هل بدأت فعلًا الحقبة الإسرائيلية في المنطقة؟!
تاريخ النشر: 15th, June 2025 GMT
في كتابه «آفاق الثمانينات» الصادر عام 1981، تحدّث الكاتب محمد حسنين هيكل عن تحولات كبرى في المنطقة، واعتبر أنّ بغياب الدور المصري، فإنّ «الحقبة الإسرائيلية» قد بدأت، في إشارة إلى تصاعد النفوذ الإسرائيلي سياسيًّا وعسكريًّا في الشرق الأوسط في ذلك الوقت المبكر. وما يلفت الانتباه هو أنّ هذه الرؤية، التي بدت للبعض آنذاك متشائمة أو مبالغًا فيها، أصبحت اليوم أقرب إلى الواقع، في ظلّ التحولات السياسية، واتساع رقعة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وتراجع مركزية القضية الفلسطينية في الأجندات الإقليمية، من قضية العرب الأساسية إلى قضية هامشية يتاجر بها الكلّ، ويتمنى البعض، بل ويعمل للقضاء على المقاومة.
كانت تلك الزيارة المفتاح الذهبي، الذي أعطى القوة للكيان الإسرائيلي لكي يتمدد في الوطن العربي، ولم ينغص عليه إلا حركات المقاومة الشريفة المتمثلة في حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وكذلك في الجمهورية العربية السورية، وبدعم إيراني واضح، ممّا كان يقضّ مضاجع قادة الكيان، الذين ركزوا على ضرورة «قطع رأس الأفعى» وهي إيران، كما ذكر حسين أمير عبد اللهيان وزير خارجية إيران الراحل في كتابه «صبح الشام»، الصادر عن دار المحجة البيضاء في لبنان.
يبدو أننا كنا شهودا على تحقق رؤية هيكل، فما نعيشه اليوم هو نتيجة حتمية لمسار بدأ منذ عقود؛ فعبارةُ هيكل بأنّ «الحقبة الإسرائيلية قد بدأت في المنطقة»، ما زالت ترن في أذني ويتجدّد رنينُها مع كلِّ حدث تعيشه المنطقة، وكانت الضرباتُ الإسرائيلية التي وجهتها لإيران، فجر الجمعة الماضي، جلجلة كبرى وليس مجرد رنين، فهي إيذانٌ حقيقيٌّ ليس فقط ببدء الحقبة الإسرائيلية في المنطقة، بل أيضًا لاكتمال السيطرة على كلِّ المقدرات، خاصة إذا لم ترد إيران الرد الموجع.
إذا نظرنا إلى نجاح الكيان الصهيوني في ضرباته الموجهة لإيران بالمنطق والعقل، فإننا لا يمكن أن نخدع أنفسنا، فهي متوقعة نظرًا لنجاح الكيان في قطع أذرع إيران في المنطقة؛ فحزب الله أصبح يتيمًا، وكذلك المقاومة الفلسطينية، وسوريا الداعم الأساسي للمقاومة لم تعد «قلب العروبة النابض»، فنحن أمام تحولات كبرى تعيد تشكيل خريطة النفوذ، وتبدلات في الأولويات العربية، ونشهد بأم أعيننا صعودًا «لإسرائيل» في المعادلات الإقليمية، ليس بقوتها وإنما بتخاذل العرب وتسابقهم للتطبيع مع الكيان وحمايته، حتى أصبحت له الهيمنة التي تجسدت في الواقع السياسي والعسكري والإعلامي للمنطقة، فمنذ اتفاقيات كامب ديفيد، مرورًا باتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وصولًا إلى اتفاقيات «أبراهام»، شهدنا موجة من التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، منحتها شرعية سياسية غير مسبوقة في المنطقة، فأصبحت متفوقة، ليس فقط في امتلاكها للسلاح النووي غير المعلن، بل أيضًا في تفوقها في مجالات مثل الطائرات المسيّرة، والحرب السيبرانية، وأنظمة التجسس، وبوجود شبكة كبيرة من العملاء في الوطن العربي وعلى مستويات مختلفة معلنة وسرية.
ومن المفارقات العجيبة أنّ إسرائيل نجحت في ترسيخ نفوذها داخل دوائر صنع القرار في واشنطن وعواصم غربية أخرى، ممّا جعلها لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أيِّ معادلة تخص الشرق الأوسط، وهي لا تكاد تدفع بيسة واحدة، في وقت نشهد أنّ بعض الدول العربية تدفع التريليونات مقابل الحماية ـ حسب تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب غير مرةـ وتعيش على وهم العظمة.
حتى كتابة هذا المقال لا نعرف حجم الرد الإيراني، ولكن المؤكد أنّ النجاح العملياتي للهجمات الإسرائيلية يعبّر -دون لبس- عن انكشاف أمني واستخباراتي عميق في البنية الدفاعية الإيرانية، بما يُضعف إلى حد كبير مصداقية الخطاب السياسي الذي طالما ارتكز على الردع والمواجهة. إنّ التصريحات المتكررة من قبيل: «سنرد في الوقت والمكان المناسبين» التي دأب قادة طهران على ترديدها، لم تعد تحظى بأيّ درجة من الثقة لدى الرأي العام الإقليمي، بل باتت تُستحضر في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية على نحو ساخر، شأنها في ذلك شأن خطابات مماثلة تعاقب عليها قادة كصدام حسين، الذي هدّد بـ«حرق نصف إسرائيل»، وحسن نصر الله، الذي وعد أكثر من مرة بالانتقام، وكأنهم وظّفوا الشعارات الرنانة لتأجيل الاستحقاقات لا مواجهتها.
في تواصلي مع الصديق الصحفي محمد الرنتيسي من داخل الأراضي المحتلة، أفادني أنّ الرد الإيراني أصاب الكيان إصابات بالغة، وهو خبر مفرح ومطمئن رغم غياب التغطيات الحقيقية للرد الإيراني.
وإذا لم ترد إيران ردًا موجعًا يشاهده الأعمى ويسمع من به صمم، فإنّ ذلك يُعد إيذانًا ببدء حقبة جديدة في المنطقة تكون السيطرة فيها للكيان الصهيوني، الذي يكون قد نجح في «قطع رأس الأفعى» بالفعل، لأنّ تلك الضربات جاءت في سياق إقليمي يتسم بتزايد النفوذ الإسرائيلي، لا سيما بعد أن وجدت تل أبيب نفسها محل شراكة -معلنة أو ضمنية- مع عدد من الأنظمة العربية، إثر موجة من الاتفاقيات الثنائية والتطبيع السياسي والأمني، مما أتاح لها مساحة حركية غير مسبوقة، وعززت موقعها بوصفها فاعلًا إقليميًا مهاجمًا قادرًا على المبادرة العسكرية دون اعتبار كبير للردود المعاكسة.
أرى أنّ العملية الأخيرة لا تُقرأ فقط على أنها ضربة لإيران، وإنما تُعد تدشينًا لحقبة جديدة في الشرق الأوسط، عنوانها تفوّق إسرائيلي صريح وضعف عربي وإسلامي مذل. واللافت في المشهد، غياب ردود الفعل العربية ذات الوزن، ما بين بيانات دبلوماسية باهتة وصمت رسمي مطبق، وهو ما يعكس الأزمة العميقة التي تمر بها الأنظمة العربية في علاقتها مع شعوبها التي تألمت من تلك الضربات، وتؤمن بأنّ الدور قادمٌ للكل لا محالة، لكن الأنظمة اعتمدت على حماية ترامب لها وكأنه خالدٌ مخلّد يتصف بصفات الربوبية. لقد أضحى انكشاف الشرعية السياسية لهذه الأنظمة واقعًا محسوسًا، في ظلّ اتساع الهوة بينها وبين مطالب الشعوب، التي تنظر بعين الشك والخذلان إلى من يُفترض بهم تمثيلها.
واقع الحال أنّ الجماهير العربية، وإن كانت مكبّلة بقوى القمع وتضييق الحريات، إلا أنها لم تعد غافلة عمّا يُدار في كواليس السياسة الإقليمية. ثمة حالة من القهر العام، وفقدان الثقة، واليقينُ أنّ المسارات الحالية لا تُعبّر عن الإرادة الشعبية، بل تُدار وفق اعتبارات مصالح خاصة لا خيارات وطنية.
وستبقى الشعوبُ الطرفَ المستبَعد من دائرة التأثير، لأسباب كثيرة منها الخوف والانشغال بلقمة العيش وغيرها من الأمور الحياتية التي تتصعب يومًا بعد يوم، لكنها تبقى أيضًا الأمل الوحيد المتبقي، حين يحضر وقت الحساب التاريخي، وهو في حكم الواقع آت لا محالة. ويبقى أن نقول: إذا كانت الحقبة الإسرائيلية قد بدأت فعليَّا في المنطقة، فذلك بالمقابل هو مؤشر آخر على بداية زوال ذلك الكيان، والرد الإيراني المتوقع حلقة ضمن سلسلة الزوال.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
الجامعة العربية تدين الهجمات الإسرائيلية على إيران وتطلب وقف التصعيد
أدانت جامعة الدول العربية، اليوم الجمعة، الهجمات الإسرائيلية على إيران وطالبت المجتمع الدولي بالتدخل ووقف التصعيد.
وطالبت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في بيان أصدرته اليوم بتدخل حاسم وفوري من المجتمع الدولي لوقف هذه الهجمات التي تهدد باشعال المنطقة، مشددة على ضرورة احتواء التصعيد وعدم ترك الأمور تخرج عن السيطرة. وأكدت أن تلك الاعتداءات على الأراضي الإيرانية تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولييذكر أن مجلس الأمن الدولي سيعقد اجتماعًا طارئًا اليوم الساعة 3:00 مساء بتوقيت نيويورك، الساعة 10:00 مساء بتوقيت مصر، بناءً على طلب وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي.
ويأتي الطلب بعد أن شنت إسرائيل هجمات جوية على إيران فيما أسمته القوات الإسرائيلية بالضربة “الاستباقية” تحت اسم “عملية الأسد الصاعد” أسفرت عن مقتل عدة شخصيات بارزة من القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين.
ترامب يهدد إيران للتوصل إلى اتفاقوكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجه رسالة حادة للقيادة الإيرانية، صباح اليوم، حيث كتب في منشور على منصته الاجتماعية "تروث سوشال" أنه أعطي إيران "فرصة تلو الأخرى" للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بخصوص برنامجها النووي، لكنه أشار إلى أنه رغم تحذيراته لطهران بأن البديل سيكون "أسوأ بكثير" من أي شيء شهدته من قبل، "إلا أنهم لم يتمكنوا من إنجاز ذلك".