الإدارة الاقتصادية في عالم مُضطرب
تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT
د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
في ظل التحولات المُتسارعة التي يشهدها العالم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرقمية والمناخية، أصبحت البيئة العالمية تتسم بدرجات غير مسبوقة من الضبابية، وعدم اليقين، والتقلب، وانعدام الاستقرار. وفي مثل هذه الظروف، تزداد وتتعاظم التحديات التي تواجه الإدارة الاقتصادية للدول في سعيها لتحقيق التوازن المطلوب بين مختلف الأهداف الاقتصادية؛ بما يضمن توجيه عجلة التنمية في المسار الصحيح وبالوتيرة المناسبة.
وفي ضوء ذلك، نجدُ دولًا فقيرة وأخرى غنية، ودولًا تُحقِّق نموًا ولا تُحقِّق تنميةً، كما إن هناك دولًا تُركِّز على تحقيق النتائج، وأخرى تغرق في دوامة الإجراءات والعمليات والمؤشرات.
والإدارة الاقتصادية الفعالة تُشكّل عاملًا حاسمًا في التعامل مع هذه الظروف، وذلك من خلال حشد الموارد البشرية والطبيعية والمكانية المُتاحة، ووضع السياسات الملائمة لتوظيفها بفاعلية عالية، لكنها، في نفس الوقت، مُطالَبة بتحفيز أداء الفاعلين في عملية التنمية، ونشر الثقافة والوعي فيما بينهم، ويأتي في المقام الأول: شركات القطاع الخاص، والأجهزة والكيانات الحكومية والأُسَر والأفراد في المجتمع المحلي، وكذلك المتعاملون من المجتمع العالمي من مُستثمرين ومُستهلِكين.
وعلى الرغم من تعدد التعريفات الخاصة بالإدارة؛ إلّا إنها جميعها تجمع على حُسن استخدام الموارد وتنظيمها وتوجيهها وتنسيقها وتقييمها لتحقيق أهداف مُحدَّدة. أما الاقتصاد؛ فيكمُن جوهره في إدارة وتخصيص الموارد بكفاءة وفعالية. ويُلخِّص بيتر دراكر، رائد علم الإدارة ذلك في مقولته: "الفعَّالية لا تكمن في فعل الأشياء على نحوٍ صحيح؛ بل في فعل الأشياء الصحيحة"؛ أي لا تنشغل كثيرًا بأداء المسؤوليات بشكل مُعيّن ينطوي على إجراء بيروقراطي، ولكن افعل كل ما هو صحيح ببساطة.
وعلى مستوى الدول، يعاني الكثير من الأنظمة من تحديات عميقة في إدارة وتوظيف مواردها بالشكل المناسب؛ لتحقيق التنمية الشاملة وتحسين مستوى معيشة مواطنيها، ويرجع ذلك في الأساس إلى منظومة الإدارة الاقتصادية، ومدى قدرتها على اتخاذ قرارات ذكية، وجريئة والانضباط في التنفيذ، والقدرة على التأثير على المكونات المختلفة، ومراعاة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المُتباينة؛ حيث إن إغفال أيٍّ من هذه الجوانب، يعني إغفال التنمية برُمَّتها.
وعلى الصعيد المحلي، تشير المؤشرات إلى استمرار الأداء التقليدي لاقتصادنا الوطني في ظل هيمنة جلية للغاية لقطاع النفط والغاز والدور الكبير الذي يضطلع به في دعم الاقتصاد الوطني خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة، حيث شكّلت إيرادات هذا القطاع ما يقارب 74% (في المتوسط ) من إجمالي الإيرادات العامة، و64% من إجمالي الصادرات، وقد يُعزى ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط الذهبية خلال السنوات الأربعة الأولى من الخطة (2021- 2024)؛ إذ بلغت المتوسطات السنوية: 66 دولارًا و94 دولارًا، و82 دولارًا، و80 دولارًا على الترتيب.
وبينما نستعد لإطلاق خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة، يُعوَّل عليها أن تكون خطة ذات صبغة اقتصادية بامتياز، تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف المحورية، في مقدمتها توليد فرص العمل وتعزيز التنويع الاقتصادي بمفهومه الشامل. وفي هذا السياق، يُطرح تساؤل حول مدى الحاجة لإجراء تغييرات جوهرية في أدوات وأساليب ونموذج الإدارة الاقتصادية، لنستطيع تسريع وتيرة النشاط الاقتصادي في ظل ما تتمتع به سلطنة عُمان من موارد طبيعية غنية، ومزايا تنافسية، ومكانة مرموقة إقليميًا ودوليًا، إلى جانب البناء على ما تحقق على أرض الواقع من تقدم ملحوظ في عدد من المسارات الحيوية، لا سيما تلك المرتبطة بالجوانب الجيوسياسية، والاستدامة المالية، والحماية الاجتماعية، وهي جميعها مكاسب أسهمت في تعزيز مناعة الاقتصاد الوطني خلال المراحل السابقة.
وفي سبيلنا نحو المرحلة الجديدة وما يُصاحبها من احتياجات مُغايرة، فإنَّ الإدارة الاقتصادية مُطالَبة بتحقيق العديد من الأهداف، وهي في كثير من الأحيان مُتقاطِعة فيما بينها، ومختلفة بين الأطراف المتعددة، مثل: الحكومة وأفراد المجتمع، وشركات القطاع الخاص؛ الأمر الذي يستوجِب فلسفةً جديدةً أكثر حزمًا وصرامةً وانسجامًا مع إدارة المُتغيِّرات المختلفة. وتتطلب هذه المرحلة مقاربة ادارية تواكب طبيعة المتغيرات المتسارعة، وقادرة على تعزيز كفاءة توظيف الموارد، وتنشيط الاستثمارات المحلية والأجنبية، وزيادة القيمة المحلية المضافة، وتنمية قدرات الكوادر الوطنية وتحفيزها.
ولضيق مساحة المقال، نُسلِّط الضوء هنا على أهمية تعامُل الإدارة الاقتصادية مع العديد من الملفات، من بينها- على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي:
التركيز على القطاعات ذات المُضاعِف الاقتصادي القوى؛ بما يُساعد على تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب، وخلق فرص العمل للمواطنين، مثل: تعزيز الصادرات العُمانية من السلع، في ظل صِغر حجم السوق المحلي، والحاجة المُلحَّة لتنويع مصادر العملة الأجنبية. إضافة لقطاعات التنويع الاقتصادي الخمسة، وعلى رأسها قطاع التعدين ذو الأداء المتواضع، والذي له تأثير كبير على باقي القطاعات، ودخوله في العديد من الصناعات المختلفة. وكذلك الأمر بالنسبة لقطاعات النقل وزيادة ارتباط سلطنة عُمان بالعالم، وخاصة الطيران الجوي؛ لارتباطه بالكثير من القطاعات كالسياحة وغيرها. تحقيق التوازن ومستويات نمو ومساهمات مرضية لقطاعات التنويع الاقتصادي في الناتج المحلى الإجمالي، والتي تمتلك فيها سلطنة عُمان مزايا نسبية، وحقَّقت إسهامات متواضعة لمتوسط الفترة (2021- 2024) مثل السياحة (2%) واللوجستيات (6%) والصناعة (9%) والتعدين (1%). وأهمية الموازنة بينها وبين الدفع بالقطاعات الجديدة ذات التأثير المتوسط والطويل الأجل مثل: الهيدروجين الأخضر والاقتصاد الأخضر والاقتصاد الدائري واقتصاد المدن الذكية واقتصاد الفضاء. تحقيق التنوع المنشود في العلاقات الاستراتيجية والشراكات وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية مع مختلف الدول الصديقة والشريكة؛ لتحقيق الانسيابية المطلوبة في السلع، والمنتجات، والخدمات، والأموال وبما يُساعدنا على الحصول على العديد من العناصر المفقودة في معادلة التنمية المحلية؛ كالأسواق والتكنولوجيا ورؤوس الأموال والمعرفة والخبرات. تفعيل دور القطاع الخاص والذي تُظهر المؤشرات أنه يتعرض لضغوط كبيرة ويعاني من تراجع قدرته على الاستثمار وخلق فرص عمل للمواطنين ورفد الميزانية بالإيرادات الضرورية. تحقيق تحولات نوعية في القطاع المالي والتعامل مع معضلة صعوبة الحصول على التمويل بالتكلفة والاشتراطات المناسبة والذي ظل يمثل التحدي الأكبر لممارسة الاعمال في السلطنة. الحد من التباين ودرجة استقرار التشريعات والإجراءات، والتي تتقاطع فيما بينها وتُشكِّل عائقًا أمام استقرار بيئة الأعمال. إعادة هندسة الدورة الاقتصادية المحلية التي تُعاني من ارتفاع حجم التسرُّبات المالية المُثبِّطة للنمو الاقتصادي، دون أن تَمُر بدورة تداول كافية داخل المنظومة الاقتصادية المحلية؛ حيث تشير البيانات إلى أن الواردات السلعية تُمثِّل في المتوسط (2021- 2024) المصدر الأكبر لهذا النزيف المالي؛ بإجمالي يُقدّر بنحو 13.5 مليار ريال عُماني، في حين تبلغ فاتورة استيراد الخدمات ما يقارب 4.7 مليار ريال عُماني. أيضًا بلغت تحويلات العاملين الأجانب نحو 3.6 مليار ريال عُماني، إلى جانب خروج استثمارات عُمانية إلى الخارج تُقدّر بـ900 مليون ريال عُماني. ولا شك أن خروج الأموال من دورة الأنشطة الاقتصادية المحلية، أفقدتْ اقتصادنا الوطني الزخم الضروري لتوليد فرص عمل مُجزية، مصدرها القطاع الخاص، لا سيما في قطاعات الإنتاج والتصنيع وتقديم الخدمات.وتنبغي الإشارة هُنا إلى أهمية مراجعة نمط ونموذج الإدارة الاقتصادية الحالي، والقائم على اللجان الوزارية والقطاعية والبرامج الوطنية، والتحقق من مدى قُدرتها وتأثيرها على تحقيق التجانُس، والانسجام، والتنسيق المطلوب لحشد الموارد والهِمَم، خاصةً وأننا في عالمٍ مُضطربٍ تسوده حالات عدم الاستقرار والضبابية، والتغيُّرات الجيوسياسية والضغوط العالمية والإقليمية؛ بل وحتى الداخلية.
ولقد بات من الواجب تفعيل آليات البحث والابتكار؛ لإيجاد نموذج جديد لقيادة وإدارة المسارات الاقتصادية، بعقليةِ الإنجاز لا الإجراءات، وبفلسفة الوفرة لا الندرة، تعمل بشغف وطموح، بعيدًا عن البيروقراطية اليومية، وتُركِّز على النتائج لا على العمليات والتخطيط. ولذلك هناك أهمية لإيجاد "مايسترو أساسي وواحد" يضبط إيقاع جميع القطاعات الاقتصادية، لكي تعزف الأوركسترا الاقتصادية تحت "قيادته" سيمفونية التنمية الحقيقية المُؤثِّرة في حياة الأفراد، تنسيق العمل الاقتصادي بين القطاعات المختلفة، وتحقيق تنمية مؤثرة في المجتمع من خلال استغلال نقاط القوة وتوظيف الموارد وحشد الجهود وفقاً لظروف البيئة المحلية.
وأخيرًا..، يجب أن يعي الجميع أن اتباع نفس الأساليب سيُفضي لنفس النتائج، وأن التنمية الحقيقية لا تنعكس فقط في المؤشرات الكمية والإحصاءات؛ بل في التحول الملموس في حياة الأفراد والأسر، وفي الرفاه الاجتماعي على مستوى المجتمع ككل. ولا شك أن بناء نموذج تنموي ناجح في مثل هذه المرحلة لا يتطلب فقط أدوات اقتصادية فعالة؛ بل يستوجب أيضًا نشر الوعي التنموي، وتعزيز ثقافة المشاركة والمسؤولية؛ بما يضمن أن تكون التنمية شاملة ومستدامة، ويجني ثمارها المجتمع بكل مكوناته. ولا أجدُ أفضل من مقولة مدرب كرة السلة وخبير التنمية البشرية الشهير جون وودن لكي أختم بها هذا المقال؛ حيث يقول: "لا تدع ما لا يُمكنك فعله، يمنعك من فِعل ما يُمكنك فعله"!
** مُؤسِّس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وزيرة التنمية المحلية تتابع سير العمل في 6 مراكز تكنولوجية بـ 3 محافظات
عقدت الدكتورة منال عوض وزيرة التنمية المحلية، اجتماعاً اليوم بمقر الوزارة بالعاصمة الإدارية الجديدة بحضور عدد من القيادات لمتابعة منظومة العمل في المراكز التكنولوجية بالمحافظات .
وشهد الاجتماع استعراض نتائج المرور الميداني لفرق قطاع التفتيش والرقابة والإدارة المركزية للتحول الرقمي والمعلومات بالوزارة لسير العمل في 6 مراكز تكنولوجية على مستوي 3 محافظات هي القاهرة ( حي شرق مدينة نصر - حي المقطم ) الجيزة ( حي الهرم ) والقليوبية ( مركز ومدينة بنها - مركز ومدينة شبين القناطر - مركز ومدينة القناطر الخيرية ) لمتابعة تقديم الخدمات للمواطنين ، والاطمئنان علي فصل طالب الخدمة عن مقدمها ومدي كفاية أعداد الموظفين العاملين بكل مركز وكذا كفاية الأجهزة التكنولوجية بالمراكز التكنولوجية ( الكمبيوتر - الطابعات - الماسحات الضوئية وغيرها ) ورصد أي معوقات تواجههم في سرعة حصولهم علي خدماتهم المختلفة .
كما شهد الاجتماع استعراض موقف أعداد الطلبات والملفات الخاصة بالمواطنين في كافة الإدارات المختلفة بالمراكز التكنولوجية ومن بينها التصالح علي مخالفات البناء والمحال العامة ومنظومة المتغيرات وتراخيص البناء والتنظيم وغيرها من الخدمات اليومية للمواطنين .
ومن جانبها وجهت الدكتورة منال عوض بضرورة قيام السادة المحافظين بتفعيل دور لجان المتابعة علي المراكز التكنولوجية للمرور بصفة مستمرة لرصد وحل مشكلات المواطنين وسرعة انهاء الطلبات الخاصة بهم في مختلف الخدمات .
وأكدت وزيرة التنمية المحلية علي ضرورة محاسبة المقصرين من الموظفين والعاملين المتسببين في تعطيل ملفات المواطنين بما يساهم في سرعة إنجاز الخدمات التي يطلبوها، كما طالبت الدكتورة منال عوض بأهمية التدريب ورفع كفاءة العاملين بالمراكز التكنولوجية بصورة مستمرة والتنسيق بين وزارة التنمية المخلية ووزارتي التخطيط والمالية والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة لوضع لائحة تنظيمة للمراكز التكنولوجية والهيكل التنظيمي علي مستوي جميع المحافظات وتوحيد بعض الخدمات علي منظومة المحليات ودورة العمل والمستندات بين جميع المحافظات .
جولات ميدانيةووجهت وزيرة التنمية المحلية باستمرار المرور الميداني من اللجنة المشكلة من القطاعات المعنية بالوزارة بشكل دوري علي المراكز التكنولوجية في جميع المدن والأحياء والمراكز بالمحافظات ، وكذا المتابعة علي المراكز التي تم المرور عليها بعد ٣ اسابيع للتأكد من تلافي أي ملاحظات وحل مشكلات المواطنين .
كما أكدت د.منال عوض بضرورة الاهتمام بصيانة الأجهزة داخل المراكز التكنولوجية وإحلال الأجهزة القديمة لضمان استمرارية العمل بكفاءة ومتابعة عقود الصيانة وسرعة والانتهاء من الملفات الموجودة في عدد من الإدارات للمساهمة في تحسين أداء الخدمات وتوفير الاحتياجات اللوجستية للمراكز التكنولوجية وتفعيل الخدمات الإلكترونية والتوسع في أرشفة المعاملات والتعامل الإلكتروني لكافة المستندات .
كما وجهت وزيرة التنمية المحلية ، السادة المحافظين بضرورة الاهتمام بالحالة الانشائية لكافة المراكز التكنولوجية وتحسين ورفع كفاءة بعضها وفقاً للحالة الانشائية التي رصدتها لجنة الوزارة في المرور الميداني لها .