وكالة الصحافة المستقلة:
2025-06-21@15:12:43 GMT

اختراع العزلة

تاريخ النشر: 13th, June 2025 GMT

يونيو 13, 2025آخر تحديث: يونيو 13, 2025

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ . والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ.

وبالتالي ، تُصبح العُزلةُ خُلاصةً للمَشاعرِ الداخليَّة ، ودَليلًا عَلى وُجودِ الحُلْمِ المَقموعِ في عَوالمِ النِّسيان .

وَمِنَ الذينَ نَقَلُوا العُزلةَ مِنْ المَفهومِ المَاديِّ التَّجْرِيدِيِّ إلى المَعنى الأدبيِّ الإبداعيِّ، الرِّوائيُّ الأمريكيُّ بول أوستر ( 1947 _ 2024 ) . يُعَدُّ كِتَابُهُ ” اختراع العُزلة ” ( 1982 ) مُذَكَّرَاتٍ عَنْ وَفَاةِ وَالِدِه ، وتَأمُّلاتٍ شخصية في فِعْلِ الكِتابةِ وَالخَسَارَةِ وَالوَجَعِ والفَقْدِ . يَنقسِم الكِتَابُ إلى جُزْأَيْن ، الجُزْءُ الأوَّلُ : صُورة رَجُلٍ خَفِيٍّ . يتناول المَوْتَ المُفَاجِئ لِوَالِدِه، حَيْثُ يُبَيِّن أوستر طبيعةَ غِيابِ وَالِدِهِ في حَيَاتِهِ وبَعْدَ مَوْتِه ، ويُعيدُ بِنَاءَ حَياةِ وَالِدِهِ مِنَ القِطَعِ الأثرية التي تَرَكَهَا وَرَاءَه . والجُزْءُ الثاني : كتاب الذاكرة . وَهُوَ سَرْدٌ بِضَميرِ الغائبِ ، حَيْثُ تَبْرُزُ المَوضوعاتُ المَوجودةُ في أعمال أوستر اللاحقة ، مِثْل : تَرتيب الأحداث ، والعَبثية ، والوُجودية ، والصُّدْفَة ، وعَلاقة الأبِ والابْنِ ، والبَحْث عَن الهُوِيَّةِ والمَعاني الإنسانيَّةِ . وَيَعتبر النُّقَّادُ ” اختراع العُزلة ” مِفتاحًا لِتَفسيرِ أعمال أوستر السَّرْدِيَّة والشِّعْرِيَّة ، وَهُوَ جَوْهَر أعمالِه كُلِّهَا .

لَقَدْ قَامَ أوستر _ مِنْ خِلالِ شخصيةِ الأبِ _ باختراعِ العُزلةِ شُعورًا وسُلوكًا ، عَبْرَ الحَفْرِ في الذاكرةِ ، والغَوْصِ في المَاضِي الذي لا يَمْضِي ، وَتَفْسِيرِ مَعنى الخَسَارَةِ ، واسترجاعِ الذِّكْرَيَاتِ اعتمادًا على المُقْتَنَيَاتِ التي تَرَكَهَا هَذا الأبُ الذي يَتَّصِفُ بِالغُموضِ والخَفَاءِ والغِيَابِ.إنَّهَا رِحْلَة بَحْث مُضْنية عَنْ أبٍ مَعْزُولٍ ، وَغَامِضٍ ، وَغَرِيبِ الأطوارِ ، وَغَيْرِ مَرْئيٍّ ، وَلَمْ يَكُنْ حاضرًا بِما فِيه الكِفَاية في حياة أُسْرته .

ولا يُمكِن حَصْرُ مَفهومِ العُزلةِ في الروابطِ الأُسَرِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعيَّةِ ، فالعُزلةُ مَنظومةٌ إنسانيَّة على تَمَاس مُباشر مَعَ الشَّخصيةِ والهُوِيَّةِ،وهَذا يَتَّضِح في كِتاب” مَتاهة العُزلة ” ( 1950 ) للأديب المَكْسيكي أوكتافيو باث ( 1914 _ 1998 / نوبل 1990 ) ، وَهُوَ يُعْتَبَر أهَمَّ أعمالِه على الإطلاق . وقد أشادت به الأكاديمية السويدية عندما منحته جائزة نوبل . وحاولَ فيه باث أن يَتَحَرَّى عَنْ شخصية الإنسان المَكْسيكي ، وَيَسْبُر أغوارَها .

وَهَذا الكِتابُ عِبارة عن بحث في التاريخ الرُّوحِيِّ للمكسيك ، في طُقوسه وعاداته المَوْروثة ، مِنْ أيَّامِ الأزتيك ( سُكَّان المَكْسيك القُدامى ) . وهو أيضًا نظرة تأمُّل مُتَعَمِّقَة في الأوضاع التي أثَّرَتْ في تَحديد طبيعة المكسيكيين وتاريخهم .

يَرَى باث أنَّ الوَحْدَةَ أعمقُ حَقيقةٍ في الوُجودِ الإنسانيِّ ، فالإنسانُ هُوَ الكائنُ الوَحِيدُ الذي يُدْرِكُ أنَّهُ وَحِيدٌ، والوَحِيدُ الذي يَبْحَثُ عَنْ غَيْرِه . وَقَدْ جاءَ إلى الدُّنيا وحيدًا ، وَسَيَمُوت وَحِيدًا . والإنسانُ أثناءَ فَترةِ حَياته يُعيد اختراعَ عُزلته، واكتشافَ نَفْسِه ، ويَسْعَى إلى تَحقيقِ ذَاتِهِ في غَيْرِه ، فَهُوَ دَائِمُ الحَنينِ إلى المَاضِي ، ودَائمُ البَحْثِ عَن التواصل مَعَ الآخَرِين .

وَيُعْتَبَر كِتابُ ” مَتاهة العُزلة ” أساسًا وُجوديًّا ودَليلًا فِكْرِيًّا لِفَهْمِ الهُوِيَّةِ المَكْسيكية،مِنْ خِلالِ تَحليل عميق للشَّخصيةِ الفَرْدِيَّةِ والهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ والتفاعلِ الثقافيِّ ، ويَعْكِسُ جوانب مِنَ العُزلةِ الثقافية التي عَاشَتْهَا المَكسيك بَعْدَ فَترةِ الاستعمارِ ، وتأثير ذلك على المُجتمع المَكْسيكي الحديث الغَنِيِّ بثقافته وتاريخِهِ المُعَقَّد .

والإنسانُ _ في لَحَظَاتٍ مُعَيَّنَة في حَيَاتِه _ يَشْعُرُ بانفصالِهِ عَن العَالَمِ ، واغترابِه عَنْ ذَاتِه ، وانعزالِهِ عَن التاريخِ والحَضَارَةِ . ومَعَ هَذا ، فَهُوَ لا يَمْلِكُ خِيَارًا سِوَى السَّعْي إلى تَجَاوُزِ العُزلةِ ، وَمَحْوِ الاغترابِ ، واستعادةِ العَلاقاتِ الاجتماعيَّة . وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بِتَفعيلِ الوَعْي بذاتِه ، وعَدَمِ مُحاولة تَغييرِ جِلْدِه .

والشُّعُورُ بالعُزلةِ والانفصالُ عَن الآخرين يُمثِّل أُسلوبَ حَيَاةٍ لِكَثيرٍ مِنَ الأُدباءِ ، فالرِّوائيُّ الفرنسي جان ماري لوكليزيو ( وُلِدَ 1940 / نوبل 2008 ) ، يُعْتَبَر مُتَعَدِّد الهُوِيَّات ومُتشابِك الجُذور ، فَهُوَ مَولود في مدينة نيس الفرنسية لأبٍ بريطاني عَمِلَ طبيبًا عسكريًّا في أفريقيا ، وأُمٍّ فرنسية مِنْ جُزَرِ موريشيوس . وَقَدْ ظَلَّ الروائيُّ طِيلة عُقود يبحث في التباس الانتماءِ والهُوِيَّة ، الذي وَجَدَ نَفْسَه فيه ، فَقَد اكتسبَ الجِنسية الفرنسية مِن أُمِّه ، وأَخَذَ الجِنسية البريطانية مِنْ والدِه. وكانَ يَشْعُرُ بأنَّهُ مُزْدَوَج الولاء والانتماء، وَهَذا مَنَحَه شُعورًا بالغُربةِ والعُزلةِ . وطَالَمَا رَغِبَ بالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذا الشُّعور ، وكانَ بحاجةٍ إلى هُوِيَّةٍ مُحَدَّدة بشكلٍ حاسمٍ .

يَرفضُ لوكليزيو الظُّهُورَ في الإعلام ، فَهُوَ صَامِتٌ ومُنعزِل ومُتَأمِّل ، ويَعْتَبِر الإنسانَ مَجموعةً مِنَ المُكْتَسَبَاتِ الثقافية ، والإرْثِ العائليِّ ، والمُتغيِّرات الفِكرية ، وَتَجَارِب العَيْشِ في بُلدان وأوضاع مُتغيِّرة ، وخِيارات شخصية ، وكُشوفات وأحلام مُتحقِّقة أوْ مُتهاوية. ويَمتاز إبداع لوكليزيو بِعُمْقٍ إنسانيٍّ، وفُيوض شِعْرِية دَفَّاقة ، وَتجريب مُمْتِع. ويُعْتَبَر أعظمَ كاتب فرنسي على قَيْدِ الحَيَاة .

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

إقرأ أيضاً:

توماس لونغمان.. رائد النشر الذي وضع أسس صناعة الكتاب الحديثة ماذا تعرف عنه؟

في القرن الثامن عشر، كان العالم يشهد ثورة معرفية بفضل التقدم في الطباعة، وانتشار التعليم، وزيادة الطلب على الكتب. 

وبينما كانت إنجلترا تزدهر في هذا السياق، ظهر اسم توماس لونغمان كأحد أبرز رواد النشر الذين تركوا بصمة لا تُمحى في تاريخ الثقافة البريطانية والعالمية.

بدايات متواضعة لرجل طموح

ولد توماس لونغمان في عام 1699، وكان ينتمي لأسرة بسيطة من مدينة بريستول، لم يكن من النبلاء ولا من الطبقة الثرية، لكنه امتلك رؤية مبكرة لأهمية الكتاب كأداة لنقل المعرفة. 

انتقل إلى لندن في شبابه، وعمل في إحدى المكتبات ليتعلم أصول المهنة عن قرب.

وبفضل إصراره وذكائه التجاري، استطاع في عام 1724 أن يؤسس دار النشر الخاصة به والتي حملت اسمه: “Longman”. 

كانت البداية بسيطة، لكنه سرعان ما كوّن شبكة من المؤلفين والموزعين، وبدأ في بناء سمعة قوية.

ثورة في عالم النشر

لم يكن توماس لونغمان مجرد تاجر كتب، بل كان صاحب رسالة، فقد آمن بأهمية نشر المؤلفات التي تثري العقول وتنفع الناس، سواء كانت أدبية أو علمية أو دينية.

ساهم في نشر كتب تعليمية كانت تستخدم لاحقا في المدارس والجامعات البريطانية، كما دعم مؤلفين شباب لم يكن لديهم من ينشر لهم.

ومن أبرز ما ميز أسلوب لونغمان في النشر هو اهتمامه بجودة المطبوعات، وتطوير طرق التوزيع، ووضع نظم دقيقة لإدارة العقود مع المؤلفين، وهي أساليب كانت جديدة في ذلك العصر، لكنها أصبحت لاحقًا من المعايير الأساسية في صناعة النشر.

بعد وفاته عام 1755، استمرت دار “لونغمان” في النمو والازدهار على يد أحفاده، لتصبح لاحقًا واحدة من أعرق دور النشر في أوروبا. 

وفي العصر الحديث، اندمجت دار لونغمان مع دور نشر أخرى لتكون كيانات أكبر، أبرزها شركة “Pearson Education”، لكن اسم “لونغمان” لا يزال يستخدم حتى الآن في بعض السلاسل التعليمية


 

طباعة شارك توماس لونغمان دار نشر لونغمان عالم النشر مؤلفين شباب ثورة معرفية الكتب

مقالات مشابهة

  • عطيف: رينارد أفكاره خلصت وما شفنا اختراع جديد منه .. فيديو
  • فتاح 2: الصاروخ الإيراني الذي يصل إلى تل أبيب في أقل من 5 دقائق
  • سيد صادق يكشف لصدي البلد عن اللقب الذي يحبه
  • سويسرا ترفع عقوباتها عن سوريا.. خطوة جديدة لفك العزلة الدولية
  • بوتين: روسيا لا تسعى إلى استسلام أوكرانيا وتريد الاعتراف بالواقع الذي نشأ على الأرض
  • دعاء آخر ساعة يوم الجمعة للرزق.. اغتنم الوقت الذي لا ترد فيه الدعوة
  • نتنياهو: هذا الشيء الوحيد الذي يُؤخّر انتهاء الحرب في غزة
  • هذا ما قاله نتنياهو من موقع مستشفى سوروكا الذي أُصيب بضربة إيرانية
  • قبل اختراع السيارات الحديثة..دراسة تكشف أولى مؤشرات الاحتباس الحراري الناجم عن الأنشطة البشرية
  • توماس لونغمان.. رائد النشر الذي وضع أسس صناعة الكتاب الحديثة ماذا تعرف عنه؟