لعل من نافلة القول، أن إستراتيجية الدفاع الأمامي- والتي تُعرف في الأدبيات الإيرانية باسم "الدفاع المستمر"- ترتكز على تصور أمني مركزي يفترض أن حماية الدولة لا تتحقق من داخل حدودها الجغرافية، بل من خلال التمدد الوقائي في الفضاء العربي المحيط.

وليس هذا الطرح إلا استجابة مرنة لبنية تهديد مركبة ومتناسلة تتجاوز نمط الحرب النظامية إلى الحرب غير المتكافئة، حيث يصبح ضبط المجال الحيوي للخصم شرطًا أوليًا لبقاء الذات.

وعلى هذا الأساس، فإن إستراتيجية الدفاع الأمامي لا تُفهم بوصفها خيارًا ظرفيًا، بل هي في جوهرها تموضع وجودي في مشهد إقليمي متقلب، وإعادة صياغة لمفهوم السيادة من داخل منطق الردع مترامي الأطراف.

وإذا أردنا أن نؤصل هذه العقيدة في سياقها التاريخي، فلا مناص من العودة إلى لحظة التأسيس الأولى، أي إلى الحرب العراقية الإيرانية، تلك الحرب التي لم تكن مجرد نزاع حدودي، بل كانت تجسيدًا لصراع كياني بين مشروعين متنازعين على الجغرافيا والرمز معًا.

ومن رحم تلك التجربة، لا سيما بعد انسحاب العراق من الأراضي الإيرانية عام 1982، تشكل إدراك مركزي مفاده أن الدفاع داخل الحدود هو أقرب إلى الانتحار البطيء، وأن تحييد الخطر يستوجب نقله إلى أرض الخصم.

وبمقتضى هذا الوعي، أخذت طهران في تبني نظرية الدفاع الأمامي، لا باعتبارها مجرد عملية عسكرية استباقية، بل باعتبارها تحولًا نوعيًا في هندسة المجال الأمني، بحيث لا يُترك للعدو هامش اقتراب، ولا يُسمح له بصياغة ميزان القوى على مقربة من تخومها.

ولم يكن نموذج حزب الله في لبنان في هذا السياق إلا التجسيد العملي الأول لهذا المنطق، إذ أثبت الحزب في سياق المواجهة المركبة مع إسرائيل أن الفاعل غير النظامي قادر على إعادة تعريف القوة بما يتجاوز الأوزان التقليدية للجيوش.

ومن ثم تم استنساخ النموذج في بيئات متباينة وفق خصوصية كل ساحة، فظهر الحشد الشعبي في العراق، وفاطميون وزينبيون في سوريا، والحوثيون في اليمن.

إعلان

فكان لكل ساحة عنوانها المحلي، لكن المظلة العقائدية والمركز التنسيقي ظلا محكومين بمنظومة الحرس الثوري، ولا سيما "فيلق القدس"، الذراع الخارجية التي جسدت في شخص قاسم سليماني الانتقال من الدولة إلى الشبكة، ومن المركز إلى الامتداد.

وما إن حل عام 2003، حتى وجدت إيران نفسها إزاء لحظة فارقة، إذ أتاح الغزو الأميركي للعراق إسقاط عدوها التاريخي، وفتح الباب واسعًا لاختراق البنية العراقية في مستوياتها السياسية والأمنية والاجتماعية.

وقد أحسنت طهران توظيف هذا التحول، ليس فقط من خلال الدعم المباشر لحلفائها، بل من خلال إعادة هندسة المجال العراقي بوصفه عمقًا إستراتيجيًا دائمًا، لا مجرد حليف طارئ.

ثم جاءت التحولات الإقليمية التي صاحبت الربيع العربي لتمنح إيران فسحة إضافية للتوسع، فكان الولوج إلى سوريا تحت عنوان حماية محور المقاومة، والدخول إلى اليمن تحت لافتة نصرة المستضعفين.

وكل ذلك لم يكن سوى حلقات متناسقة ضمن سلسلة الدفاع الأمامي، بما أنها منظومة مرنة لا تعترف بالحدود الجغرافية الصلبة، بل تبني أمنها على قابلية التمدد وفق إيقاع الخطر.

إن ما يمنح هذه الإستراتيجية قوتها ليس فقط انتشار الوكلاء وتعدد الساحات، بل ارتكازها على بنية سردية عقائدية تُجهّز وتُعبّئ وتضفي بعدًا قدسيًا على الجهد العسكري، إذ يتماهى الدفاع عن المزارات في النجف وكربلاء والسيدة زينب مع حماية الثورة، وتتقاطع رمزية كربلاء مع المعارك الميدانية في البوكمال أو شبوة، بحيث تتحول الهوية الشيعية العابرة للحدود إلى غلاف تعبوي لمشروع جيوسياسي صلب.

ومن هذا المنظور، فإن هذه الإستراتيجية تكتسب شرعيتها من تداخل السياسي بالمقدس، ومن قدرة النظام الإيراني على تقديم نفسه كحامٍ للوجود الشيعي في وجه ما يعتبره تهديدًا سنيًا تارة، وإسرائيليًا تارة أخرى.

غير أن لهذه الإستراتيجية كلفة، بل كلفة باهظة. فحين تتوسع إيران على حساب دول منهكة أو منهارة، فإنها لا تكسب نفوذًا خالصًا، بل ترث هشاشة البنى التي تتدخل فيها، وتعرض نفسها للارتداد العكسي.

وقد دفعتها هذه المقاربة إلى صدام مفتوح مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وعرضتها لسلسلة عقوبات اقتصادية خانقة، ووسمها الخطاب العربي الرسمي والشعبي بكونها قوة طائفية توسعية.

وبهذا المعنى، فإن ما كسبته إيران من عمق جيوسياسي دفعته من رصيدها في العالم العربي ومن رصيد خطابها الثوري، وأدخلها في شبكة من التوازنات المعقدة التي يصعب التحكم بمآلاتها.

بل إن الداخل الإيراني نفسه بدأ يتململ، لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الخانقة، وأصبحت فئات واسعة من الشعب تتساءل عن منطق تخصيص الموارد الهائلة لدعم جماعات مسلحة خارجية، في الوقت الذي تعاني فيه الطبقات الدنيا من الانهيار المعيشي، وتتقلص فيه شرعية النظام في عين قاعدته الاجتماعية.

ورغم ذلك، فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية الإيرانية ما زالت ترى في إستراتيجية الدفاع الأمامي أنها ليست ترفًا إستراتيجيًا، بل قدرًا وجوديًا لا يمكن التراجع عنه. ذلك أن إيران تدرك تمامًا أن الانكفاء يعني الانكشاف، وأن الانسحاب من الميدان يفتح المجال أمام الخصوم لملء الفراغ، ومن ثم إعادة رسم الإقليم على نحو يهدد وجودها ذاته.

إعلان

ولعل اغتيال قاسم سليماني، بما حمله من رمزية، لم يؤدِ إلى تراجع هذه الإستراتيجية، بل عمق الإيمان بها، وجعل من الرجل شهيدًا في سرديتها، ومن نهجه وصية إستراتيجية لا مجال للتخلي عنها.

ومن هنا، لا تبدو إيران مقبلة على تعديل جذري في مقاربتها مهما تبدلت الظروف، فالمنظور البنيوي الذي يحكم دفاعها الأمامي يجعل من هذه الإستراتيجية أداة تأمين إقليمي، وآلية تفاوض على طاولة الصراع الدولي، ووسيلة تهشيم للحدود الكلاسيكية التي تفصل بين الدولة والأمة، بين العقيدة والمصلحة، بين المذهب والجيوسياسة.

غير أن السؤال يظل معلقًا: هل تملك إيران، في ظل التحولات الدولية، ما يكفي من الموارد والشرعية والحلفاء لاستدامة هذه الإستراتيجية؟ أم أن الدفاع الأمامي، وقد بلغ ذروته، قد يتحول إلى استنزاف أمامي يعجل بانكفاء داخلي لا يُبقي ولا يذر؟

أما اليوم، وبعد المواجهة العسكرية غير المسبوقة التي اندلعت بين إيران وإسرائيل، إذ جرى استهداف منشآت عسكرية وعلمية في عمق العاصمة طهران، ومقتل قيادات رفيعة في الحرس الثوري والجيش، فإن المشهد يبدو وكأنه دخل طورًا جديدًا من التحدي البنيوي لإستراتيجية الدفاع الأمامي نفسها.

فقد كشفت هذه الضربات مستوى هشاشة المنظومة الردعية الإيرانية، لا سيما في ظل العجز عن حماية المركز ذاته، وهو ما قد يدفع صناع القرار في طهران لإعادة النظر في حدود هذه الإستراتيجية وأدواتها.

وبات مطروحًا على طاولة النقاش الأمني والسياسي في إيران سؤال لم يكن ممكنًا طرحه سابقًا: هل آن الأوان لتغليب منطق الدولة على منطق الثورة؟ وهل يؤدي الانكفاء إلى الداخل وبناء الجبهة الوطنية والمؤسساتية إلى تأمين أكثر استدامة من المغامرات العابرة للحدود؟

إن خطورة اللحظة لا تكمن في حجم الخسائر فحسب، بل في رمزية ما جرى. فقد اخترقت إسرائيل منظومة الردع الإيرانية في قلب العاصمة، وكشفت قابلية الانكشاف الإستراتيجي للدولة، وهو ما قد يرغم صانع القرار الإيراني (ولو تحت ضغط الواقع) على التخفف من عبء الامتدادات الخارجية، والعودة إلى صيغة (إيران الدولة) التي توازن بين المصلحة والسيادة، وتعيد تعريف الأمن القومي على أساس داخلي لا توسعي.

غير أن ذلك يظل رهنًا بتوازنات معقدة بين مراكز القوى داخل النظام، بين من يرى في الانكفاء نكوصًا عن المبادئ، ومن يراه شرطًا لبقاء النظام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات هذه الإستراتیجیة لا سیما

إقرأ أيضاً:

ما هي صواريخ إيران الفرط صوتية التي ترعب إسرائيل؟

كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا بقليل بتوقيت القدس المحتلة فجر اليوم الأربعاء الموافق 18 يونيو/حزيران 2025، عندما انتبه المستوطنون الإسرائيليون من سكان حيفا -الذين لم يذق معظمهم النوم بسبب صفارات الإنذار المستمرة- إلى دوي يشبه دوي الرعد.

ما سمعوه في الحقيقة لم يكن إلا أحدث رشقة صواريخ إيرانية انطلقت لتخترق طبقات الغلاف الجوي بسرعة تقترب من 2 كيلومتر في الثانية الواحدة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"الجيل الخامس" يقود أخطر حرب لإيران ضد إسرائيلlist 2 of 2لماذا تطلق إيران صواريخها الباليستية ليلا؟end of list

أعلن التلفزيون الإيراني أن الصواريخ التي استخدمها الحرس الثوري لأول مرة هي صواريخ "فتّاح"، وأن هذه هي المرحلة الحادية عشرة من عملية الوعد الصادق 3، وأن الصواريخ هذه المرة "غير قابلة للاعتراض".

صاروخ فتاح الإيراني (الجزيرة)

 

بهذا كشفت وكالة تسنيم الإيرانية عن تصعيد نوعي في المواجهة بين إيران وإسرائيل مقارنةً بالغارات السابقة. وأشارت الوكالة إلى أن هذه الصواريخ تتمتع بسرعات فائقة وقدرات تدميرية عالية، تُمكّنها من تجاوز أقوى منظومات الدفاع الجوي.

وفي بيان نقلته الوكالة، حذّر الحرس الثوري الإيراني من أن الضربات القادمة "ستشهد استخداما أوسع للصواريخ الفرط صوتية"، ليضع العالم أمام مشهد مفتوح على احتمالات التصعيد ما لم تتوقف الغارات الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية.

لذلك نحتاج البحث عن إجابات لأهم الأسئلة: ما هي الصواريخ الفرط صوتية؟ وما أنواعها؟ وما الذي يميزها عن منظومات الصواريخ الأخرى؟ وما نوعية ترسانة الصواريخ الفرط صوتية التي تملكها إيران؟

الصواريخ الفرط صوتية

تقنيا، يُعرَّف مصطلح "فرط صوتي" بأنه كل سرعة تتجاوز 5 ماخ (6125 كيلومترا في الساعة)، أي خمسة أضعاف سرعة الصوت. وعند هذه السرعات الهائلة، تفرض الفيزياء وقائع جديدة؛ أبرزها الحرارة الشديدة الناجمة عن اندفاع الصاروخ أو المركبة عبر طبقات الغلاف الجوي الكثيفة.

هذه الحرارة، إلى جانب قوى أخرى تتفرد بها بيئة الطيران الفرط صوتي، تضع مصممي تلك المركبات أمام تحديات هندسية ضخمة. فابتكار مركبات جوية قادرة على تحمل هذه الظروف يتطلب مواد تصنيع متطورة، وأنظمة دفع متقدمة، واستثمارات كبيرة.

إعلان

لذا، يظهر هنا سؤال مُلح: ما الذي يجعل الصاروخ "فرط صوتيا" فعلا؟

في البداية، ينبغي التأكيد أن السرعة وحدها ليست كافية لتعريف الصاروخ "الفرط صوتي".

فعلى مدى التاريخ، تجاوزت كثير من الصواريخ الباليستية حاجز 5 ماخ في إحدى مراحل رحلتها، وبعضها بلغ أكثر من 20 ماخ خلال الصعود أو العودة عبر الطبقات العليا للغلاف الجوي، مثل الصواريخ الباليستية الحديثة العابرة للقارات، التي تحلق غالبا بسرعات عالية. ومع ذلك، لا يصلح تصنيف الصواريخ الباليستية التقليدية كأسلحة "فرط صوتية" بالمفهوم الحديث.

 

حيث يكمن الفرق الجوهري في القدرة على المناورة، والزمن الذي يقضيه الصاروخ بسرعات فرط صوتية ضمن الغلاف الجوي. إذ يتفق كثير من الخبراء، مثل أعضاء تحالف الدفاع الصاروخي الأميركي والمجلس الروسي للعلاقات الدولية، على أن السلاح الفرط صوتي الحديث يجمع بين سرعة تتجاوز 5 ماخ وقابلية للمناورة الأفقية والعمودية أثناء الطيران الجوي.

هذه القدرة على المناورة تجعل اعتراض الصواريخ الفرط صوتية أصعب للغاية من اعتراض الصواريخ الباليستية ذات المسارات الثابتة.

أنواع الصواريخ الفرط صوتية

تنقسم الصواريخ الفرط صوتية إلى نوعين رئيسيين، يتميز كل منهما بخصائص واستخدامات محددة. أولهما صواريخ كروز الفرط صوتية، وهي تعمل بالطاقة طوال رحلتها، وتحافظ على سرعة فرط صوتية مستقرة غالبا على هوامش الغلاف الجوي.

وتتيح لها محركاتها المتطورة التحليق لمسافات طويلة على ارتفاعات منخفضة أو متوسطة، مع قابلية عالية للمناورة لتفادي منظومات الدفاع الجوي.

أما النوع الثاني فهو المركبات الانزلاقية الفرط صوتية، التي تُطلق غالبا من على رؤوس الصواريخ الباليستية، فترتفع إلى طبقات عالية من الغلاف الجوي، ثم تنفصل وتنزلق نحو الأرض بسرعات فرط صوتية.

وتكمن ميزتها في قدرتها على تغيير مسارها أثناء الطيران، مما يُعقّد من عملية اعتراضها، على خلاف الرؤوس الحربية التقليدية التي تتبع أقواسا متوقعة تُسهل من قدرة أنظمة الدفاع الجوي على استهدافها.

ما يميزها؟

بالنسبة لأي صاروخ باليستي تقليدي، حتى وإن تجاوز سرعة الصوت، فإن رادارات العدو ليست مضطرة إلى تتبعه بدقة لحظة بلحظة، بل يكفيها أن تراقب مساره لحظة انطلاقه ومن ثم تكون قادرة على التنبؤ بمساره، إذ إنه يظل ثابتا منذ لحظة الإطلاق ولا يتغير.

ينطلق الصاروخ في مسار قوسي واسع، يغادر طبقات الغلاف الجوي نحو الفضاء، ثم يعود ليخترق الغلاف الجوي من جديد قبل أن يصيب هدفه. هذا المسار المتوقع يتيح للرادارات المعادية حساب نقطة الاصطدام بدقة، ومن ثم تفعيل منظومات الدفاع وفق هذا التصور المسبق.

لذلك، فكما ذكرنا، فالسرعة وحدها ليست بطاقةَ دخولٍ إلى نادي الصواريخ الفرط صوتية. ما يميّز الأسلحة الفرط صوتية الحديثة هو قدرتها على الطيران المستمر المناور داخل الغلاف الجوي في منطقة مرتفعة أكثر من مدى صواريخ باتريوت، ومنخفضة أكثر من رادارات الإنذار المبكر، مع قدرة على تنفيذ مراوغات غير متوقّعة.

بذلك يصبح الصاروخ قادرا على تجاوز الصواريخ الدفاعية الاعتراضية بسرعة تفوقها، إلى جانب تخطي مناطق تغطية الرادارات المعادية، والالتفاف حول العوائق أيا كان نوعها سواء جبالا أو مباني أو غيرها.

إعلان

الميزة الثانية، وربما الأهم، أن الصاروخ الفرط صوتي يستطيع تغيير اتجاهه إلى مسارات منخفضة قريبة من سطح الأرض، محافظا على سرعته الهائلة. ونتيجة لذلك، فإن رادارات الإنذار المبكر المعادية لا تلتقط إشارات التحذير إلا قبل فترة وجيزة جدا من وصول الضربة، حتى يكاد الوقت بين اكتشاف الصاروخ وتفعيل الدفاعات الأرضية يكون أقصر من الزمن اللازم لوصول الصاروخ إلى هدفه، مما يجعل الاستجابة شبه مستحيلة تقريبا.

مع ذلك، يظل تطوير صواريخ فرط صوتية فعّالة من أعقد التحديات التقنية في التسليح الحديث. إذ يتطلب إنتاج مركبات قادرة على تحمل الحرارة الهائلة، والحفاظ على الاستقرار الهوائي ونقل حمولة فعالة، تقدما علميا وتجريبيا متواصلا.

ولهذا، وبعد عقود من البحث، لا تزال قلة من الدول تملك قدرات حقيقية أو تجريبية في هذا المجال، وهي تقتصر على أربعة دول هي روسيا والولايات المتحدة والصين وإيران.

صاروخ فتّاح 1

ذكرت إيران رسميا امتلاكها صاروخين يحققان معايير السلاح الفرط صوتي التي ذكرناها. وقد طورهما الحرس الثوري الإيراني بالاعتماد على تكنولوجيا الصواريخ الباليستية التي تستخدم الوقود الصلب، مع تعديلات تمنحهما القدرة على المناورة والحفاظ على السرعات المرتفعة.

أول هذين الصاروخين، ويحمل اسم "فتّاح 1"، كُشف عنه في يونيو/حزيران 2023 كأول صاروخ فرط صوتي إيراني، وهو بداية دخول إيران لهذا النادي الحصري. وحسب التصريحات الإيرانية، يمكن لصاروخ "فتّاح 1" أن يصل إلى سرعات تتراوح بين 13 و15 ماخ، وبمدى يبلغ نحو 1400 كيلومتر.

ويُصنف بوصفه صاروخا باليستيا متوسط المدى مزودا بمركبة عودة مناورة، أي رأس حربي قادر على تعديل مساره بشكل موجّه أثناء التحليق.

يتكون الصاروخ من قسمين؛ الجزء الأول يتألف من محرك أساسي يبلغ طوله 10 أمتار، ويمتلك القدرة على دفع الصاروخ بسرعة فائقة داخل الغلاف الجوي وخارجه، وينفصل عن الرأس الحربي على مسافة مئات الكيلومترات من الهدف المنشود.

أما الجزء الثاني، الذي يبلغ طوله 3 أمتار و60 سنتمترا، فهو الجزء الذي يحمل الرأس الحربي الموجّه ويحتوي على محرك كروي وفوهة متحركة تمكنه من المناورة في كافة الاتجاهات.

وتبدأ مهمته بعد انفصال الجزء الأول أي قبل بلوغ المنطقة الخاضعة لتهديدات العدو، فيشرع بالدوران والمناورة ضمن مسار معقد في اتجاهات وارتفاعات مختلفة للإفلات من منظومات الدفاع الجوي.

ويعتمد الصاروخ في التوجيه على نظام الملاحة بالقصور الذاتي مع إمكانية التحديث عبر الأقمار الاصطناعية، كما هو الحال في العديد من الصواريخ الإيرانية الحديثة، ويتيح ذلك تصحيح المسار أثناء الطيران.

يتميز صاروخ "فتّاح 1" بأنه يعمل بالكامل بالوقود الصلب، مما يمنحه ميزة سرعة التحضير للإطلاق مقارنة بصواريخ الوقود السائل. وتظهر التسجيلات الرسمية لحظة الكشف عن الصاروخ بحضور قيادات الحرس الثوري والرئيس الإيراني في يونيو/حزيران 2023، مع الإشارة إلى إجراء تجارب طيران له في وقت سابق من العام نفسه.

وبحسب التسلسل الزمني الرسمي، أُعلن عن تطوير "فتّاح 1" أول مرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 خلال فعالية بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة العميد حسن طهراني مقدم، الذي يُعرف اليوم بأنه أبو البرنامج الصاروخي الإيراني.

وقد صُوِّر الصاروخ في الإعلام الإيراني كقفزة نوعية في تكنولوجيا الصواريخ، مع التأكيد على أنه موجّه بدقة "ولا يمكن تدميره بصاروخ آخر" بفضل قدرته على المناورة على ارتفاعات ومسارات متغيّرة. كما تدّعي إيران أن بإمكانه تجاوز أكثر منظومات الدفاع الجوي تطورا في الولايات المتحدة وإسرائيل.

The domestically-developed hypersonic missile "Fattah", #Iran IRGC's most recent achievement, was unveiled on Tuesday morning (June 6) in the presence of President Ebrahim Raisi. pic.twitter.com/wzwUTRR3ez

— IRNA News Agency (@IrnaEnglish) June 6, 2023

إعلان صاروخ فتّاح 2

أعلنت إيران أيضا عن إصدار متطور يحمل اسم "فتّاح 2″، وكشفت عن هذا الطراز في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 خلال معرض القوة الجوفضائية للحرس الثوري بحضور المرشد الأعلى علي خامنئي. وخلال مراسم الكشف عنه، شدد المسؤولون الإيرانيون على أن "فتّاح 2" منتج محلي بالكامل وإنجاز تقني فريد.

تشير التقارير الرسمية وآراء المحللين إلى أن الهيكل الخارجي للصاروخ يشبه النسخة الأصلية منه، لكن الحرس الثوري أعاد تصميم رأسه الحربي ليغدو رأسا انزلاقيا مزودا بمحرك صغير مستقل. بهذا يصبح صاروخ "فتّاح 2" منظومة ذات مرحلتين: الأولى عبارة عن معزز دفع صلب مشابه للمستخدم في نسخة "فتّاح 1″، والثانية رأس حربي متخصص فرط صوتي ينفصل بعد الإطلاق وينزلق بسرعة عالية نحو الهدف.

وتفيد المعطيات المتاحة بأن الرأس الحربي في صاروخ "فتّاح 2" مزود بمحرك صاروخي صغير يعمل بالوقود السائل في قاعدته، ويمنح الرأس دفعة أخيرة فور الانفصال، ثم يواصل انزلاقه بسرعات فرط صوتية عبر الغلاف الجوي.

إيران تقول إنه بإمكان صاروخ فتاح 2 التغلب على أكثر أنظمة الدفاع الجوي تطورا (الصحافة الإيرانية)

 

وبهذا، يصبح من النوع الثاني الذي ذكرناه "المركبات الانزلاقية الفرط صوتية"، وهي مركبة تُطلق عبر صاروخ، ثم تنفصل لتناور وتنزلق بسرعة تتجاوز 5 ماخ.

ولا تتوافر حتى الآن بيانات رسمية كثيرة عن الأداء الميداني لصاروخ "فتّاح 2″، غير أن بعض المحللين، استنادا إلى تصريحات إيرانية، يقدّرون سرعة الرأس الحربي أثناء مرحلة الانزلاق بما يتراوح بين 5 و10 ماخ، وتشير بعض التحليلات الأخرى إلى أن رقم "10 ماخ" ظهر في بعض المصادر، لكن من غير الواضح كم يدوم الحفاظ على هذه السرعة. لكن الواضح أنه صُمم ليحلق دائما بسرعات تتجاوز 5 ماخ.

أما المدى، فقد ألمحت وسائل الإعلام الإيرانية إلى أن النسخة الجديدة قد يتخطى مداها النسخة الأصلية البالغ 1400 كيلومتر ليصل إلى حدود 1500 إلى 1800 كيلومتر، رغم وجود تقديرات مستقلة ترى أن المحرك لم يتغير جوهريا، مما يرجح بقاء المدى قريبا من 1400 كيلومتر.

يستمر نظام التوجيه في هذه النسخة أيضًا بالاعتماد على الملاحة بالقصور الذاتي مع إمكانية تحديث المسار، ويحمل الرأس الحربي شحنة تقليدية مماثلة لتلك المستخدمة في "فتّاح 1".

وتكمن ميزة "فتاح 2" الجوهرية في رأسه الحربي الانزلاقي القادر على المناورة، مما يسمح بتغيير المسار خلال الهبوط، وضرب الأهداف من اتجاهات غير متوقعة وبسرعة عالية. هذا النوع من الرؤوس الحربية يشكل تحديا ضخما أمام منظومات الدفاع الصاروخي، لأنه لا يتبع مسارا باليستيا تقليديا يمكن التنبؤ به.

وفي أبريل/نيسان 2024، وفقًا لمعلومات نشرتها قناة "برس تي في" الإيرانية الرسمية، نجح الحرس الثوري الإيراني في استخدام صاروخ "فتّاح 2" عمليا حين استهدف بنجاح بنى تحتية عسكرية إسرائيلية حساسة.

وأكدت شبكة "إيه بي سي نيوز"، نقلا عن مسؤول أميركي، أن الضربة أصابت قاعدتين جويتين في إسرائيل، وتعرضت قاعدة "نيفاتيم" الجوية لأضرار كبيرة. وشملت الأهداف بنية تحتية حيوية، من بينها طائرة نقل عسكرية ومدرج للطائرات ومنشآت تخزين.

وبالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن تواصل إيران مساعيها لتطوير صواريخها الفرط صوتية وسط تقارير تشير إلى توجهات نحو إصدارات بمدى أطول يتجاوز 1400 كيلومتر أو برؤوس حربية أثقل وزنا. كما قد تسعى إلى دمج أنظمة توجيه متطورة أو تطبيق تقنيات تصغير حديثة بهدف رفع كفاءة الأداء وتحسين قدرات المناورة والدقة في إصابة الأهداف.

في النهاية، هل ستحسم الصواريخ الفرط صوتية الحرب؟ الإجابة ستكون لا على الأرجح، فالحروب تُخاض بالتحالفات واللوجستيات، والتوقيت قد يكون أهم العوامل! فهذه الصواريخ ستحدد إيقاع الحرب لأن الإسرائيليين، الذين كان لديهم ساعات في السابق لتوقع أي تهديد أو الرد عليه، صاروا يحتاجون إلى دقائق، والآن قد لا تسعفهم الثواني.

مقالات مشابهة

  • نائب محافظ أسوان يشهد ختام فعاليات ورشة عمل إعداد الخطة الإستراتيجية للمحافظة 2030
  • الدفاع الإيرانية: الجرائم التي ترتكبها إسرائيل تستوجب عقوبات ومواجهة وطنية وعالمية
  • الكمية بالجودة.. مسؤول إيراني رفيع يكشف لـCNN استراتيجية جديدة ضد إسرائيل
  • الزمالك يمنح المدير الرياضي الجديد صلاحيات تنفيذية.. ولجنة التخطيط تستمر استشاريا
  • من هو “الغوريلا” الذي يؤثر على استراتيجية ترامب تجاه إيران ويدفع باتجاه رد عسكري قوي ضدها؟
  • بالخريطة التفاعلية.. ما المواقع التي استهدفتها إيران في بئر السبع؟
  • ما هي صواريخ إيران الفرط صوتية التي ترعب إسرائيل؟
  • نواف العصيمي لياهلا بالعرفج: العناوين التي فيها ألوف وملايين تلفت النظر دائماً
  • هل تستمر دول الخليج على “الحياد” إذا طالت الحرب بين إيران وإسرائيل؟