لما تقدم فـي الحلقات السابقة من هذا المبحث، فإن على دراسة صورة الشَّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة أن تذهب إلى ما هو واقع وراء نطاق التحليل النَّصي البسيط (أو التَّبسيطي)، أو الدِّراسة المُجَوهَرَة (essentialized)، أو تلك المبنيَّة على ثنائيَّة قُطبيَّة (binarized) للصورة «النَّمطيَّة» و«المُساء تمثيلها».

لقد اقترحت فـي مكان سابق من هذه الدراسة أن هوليوود لم تحتفظ فـي مخزنها التَّاريخي بشيخ عربي واحد فقط، بل إنها جلبت، وجَبَلَت، وطوَّرت عدة «شيوخ» فـي مختبراتها وشاشاتها. وفـي الحقيقة، فإن الأمر يبدو واحدا من تلك «التَّجارب الخارقة» (إدوَرد سعيد Edward Said) التي لا يُتَحَدَّث عنها، والتي نشر عنها وولتر لِبمن Walter Lippmann الكتاب الذي صاغ فـيه مفهوم الصَّورة النَّمطيَّة بالمعنى المعاصر للكلمة، وذلك فـي عام 1922؛ أي بعد عام واحد فقط من إطلاق فـيلم «الشَّيخ» [The Sheik] (جورج مِلفورد Georg Melford، 1921) (1)، وهل هو غير ذي شأن أن جيمس كاري James Carey يشير إلى عمل لِبمَن بأنه «العمل التَّأسيسي لدراسات الميديا الأمريكيَّة» (2)؟

وفـي هذا الإطار، إذًا، سيكون مفـيدًا لدراسة صورة الشَّيخ العربي فـي السينما الأمريكية توسيع ومَشْكَلَة مقولة هومي بابا Homi Bhabha حول الصورة النمطيَّة غير الثَّابتة باعتبارها ناتجة عن استجابات ذات طبيعة نفسيَّة مُقلقَلة ومُقلقِلة يجري تبادلها بين ذات وموضوع التَّمثيل (representation)، المستعمِر والمستعمَر (3). كما يمكن الانتفاع من كتاب مايكل بِكرنغ Michael Pickering حيث إني معني بجهوده الدقيقة فـي موازاة مقولة الصورة المنمَّطة بفكرة الآخر لكن فـي محاججة جديدة: تعتمد الهويَّة على الاختلاف الذي ينتج الغيريَّة على عمليَّة «طَرْدٍ رمزي» (4). وبالمقدار نفسه، ينبغي تطوير ما يقوله بِكرنغ عن الزمان والمكان فـي صنع الغيريَّة (otherness)، إذ أني أرى مُحتَمَلًا كبيرًا فـي إضاءة وتطوير ما يسميه «زَمْنَنَة الاختلاف» (temporalisation of difference)، وذلك فـي سياق فهم الانزياحات العديدة لتمثيلات شخصيَّة الشّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة (5). حقًا، يمكن للمرء اعتبار أن «أفلام الشَّيخ» التي أنتجتها السِّينما الأمريكيَّة يمكن أن تكون «رحلات غربيَّة»، متخيَّلة وفعليَّة، فـي أوقات «مختلفة»، ولهذا فإنه تنبغي مجاورة مفهوم بِكرنغ عن «زَمْنَنَة الاختلاف» مع مفهوم بهداد عن «التَّأخريَّة»، والذي سبقت الإشارة إليه.

إنني أقترح فكرة أسميها «السرديَّات الشيخيَّة» لِثَيمَتَةِ وزَمْنَنَةِ تمثيلات الشَّيخ الهوليوودي العربي، وتلكم السرديَّات، فـي نظري، أربعٌ وهي كالتالي: «سرديَّات الرّومانس، والرَّغبة (الأخرى)، والهويَّة»، وهذه هي سرديَّات العشرينيَّات من القرن العشرين. و«سرديَّات الأَسر، والاستعباد، والمواجهة»، وهذه هي سرديَّات الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن ذاته. و«سرديَّات الحرب الباردة، والنفط، وفلسطين»، وهذه هي سرديَّات الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الفائت». و«سرديات الانحراف، والإفراط، و«إنَّهم يشتروننا»، والإخفاق، والهلاك»، وهذه هي سرديَّات السبعينيَّات والثمانينيَّات من نفس القرن.

وهذه المقاربة ثيماتيَّة، وكرونولوجيَّة، وعَبرَ كرونولوجيَّة، وذلك بالنَّظر إلى الطَّبيعة غير المستقرَّة لتمثيلات شخصيَّة الشَّيخ العربي. بكلمات أخرى، بينما توجد «سرديَّات» دالَّة على تمثيلات الشَّيخ العربي فـي عقود زمنيَّة معيَّنة ومتطابقة معها بصورة كاملة، فإن «سرديَّات» أخرى ليست كذلك بتلك الصورة المُحكَمَة والحصريَّة.

على سبيل المثال، الفـيلم التَّأسيسي الذي أُنتج فـي عشرينيَّات القرن العشرين، والذي شكَّل «سرديَّات الرّومانس، والرَّغبة (الأخرى)، والهويَّة»، هو «الشَّيخ» كان كذلك ليس لأنه بدأ فـي بناء إرث شخصيَّة الشَّيخ العربي فحسب، ولكن كذلك لأن العشرينيَّات من ذلك القرن كانت عقد الشَّيخ العربي «مختلف الهويَّة، والرُّومانسي، والمرغوب فـيه». وبعد ذلك العقد من الزمن اتخذت شخصيَّة الشَّيخ أدوارًا أخرى (وهذا لا يعني، على نحو بارادوكسيٍّ، أن «الشَّيخ العربي الرُومانسي اختفى تمامًا فـي عقد الثلاثينيَّات وما بعد ذلك بالنَّظر إلى وفرة تعدد معاني الشخصيَّة). وبصورة مشابهة فإن فـيلم «إلسا: حارسة حريم شيوخ النفط» (دون إدمُندز Don Edmonds، 1976)، والذي يتضمن شخصيَّة مُقَنَّعة قليلًا لهنري كِسنغر Henry Kissinger، وزير الخارجيَّة الأمريكي إبان الأزمة النفطيَّة فـي سبعينيَّات القرن الماضي، إضافة إلى إشارات وعلامات تدلُّ على المملكة العربيَّة السعوديَّة على نحوٍ أقل تَقَنُّعَا، والذي -أي الفـيلم- تنبغي إضاءته، مبدئيًّا، فـي «سرديات الانحراف، والإفراط، و«إنَّهم يشتروننا»، والإخفاق، والهلاك» التي سادت ذلك العقد، لا يمكن أن يكون قد صُنع فـي الثلاثينيَّات، مثلًا، وذلك لأسباب هي أوضح من أن تُذكر. وفـي الجانب الآخر فإن «سرديَّات الأَسر والعبوديَّة» لم تكن محصورة على أفلام الشَّيخ العربي التي أُنتجت فـي الثلاثينيَّات، ما دام شيوخ هوليوود العرب الأشرار قد مارسوا أسر، واختطاف، واستعباد الرجال والنِّساء، بيضًا وسودًا وصُفرًا. ومع أن فـيلم «فتاة الحريم»[Harem Girl] (إدوَرد برندز Edward Bernds، 1952) يشكِّل فـيلمًا مثاليًّا لدراسته فـي «سرديَّات الحرب الباردة، والنفط، وفلسطين»، التي شاعت فـي الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن المنصرم، إلا أنني أراه حالة مثاليَّة لتفكيكه ضمن قراءة «سرديَّات الرّومانس، والرَّغبة (الأخرى)، والهويَّة» التي كانت علامة العشرينيَّات من نفس القرن. بكلمات أخرى، ليس العقد الزَّمني هو ما يحدد الثيمة السينمائيَّة بصورة دقيقة، وجامعة مانعة. ولكن يمكن القول إن الثيمة مثال على «نزعة معيَّنة» (استعارة لعبارة فرانسوا تروفو Francios Truffaut الشهيرة التي قالها فـي سياق آخر) أكثر وضوحًا من غيرها فـي أفلام الشَّيخ العربي خلال فترة زمنيَّة محدَّدة فـي استجابة لما هو سياسي وثقافـي فـي الحياة الأمريكيَّة نفسها خلال ذات الفترة (6).

لأسباب كنتُ قد أوضحتُها، وربما كرَّرتُها، فإن أي دراسة ذات معنى، ويُحفل لها حقًّا، لدراسة صورة الشَّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة يجب أن تبدأ بالفـيلم التأسيسي «الشَّيخ». وبينما يتوافر الآن جسم يُعتَدُّ به من الإضاءات النقديَّة والبحث الأكاديمي حول الفـيلم ونجمه الأسطوري فالنتينو Valentino (وهو جسم من الأدبيَّات الملهِمة والمثيرة للاهتمام)، فإن هناك الكثير مما يمكن أن يقال، بل وينبغي قوله. على سبيل المثال، لم تُثَر لغاية الآن مسألة ما أسميه «دينيَوَِّة الرَّغبة» (religiousity of desire) الرَّغبة فـي الفـيلم، والتي أرى انه ينبغي أن توضع فـي الواجهة.

---------------------------------

(1). Walter Lippmann, Public Opinion (New York: Harcourt, Brace, 1922).

(2). اُقتبس فـي:

Michael Pickering, Stereotyping: The Politics of Representation (New York: Palgrave, 2001), 16.

(3). Homi Bhabha, “The Other question: The Stereotype and the Other Question” in The Location of Culture (New York: Routledge, 1994).

(4). Pickering, 48.

(5). المصدر السَّابق نفسه، 57.

(6). Francois Truffat, “A Certain Tendency in the French Cinem” in Bill Nichols, 224-37.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صورة الش

إقرأ أيضاً:

الإبراهيمية والماسونية: جذور تاريخية وشكوك معاصرة

23 مايو، 2025

بغداد/المسلة:

ليث شبر

*تسعى هذه السلسلة التوعوية، المكونة من خمسة مقالات، إلى تمكين القارئ العربي من فهم قضايا مثيرة للجدل بعقل ناقد يتحرى الحقيقة بعيدًا عن التضليل ونظريات المؤامرة، وذلك لتعزيز وعي يحترم التعددية والعدالة في إطار دولة علمانية*.

يستكشف هذا المقال الرابع الشكوك حول العلاقة المزعومة بين الإبراهيمية والماسونية، ويركز على جذورهما التاريخية: هل تشكل الماسونية قوة خفية وراء الإبراهيمية؟ وكيف يواجه سياسي علماني هذه التساؤلات دون الانزلاق إلى التكهنات؟

تأتي الشكوك حول ارتباط الإبراهيمية بالماسونية من تاريخ طويل يحيط المنظمات السرية بهالة من الريبة، لكن النقاش يتطلب الرجوع إلى جذور كلا المفهومين. بدأت الماسونية في أوروبا خلال القرن السابع عشر كجمعيات للحرفيين البنائين، وتطورت إلى منظمة رمزية تركز على الأخوة والأخلاق، مستخدمة طقوسًا مستوحاة من التقاليد المسيحية واليهودية القديمة.

*بحلول القرن التاسع عشر، أصبحت رمزًا للنفوذ الخفي في السياسة والاقتصاد، خاصة في الغرب، مما غذى نظريات المؤامرة التي تربطها بالسيطرة العالمية*.

أما الإبراهيمية، فظهرت كمصطلح حديث في القرن العشرين، مستوحى من فكرة إبراهيم كأب مشترك للديانات التوحيدية، لكنها اكتسبت زخمًا مع مبادرات معاصرة تدعو إلى الحوار الثقافي.

فلماذا تلتقي هذه الجذور التاريخية في الشكوك الحالية؟

يربط البعض بين الماسونية والإبراهيمية بسبب تقاطع رمزي في استخدام التراث الديني، لكن هذا الربط يثير جدلًا معقدًا. يرى نشطاء علمانيون في تونس، على سبيل المثال، أن الإبراهيمية، كما طُرحت في مؤتمرات دولية عام 2024، قد تستغل الرموز الدينية لتعزيز تحالفات سياسية، مشيرين إلى أن الماسونية استخدمت تاريخيًا رموزًا مشابهة لتوسيع نفوذها.

*ففي القرن التاسع عشر، اعتمدت الماسونية طقوسًا مستوحاة من التقاليد الإبراهيمية لجذب أعضاء من خلفيات متنوعة*. لكن تدافع منظمات ثقافية في الأردن عن الإبراهيمية كإطار للتعاون الثقافي، وتنفي أي صلة بالماسونية، مؤكدة أن الحوار يهدف إلى تعزيز السلام دون أجندات خفية. وتُبرز هذه الردود جدلية مؤداها: هل تعكس الشكوك قلقًا مشروعًا من استغلال الرموز، أم مبالغة ناتجة عن إرث تاريخي؟

تتطلب رؤية علمانية التعامل مع الإبراهيمية بحيادية، دون رفضها أو تصويرها كضد للعلمانية. *فالدولة العلمانية، التي تفصل الدين عن السياسة، تستطيع استيعاب الحوار الثقافي إذا احترم التعددية ولم يتحول إلى أداة للحكم الديني* . لأن المخاوف من الإبراهيمية لا تنبع من الحوار بحد ذاته، بل من إمكانية استغلاله لتعزيز مصالح سياسية، كما حدث في القرن الثامن عشر عندما استخدمت الماسونية شبكاتها لدعم النخب السياسية في أوروبا. ومع ذلك، تُظهر الوقائع أن الإبراهيمية الحديثة، كما طُرحت في فعاليات مثل قمة أبوظبي للتعايش 2023، تهدف إلى تعزيز التعاون الثقافي، لكن غموضها يُغذي الشكوك، خاصة في سياق إقليمي مشحون بالتوترات.

يُثير النقاش سؤالًا جوهريًا: هل تستند الشكوك إلى أدلة، أم تُغذيها روايات تاريخية مبالغ فيها؟

بينما تُحذر أوساط أكاديمية في مصر من أن التركيز على الماسونية كتهديد قد يُصرف الانتباه عن قضايا ملحة، كالعدالة الاجتماعية. ففي تقرير لمركز دراسات مصري عام 2024، أُشير إلى أن ربط الإبراهيمية بالماسونية يعكس خوفًا من التغيير أكثر منه دليلًا ملموسًا. بالمقابل تُصر أوساط شعبية في العراق على مشروعية الشكوك، مشيرة إلى أن التاريخ يُظهر استخدام الرموز الثقافية لخدمة مصالح النخب.

تُشير هذه التوترات إلى ضرورة تقييم الإبراهيمية بعقلانية، دون الانجرار إلى نظريات المؤامرة.

ومن هنا يتضح الموقف السليم : *يُرحب بالحوار الثقافي إذا احترم التعددية وخدم العدالة، لكن تُرفض أي محاولة لاستغلال الثقافة أو الرموز التاريخية لأغراض سياسية* .

فالدولة العلمانية قادرة على قيادة هذا الحوار دون السماح لأي مبادرة بتقويض مبادئها، سواء ارتبطت بتكهنات حول الماسونية أم بمبادرات غامضة. وبدلاً من الخوف من الأجندات الخفية، *نقترح رؤية علمانية تضمن أن يظل الحوار أداة للتقدم، مستلهمة قيم المساواة التي تحمي التنوع الثقافي* .

ومع هذا النقاش، تبرز تحديات جديدة: كيف تستجيب الدولة العلمانية لتعقيدات العولمة والمبادرات الثقافية؟ يناقش المقال القادم هذه التحديات، لمواصلة البحث عن الحقيقة بروح نقدية ملتزمة.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

مقالات مشابهة

  • قيادي بحماس: نتواصل مع كل الأطراف لدراسة أي مقترحات لوقف الحرب
  • جوع من صنع الإنسان.. مفوض الأونروا: خطة المساعدات الإسرائيلية مقدمة لنكبة ثانية
  • جوع من صنع الإنسان.. مفوض الأونروا: خطة المساعدات الثانية مقدمة لنكبة ثانية
  • النائب عاطف المغاوري يقترح تعديل لقانون الانتخابات كل 5 سنوات لتقسيم الدوائر
  • مجلس الأعمال المصري الأمريكي: الشركات الأمريكية تعد جزءا لا يتجزأ من تنمية مصر
  • بسبب الهزيمة الأمريكية في البحر الأحمر.. قائد “هاري ترومان” يدفع ثمن الفشل الأمريكي أمام اليمن
  • نائب الرئيس الأمريكي يعترف بتراجع الهيمنة الأمريكية: تدخلنا في اليمن كان “دبلوماسيًا” ولا قدرة لنا على خوض حرب
  • الإبراهيمية والماسونية: جذور تاريخية وشكوك معاصرة
  • وزارة الخارجية السودانية: ننفي المزاعم غير المؤسسة التي تضمنها بيان وزارة الخارجية الأمريكية