال الأشهر الماضية، سُجلت عشرات الحوادث المروعة في عدد من المحافظات، كانت آخرها في عدن منتصف الشهر الماضي، عندما انفجرت أسطوانة غاز داخل سيارة أجرة متوقفة، مما أدى إلى اشتعالها بالكامل خلال ثوانٍ.
وللحد من تفاقم هذه الحوادث، أصدرت الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة في عدن تعميما، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يقضي بمنع دخول أسطوانات الغاز الخاصة بالمركبات دون ترخيص مسبق من شركة الغاز، كما يُلزم الورش بالحصول على تصاريح رسمية لمزاولة النشاط.
ويحذر العقيد المصباحي من أن الخطر الحقيقي لا يكمن في المركبات المصممة أصلا للعمل بالغاز، بل في عمليات التحويل غير النظامية التي تتم داخل ورش تفتقر لأدنى معايير السلامة، حيث تُستخدم منظومات مستعملة أو منتهية الصلاحية، وغالبا لا تطابق المواصفات الفنية.
ويشير المصباحي -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن بعض هذه المنظومات تتضمن أسطوانات أكسجين أو أنظمة هواء مضغوط مخصصة لتعبئة إطارات السيارات، مما يزيد من احتمالات الحوادث بشكل كبير.
خفض تكاليف التشغيلمع ذلك، يبقى الحافز الاقتصادي عاملا حاسما في انتشار هذه الظاهرة، إذ يُقدّر السائقون أن استخدام الغاز يوفر نحو 60% من تكاليف التشغيل. فأسطوانة الغاز (20 لترا) تُباع بنحو 8 آلاف ريال (نحو 15 دولارا)، مقارنة بـ34 ألف ريال (نحو 63.6 دولارا) للكمية نفسها من البنزين.
إعلانيقول محمد عارف للجزيرة نت: "كنت أقطع 500 كيلومتر من عدن إلى المكلا، وأستهلك في حدود 120 لترا من البنزين في الرحلة، بتكلفة تزيد على 200 ألف ريال يمني (نحو 373 دولارا)، وهذا غير مجدٍ إطلاقا".
أما بعد التحول إلى الغاز، فأصبح يدفع أقل من نصف هذه الكلفة في كل رحلة. ورغم اعترافه بأن أداء المركبة بالغاز أضعف، خصوصا في الطرق الجبلية، فإن انخفاض التكاليف يعوّض ضعف الأداء.
أخطار محتملةمن جانبه، يشرح المهندس عبد العزيز الرميش، المختص في تحويل المركبات، أن العملية تتضمن تركيب أنابيب وصمامات ومفتاح تبديل بين الوقودين، بالإضافة إلى خزان غاز يُثبت غالبا في مؤخرة المركبة، من دون الحاجة لتعديل المحرك نفسه.
ويضيف للجزيرة نت أن تكلفة التحويل تبلغ نحو 346 دولارا، وبعدها تصبح المركبة قادرة على العمل بنظام مزدوج، حيث يُخزن الغاز والبنزين في خزانين منفصلين.
لكن الخطورة، حسب المهندس حديد مثنى الماس المدير التنفيذي لهيئة المواصفات والمقاييس، تنبع من تنفيذ هذه التحويلات في ورش غير مرخصة، وبأسطوانات غير مخصصة للسيارات، تُركب بطريقة عشوائية تشكل تهديدا حقيقيا على الأرواح.
وأوضح للجزيرة نت أن بعض المركبات تُجهز بأسطوانات غاز منزلي أو مستوردة تُوضع خلف السائق أو فوق رأسه، مع تمديدات تمر تحت أقدام الركاب أو في الأسقف، مما يزيد من احتمالات الحوادث المميتة.
وأكد أن المواصفات اليمنية تشترط أن تكون المركبة مصممة من بلد المنشأ للعمل بالغاز، ولا تسمح بالتعديلات المحلية، مشيرا إلى أن هذا النوع من التحويل محظور أيضا في الدول المصنعة ودول الخليج، حيث تتحمل الشركة المنتجة وحدها مسؤولية سلامة المركبة.
وفي ظل غياب رقابة فعالة على الورش والأسطوانات، واستمرار أزمة الوقود، يجد كثير من سائقي الأجرة في اليمن أنفسهم أمام خيار لا بديل له.
إعلانوبين الضغوط الاقتصادية اليومية والمخاوف الأمنية الحاضرة، تبقى الحاجة ملحة لتدخل رسمي يوازن بين متطلبات المعيشة وأمن وسلامة المواطنين.