مكانٌ لم يُلمس بعد، لم يُشوه بالجرافات وناطحات الإسمنت، رغم أنّه لا يبعد عن مسقط أكثر من خمس ساعات بالسيارة. مكانٌ تحتفـي به الكائنات وتُربي أسراره تحت سخونة أجسادها. هنالك حيث يتوجب على أحدنا أن يمشي لأربعة كيلومترات، قبل أن يصل إلى حافة الشاطئ، فـيخترقه المكان الساحر بكامل ألفته.
فـي سبعينيات القرن الماضي تمكن العلماء من الولوج إليه، عندما حصل المكان على اعتراف دولي، فقد احتوى على حفريات تعود إلى عصر الهولوسين، كما أنّ صخوره تُقدم دليلا لا يمكن دحضه بأنّها كانت ذات يوم فـي قاع البحر!
فـي معرض الكتاب الأخير، وقعت يدي على كتابٍ تصويري، بعنوان: «بر الحكمان، جنة الطيور الساحلية فـي عُمان»، شارك فـي كتابته عددٌ من علماء الأحياء ومستشاري البيئة: جيم دي فو، ورولاند بوم، ووارد هاجمير، وآندرو ثورب، وريمون كلاسين.
الكتاب خلاصة عمل شاق، استمر لعشر سنوات، يُوثق طبيعة «بر الحكمان»، حيثُ يتبدى لنا أنّ مراقبة الطيور ليس بالأمر السهل فـي مكان شاسع ومفتوح كذاك!
تبزغ الحياة بكل تنوعها الأحيائي فـي محمية الأراضي الرطبة بمكوناتها الفريدة، جزرٌ وأخوارٌ وغابات شجر القرم والشعب المرجانية والأعشاب البحرية ومواقع تعشيش السلاحف، والحوت الأحدب النادر، والدلافـين، مالك الحزين، وطيور الدراج بلونها الباهت، والنحام بلونه الوردي اللافت. التقاط مُقرب لتنوع حركة هجرة الطيور بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، إذ تغدو المحمية أشبه ما تكون بملاذٍ آمن.
تكشفُ الصور عن السهول التي تزخر بعشرات الآلاف من الطيور كنسيج متصل من عالم خيالي، لا نتصور له وجود. حركة المد والجزر تسمحُ بانكشاف السهول الطينية، فتظهرُ الحيوانات اللافقارية والرخويات لتصبح غذاء للطيور. تظهر أيضا رواسب الملح بسبب التبخر السريع، الأشجار التي تتكيف مع الجفاف مثل أشجار «السنط»، ومن مكان ما تشعُ قصّة ذكر طائر «المكاء» المتودد، ليحظى بإعجابنا وهو يرفرفُ بإيقاع جناحيه ثم يهبط مدندنا بأغنية، بنبرة أخاذة.
تدعم المحمية أكثر من نصف مليون طائر، وتعد من الموائل الأكثر قدما، فوفرة الحياة فـيها قد لا تكون مرئية بشكل مباشر، لأنّ معظم الحياة مدفونة فـي الترسبات أو مختبئة بين الأعشاب. هنالك حيث تقتنص الكائنات فرص العيش فـي سلسلة غذائية مُعقدة.
المياه الضحلة تزخر بالأسماك والسلطعون. وتوفرُ النباتات النضرة فـي البحيرات الزرقاء مشهدا جديرا بالتأمل، كما تصنعُ الخلجان الصغيرة بشواطئها البيضاء والمرجان تغيرا فـي المنظر الطبيعي. تفرزُ غابات القرم الملح كيلا يتراكم فـيها، تُسقط بذورها عن عمدٍ لتنمو على الفور على السهول الطينية المجاورة.
يمثلُ «بر الحكمان» حلقة رئيسية فـي شبكة المواقع العالمية، للتزاوج والتزود بالطعام أثناء الرحلات الطويلة للطيور. ولنا أن نتصور رحلتها الممتدة من السهول الجليدية بالمنطقة القطبية الشمالية فـي الحافة الشمالية بالقارة. رحلات مُذهلة حيثُ تُقطع الآلاف من الكيلومترات بين مواقع التزاوج وفصل الشتاء البارد. وعلى سبيل المثال: طائر الطيطوى النهقية يقطعُ ١٢ ألف كيلو متر فـي إجمالي رحلته الشاقة، وينبغي عليه قبل خوضها أن يحصل على غذاء جيد. تقف الطيور أثناء الرحلة فـي عدة محطات من أجل التزود بالغذاء، ويعد فقدان هذه المواقع، انهيارا مأساويا لمسار الرحلة الغامضة والمحفوفة بالمخاطر.
لقد ساعدت مؤخرا أجهزة الإرسال المثبتة على أجساد الطيور والمتصلة بالأقمار الصناعية فـي معرفة بعض أسرارها.
يطرحُ الكتاب أسئلة مهمة: كيف نحفظ جوهر الطبيعة بعيدا عن الأيدي المتطفلة؟ كيف نحميها من البلاستيك المُدمر؟ إذ بقدر ما يبدو النظام البيئي كامل وسليم إلا أنّه هشٌ أيضا، لأنّ أي خلل فـي توازناته سيقضي عليه. فكما يبدو... الموقع النائي هو ما أمن له الحماية حتى البرهة الراهنة.
لقد عرفتُ «بر الحكمان» من خلال ثلاثية الروائي العُماني يونس الأخزمي. وها قد قدمت لنا وزارة البيئة والشؤون المناخية (سابقا) كتابا فريدا حقا، وآمل أن تتبعه سلسلة من الأفلام الوثائقية التي تجعلنا على مقربة من نبض الواقع الخفـي لهذه الحيوات المُلهمة.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ويتكوف يزور مكان تظاهرة لعائلات الأسرى الإسرائيليين في تل أبيب
زار مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، مكان تظاهرة في تل أبيب لعائلات الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والتقى ببعض هذه العائلات، وسط وغموض وضغوط متزايدة للتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار.
ووصل ويتكوف إلى الأراضي المحتلة الخميس، في محاولة للتوسط في هذه الأيام الحساسة، والتقى برئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، بعد أن نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصرحات قال فيها: إن "أسرع سبيل لإنهاء الأزمة الإنسانية في غزة هو أن تُطلق حماس سراح الرهائن وتستسلم".
وذكر تقرير لـ"القناة 12" الإسرائيلية أن ويتكوف يتعامل مع قضيتين مُلحّتين وهما: "استمرار القتال في القطاع وتدهور الوضع الإنساني/ وهو يُنصت إلى الرسائل من كلا الجانبين، ويُدرك أن حماس تُصرّ على مواقفها".
وأضاف التقرير أنه "مع ذلك، يُطالب ويتكوف بعدم تضييع فرصة التوصل إلى اتفاق قبل أن تُقرر إسرائيل اتخاذ خطوات أحادية الجانب قد تُؤخّر المفاوضات طويلًا".
ويتزايد التشاؤم في "إسرائيل" بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار، وحذر مصدر سياسي مطلع على تفاصيل المفاوضات قائلاً: "المحادثات في طريقها إلى الانهيار".
وأضاف: "من وجهة نظر إسرائيل، ليس هناك اتفاق جزئي مطروحاً. والآن، وبسبب رفض حماس، فإن فرصة التوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن ضئيلة. تستعد إسرائيل لتكثيف حملتها لهزيمة حماس".
وتأتي زيارة وتكوف لتظاهرة عائلات الأسرى، بعدما بثت كتائب القسام مشاهد لأحد جنود الاحتلال الأسرى لديها، وظهر في حالة نحول جسدي، نتيجة التجويع الوحشي الذي يقوم به الاحتلال، بحق سكان قطاع غزة، والذي راح ضحيته حتى الآن 154 شهيدا.
وفي المشاهد التي التقطت من داخل أحد الأنفاق، نشرت القسام صورة للأسير، من آخر عملية تسليم للأسرى، وكان بصحة جيدة، قبل أن ينقلب الاحتلال على اتفاق وقف إطلاق النار، ويشرع في عملية التجويع الوحشية بحق غزة.
لكن في المشاهد الحالية بدا الأسير نحيل الجسد، بصورة كبيرة وعظامه بارزة، وقالت القسام، "يأكلون مما نأكل، قررت حكومة الاحتلال تجويعهم".
وتضمن المقطع تصريحات للوزير المتطرف إيتمار بن غفير وهو يشير إلى أن ما يجب إرساله إلى القطاع القنابل فقط، وكذلك تصريحات لنتنياهو وهو يتحدث عن إدخال الحد الأدنى من الغذاء لسكان القطاع لتجويعهم.
كما تضمن المقطع صورا للأطفال الفلسطينيين في غزة، وأجسادهم قد التهمها الجوع، وبرزت فيها عظامهم نتيجة تجويع الاحتلال وجريمته بحق سكان القطاع.