في كتاباته المتعددة، كثيرًا ما حذر نعوم تشومسكي من غواية “القوة” حين تُمارَس بمعزل عن العقلانية السياسية، ومن السرديات الإمبريالية التي تُخفي الحقائق خلف لغة “الردع” و”الدفاع عن الذات”، “إسرائيل”، التي أفاقت على نشوة ضربة خاطفة ضد إيران، سرعان ما بدأت تدفع ثمن إيمانها بأن بإمكانها فرض توازنات الشرق الأوسط عبر هجوم مباغت على دولة إقليمية بحجم إيران، لكن الواقع، كما هو الحال دائمًا في منطق القوة، معقد ومفتوح على انهيارات غير محسوبة.


الهروب من غزة نحو سماء طهران
في بداية الأمر، بدا الهجوم “الإسرائيلي” على المنشآت الإيرانية وكأنه ضربة ناجحة: اغتيالات نوعية، ضربات على البنية التحتية النووية والعسكرية، وتحقيق ما وصفته وسائل الإعلام العبرية بـ”إنجازات لا تُضاهى”، لكن خلف هذا الإطار الإعلامي، تكمن أزمة أعمق: “إسرائيل” تهرب من مأزق غزة إلى معركة أخطر وأعقد مع طهران. والضربات لم تكن فقط ضد المنشآت، بل كانت في جوهرها محاولة لإعادة ضبط معادلة الردع بعد سلسلة من الهزائم الرمزية والاستراتيجية، بدءًا من 7 أكتوبر، مرورًا بالحرب الطويلة والمفتوحة في غزة، وصولًا إلى الخوف من تصاعد جبهة الشمال مع حزب الله.
النشوة كقناع للإنكار
في التحليل النفسي للسلطة، تمثّل النشوة الجماعية لحظة إنكار جماعية. الإعلام العبري، وحتى بعض المعارضين، انخرطوا في التهليل للضربة، وكأنها تعويض جماعي عن الإهانة الوطنية في 7 أكتوبر. لكن فإن “الاحتفال بالقوة لا يُلغي الحاجة إلى مساءلتها”. ما جرى لم يكن انتصارًا بل انزلاق محسوب إلى منطقة الخطر. والفرق بين الحكمة والجنون، أن الأولى تفكر في اليوم التالي، بينما الثانية تتلذذ بلحظة التأثير الفوري.
الفشل في فهم إيران
منذ عقود، تسوّق “إسرائيل” أن إيران “نظام شيطاني” يمكن تفكيكه عبر ضربة ذكية واحدة. وهذا بالضبط ما يُحذّر منه تشومسكي عند الحديث عن “التسطيح الاستشراقي” للعقل الغربي تجاه خصومه، إيران ليست دولة عشوائية، إنها منظومة معقدة ببنية عسكرية وعقائدية واقتصادية متداخلة، وتملك أدوات الرد في الإقليم، وأهم من كل ذلك: ذاكرة حرب طويلة. التجربة الإيرانية مع العراق (1980–1988) لا تزال تلهم العقيدة العسكرية الإيرانية. والشيعة، كما كتب يوسي ميلمان، “يتقنون فن المعاناة”.
الرد الإيراني لم يتأخر فقط لأن القيادة مشوشة، بل لأنه كان يحتاج إلى تأنٍّ استراتيجي، وإلى قرار محسوب بعدم جعل الرد مجرد فعل عاطفي. وعندما أتى الرد، كان بمستوى يجعل النشوة “الإسرائيلية” تبدو استهزاء بالتاريخ والجغرافيا معًا.
أمريكا ليست هنا
من أخطر ما اكتشفته “إسرائيل” هذه المرة، أن الولايات المتحدة –ولو بقيادة ترامب الحليف المعلن– ليست بالضرورة على استعداد لخوض معركة واسعة لأجل “إسرائيل”. وزير الخارجية ماركو روبيو كان واضحًا في نأي واشنطن بنفسها عن الهجوم، وهو موقف يعكس تحولًا عميقًا في المزاج الأمريكي الذي بدأ يتبرم من كلفة التحالف مع “إسرائيل”، لا سيما مع اتساع المعارضة للحرب في غزة، والصدام مع القوى الدولية الأخرى (كالصين وروسيا) حول سياسات الهيمنة.
ترامب قد يهلل للهجوم، لكنه لا يريد أن يُجر إلى مستنقع حرب طويلة في لحظة انتخابية حرجة. وهذا ما يعرفه الإيرانيون جيدًا، لذا يُصعّدون بثقة محسوبة. أما “إسرائيل”، فقد فوجئت بأن “الغطاء الأمريكي” الذي طالما اعتُبر ضمانة للجنون الاستراتيجي، بات مثقوبًا هذه المرة.
الحرب على النظام أم على البرنامج النووي؟
بين خطاب نتنياهو الذي توعّد برؤية طائرات “إسرائيلية” فوق طهران، وتصريحات مسؤولي الجيش بأن الهدف هو تدمير البرنامج النووي، ثمة فجوة سردية خطيرة. إذا كانت “إسرائيل” تريد تغيير النظام، فإنها تكرر خطيئة الأمريكيين في العراق: وهم استبدال النظام دون رؤية للبديل. أما إذا كان الهدف فقط وقف التخصيب، فإن الهجوم لم ينجح في تدمير منشأة فوردو، ولم يوقف البرنامج، بل ربما سرّعه.
ومن هنا يأتي خطر الحرب الاستنزافية. فإيران، التي تعي أنها لن تُهزم في ضربة واحدة، قد تُطيل أمد المواجهة، وتجعل منها حربًا متعددة الجبهات والأدوات: صواريخ على تل أبيب، هجمات سيبرانية، اشتباكات في مضيق هرمز، وتصعيد عبر حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي.
إسرائيل تواجه نفسها
بعد الهجوم، انهالت الانتقادات من الداخل، فجأة صار نتنياهو في مواجهة مجتمع يكتشف هشاشته: الدفاعات الجوية فشلت، والحكومة لم تهيّئ الناس، وبدأ القادة العسكريون يحذرون من حرب طويلة، فيما المعلقون يتحدثون عن “فخ نصبته إسرائيل لنفسها”. وكأن الحرب، التي أرادها نتنياهو لتكون مخرجًا من ورطة غزة، تحوّلت إلى ورطة أشد وأخطر.
في كل هذا، يبدو أن “إسرائيل” لم تُجرِ الحساب الأساسي الذي تحدث عنه تشومسكي مرارًا: حين تبني قراراتك على وهم التفوق التكنولوجي وتغفل عن التعقيد التاريخي والسياسي والثقافي لخصمك، فأنت تصنع كارثتك بنفسك.
من غزة إلى طهران: لا خطوط رجعة
إن الفكرة القائلة بأن “إسرائيل” يمكنها أن “تُعيد ضبط النظام الإقليمي” عبر القوة، هي في جوهرها استمرار لسردية استعمارية قديمة، وهي أن “الشرق لا يفهم إلا لغة القوة”. هذه السردية لا تزال تحكم العقل “الإسرائيلي”، الذي لم يتعلّم من تجاربه في لبنان ولا في غزة، وها هو الآن يكررها على نطاق أوسع وأخطر.
لكن الفارق أن طهران ليست غزة. والمقاومة هنا ليست فقط صواريخ، بل منظومة ممتدة جغرافيًا وعقائديًا. “إسرائيل” لا تواجه إيران وحدها، بل منظومة ممتدة من العراق إلى اليمن، ومن لبنان إلى سوريا. وهذا ما يجعل هذه المواجهة قابلة لأن تنفلت من السيطرة في أي لحظة.
في الحروب، لا تنتصر النشوة
كما قال ناحوم بارنيع: “الحروب تبدأ بالنشوة… ثم تستمر”. “إسرائيل” في هذه اللحظة ليست في موقع المُسيطر، بل المُرتبك. فالهجوم الذي أريد له أن يُعيد الهيبة، كشف العجز. والضربة التي أريد لها أن توقف المشروع النووي، قد تُسرّعه.
إن لم تُدرك “إسرائيل” هذا الواقع بسرعة، وتقبل بخيار سياسي عاقل، فإنها تقود نفسها إلى مواجهة قد تكون الأعنف في تاريخها. وحينها، سيكون الثمن ليس فقط إخفاقًا استراتيجيًا، بل تصدعً داخلي طويل الأمد، وسقوطًا نهائيًا لوهم “الجيش الذي لا يُقهر”.
“الحروب لا تُخاض لإرضاء الغرور، بل لحماية الناس… وإذا كانت النشوة هي المعيار، فالنتيجة دائمًا كارثة.”

كاتب صحفي فلسطيني

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

كيف تشتري “إسرائيل” سكوت جمهورها وصمت العالم؟

 

 

في سؤال: لماذا يصمت الإسرائيلي، بل ويتعاطف مع جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها جيشه وحكومته ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ زهاء السنتين، دون أن يتحرّك فيه ساكن سياسي أو إنساني، اللهم سوى مظاهرات ذوي الأسرى الإسرائيليين التي تقتصر فحوى شعاراتها وأهدافها على معاناة «الرهائن تحت القصف في أنفاق حماس»، دون الالتفات للفلسطينيين الواقعين «عراة» تحت القصف الإسرائيلي المباشر بعد أن دُمّرت بيوتهم، يُقتلون ويُهجّرون ويُجَوّعون حتى الموت.
في هذا السؤال، كان جوابنا التلقائي أننا أمام مجتمع استيطاني استعماري تتوحّد فيه مصالح المستعمرين الأفراد بمصالح السلطة المستعمِرة، ويستفيدون جميعًا من عدوانيتها وتوسّعها واستيطانها وحروبها، من خلال التشارك في غنائمها ومغانمها ومردوداتها الاقتصاديّة والسياسيّة، ويزداد هذا التوحّد كلّما استشعر هذا المجتمع المزيد من الخطر على مشروعهم الاستعماري المُربح الذي يسمّونه «خطرًا وجوديًّا».
وهم، على عكس المجتمع الأميركي الذي تحوّل بعد مرور مئات السنين على استيطانه الاستعماري إلى مجتمع «طبيعي»، ولذلك رأيناه يخرج في مظاهرات عارمة مُندّدة بالحرب الإجراميّة التي خاضتها بلاده على فيتنام، ونراه اليوم يخرج، أسوة بغيره من المجتمعات الغربيّة، لِيُندّد بحرب الإبادة على غزّة، فإنهم لم يتحوّلوا إلى مجتمع طبيعي، لأن الصراع على مشروعهم الاستعماري لم يُحسم مثلما حدث هناك، لسببين: الأول يرتبط بطبيعة هذا المشروع المختلفة، والثاني يرتبط بطبيعة السكّان الأصليّين والمقاومة العنيدة للشعب الفلسطيني المتواصلة منذ مئة عام وأكثر.
وفي سياق الاستفادة الماديّة العينيّة من حرب الإبادة على غزّة، والتي تُسهم في كتم أصوات هذا المجتمع واصطفافه الأعمى وراء حكومته اليمينيّة الدينيّة المتطرّفة، تساعدنا مقالة كتبها المؤرخ آدم راز، وعالم الاجتماع آساف بوند، على فهم هذه العلاقة المركّبة وإدراك بعض ديناميكيّاتها الداخليّة، حيث يكشف المقال أنّ الدولة تدفع لجندي الاحتياط، لقاء كلّ شهر «تطوّع» في الخدمة العسكريّة في غزّة، 29 ألف شيكل، وهو مبلغ يُنافس، كما يقول الكاتبان، الأجر اليومي للعاملين في مجال «الهايتك»، الذين يحظون بالأجر الأعلى في سوق العمل الإسرائيلي.
هذا الأجر المرتفع، برأي الكاتبين، هو ليس لقاء الحصول على قوّة عمل عسكريّة لتنفيذ سياستها فقط، بل لقاء الحصول على أمر آخر لا يقلّ قيمة: يتمثّل بالشراكة وكسب الدعم والمصداقيّة الواسعة للحرب، إذ إنّ «عملة» خدمة الاحتياط تلك تخلق منظومة مصالح يقع في شباكها جمهور يتّسع باطّراد، الأمر الذي يجعل جندي الاحتياط، الذي يحظى بعشرات آلاف الشواقل شهريًّا، لا ينتقد الحرب، وأن تتحوّل عائلته وأصدقاؤه وزملاؤه إلى شركاء غير مباشرين في «المشروع الحربي»… ويصمتوا عن انتقاد هذه السياسة وتداعياتها.
أمّا في سؤال صمت العالم على الإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطيني، ومواصلته توفير الغطاء والدعم اللازم لاستمرارها على مدى السنتين الماضيتين، فجوابنا كان دائمًا أننا أمام منظومة استعماريّة تقودها أميركا، تعتبر إسرائيل ذراعها الضارب وقاعدة ارتكاز لها في المنطقة العربيّة، وهي لهذا السبب تواصل دعمها لها في كلّ الأحوال، حتى حين ترتكب جرائم ضدّ الإنسانيّة وحرب إبادة.
في هذا السياق أيضًا، خاض الباحث في الشأن العسكري الإسرائيلي يغيل ليفي، في مقال نشرته «هآرتس»، في تفاصيل التدخّل أو عدم التدخّل الدولي لدى تعرّض شعب من الشعوب لحرب إبادة، فأشار إلى مسؤوليّة المجتمع الدولي في منع الإبادة الجماعيّة، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانيّة، والتطهير العرقي، في حال فشلت الحكومة المحليّة في منعها، وذلك باستعمال الوسائل الدبلوماسيّة والإنسانيّة وغيرها لحماية الجماعة التي تتعرّض لمثل هذه الجرائم، بما فيها فرض العقوبات الاقتصاديّة واستعمال القوّة العسكريّة.
ليفي يعطي أكثر من مثال على التدخّل الدولي عسكريًّا لمنع «الإبادة الجماعيّة»، أو ما كان يُعتقد أنّه «إبادة جماعيّة»، أحدثها في 2011م بعد اتخاذ قرار في مجلس الأمن باستخدام القوّة العسكريّة ضدّ ليبيا، بادّعاء حماية سكّانها من «جرائم» حكومتها، وكلّنا يذكر كيف قصفت طائرات الناتو العاصمة طرابلس وأطاحت بنظام القذافي.
والمثال الثاني في 1999م، عندما تجاوز حلف «الناتو» مجلس الأمن، وشنّت قوّاته غارات جويّة على صربيا لمنع «التطهير العرقي» ضدّ الألبان في كوسوفو، هذا علمًا أنّ عدد القتلى الألبان، كما يقول، بلغ عشية شنّ هذه الهجمات 2000 مدني فقط، مقابل أكثر من 50 ألف قتيل مدني، و350 ألف جريح، ومليوني مهجّر في غزّة، وهي أعداد كافية وجديرة بأن تجعل زعماء الناتو ورئيس الولايات المتحدة يلقون خطبًا ناريّة حول المسؤوليّة الأخلاقيّة للحلف، ويُذكّروا بالمحرقة النازيّة.
لكن في حالة إسرائيل، فإنّه ما من مسؤول غربي قد يفكّر بتدبير أقلّ من ذلك بكثير، مثل فرض حظر جويّ عليها أو نشر قوّات دوليّة لفضّ الاشتباك في غزّة، ليس لأنّ إسرائيل تحظى بحماية الولايات المتحدة فقط، كما يقول، بل لأنّها تُعتبر جزءًا من العالم الغربي، وجزءًا من «الجدار الحديدي» في وجه العالم الإسلامي، ويجب أن تكون محلّ شفقة بسبب صدمة السابع من أكتوبر والتداعيات التي تثيرها ذكرى المحرقة.
لهذه الأسباب، ستبقى الدول الغربيّة تواصل التفرّج على الجوع، والخراب، والقتل، والاقتلاع، وعلى أطفال غزّة الذين يُدفنون وتُدفن معهم الهويّة الأخلاقيّة الإسرائيليّة، دون أن تُحرّك ساكنًا.
كاتب فلسطيني

مقالات مشابهة

  • كيف تشتري “إسرائيل” سكوت جمهورها وصمت العالم؟
  • “بوفايد”: الاستفتاء والانتخابات هي التي تعكس الإرادة الشعبية وليس الاستطلاعات
  • هل وقعت مصر اتفاقية غاز جديدة مع إسرائيل؟.. البترول توضح الحقيقة (فيديو)
  • بعد إعدام “الجاسوس النووي”.. إيران تكشف عن تفاصيل صادمة وتبث اعترافاته (فيديو)
  • نهوض جيل “زيد” في السودان.. شباب ينتفض ويحول رماد الحرب لإنجاز عبر منصات التواصل الاجتماعي
  • قيادي في “حماس” يؤكد تعطيل “نتنياهو” و”ويتكوف” المفاوضات التي كادت أن تصل إلى اتفاق نهائي
  • تفاصيل حول روزبه وادي الذي أعدمته إيران بتهمة التجسس لصالح الموساد
  • مذكرات التفاهم الاستثمارية التي وقعت اليوم بحضور الرئيس الشرع تشمل مجموعة من المشاريع الاستراتيجية الكبرى وعددها 12 مشروعاً بقيمة إجمالية تبلغ 14 مليار دولار أميركي
  • هذه الأرباح التي حققتها الشركة الجزائرية للتأمينات “كات” خلال سنة 2024
  • لقاح “قاتل” يودي بحياة أطفال.. ما الذي يحدث في ذلك المستشفى؟