جيل بلا وصايا.. فمن يُعلِّمهم الحياة؟
تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT
د. إبراهيم بن سالم السيابي
في إحدى القرى، جلس طفلٌ صغير بجانب جدّه تحت ظل نخلة، بينما كان الجدّ يُصلح مقبض الفأس بيده الخشنة.
قال الجدّ وهو ينظر إلى حفيده: "يا ولدي... الفأس ما ينفعه الحديد إذا انكسر الخشب، والولد ما ينفعه العلم إذا ما تربّى على الأصل".
نظر الطفل إليه بتساؤل، فقال الجدّ مُبتسمًا: "الأصل يا بُني، هو الوصايا.
مرَّت السنوات، وكبر الطفل، وصار رجلا في المدينة، وعاش حياته بين أوراق العمل والشاشات. لكنه لم ينسَ تلك الجلسة... ولا تلك الكلمة.
ففي كل بيتٍ من بيوت الأمس، كان هناك من يهمس في أذن الطفل، فوصايا الحياة لم تكن هذه الوصايا تُلقَى في محاضرات رسمية، بل كانت تمرّ ببساطة، في دعاء الأم عند الباب، في تعبيرات وجه الأب حين يشتد النقاش، في حكمة الجدّ وهو يحكي سيرة الأوائل. "ارضَ بما قسمه الله"، "من تواضع لله رفعه"، "افعل الخير ولو لم يرك أحد"، فتلك الكلمات، كانت تُغرس كما تُغرس النخلة في أرض عُمان، ثابتة، طيبة، أصلها في القيم وفرعها في سلوك الناس.
أما اليوم، فها نحن أمام جيلٍ يركض نحو المستقبل، لكنه لا يحمل حقيبة وصايا من الماضين، جيلٌ يعرف كيف يُفعّل التطبيقات، لكنه لا يعرف من أين تُستمد المبادئ.
جيلٌ يحاور الشاشات أكثر مما يحاور والديه، ويستقي نظرته للحياة من "المؤثرين"، لا من أهل الأثر.
فأين ذهبنا نحن؟ أين غاب صوت الحكمة؟ ومن يعلّمهم الحياة؟
إن المسألة لا تتعلق فقط بالتقنية أو بالزمن، ولا شك لكل زمان له تحدياته، لكن الخطورة اليوم تكمن في تراكم الانشغال وتراجع دور الإنسان المُربِّي. الأب مُنهك، الأم مشغولة، المعلم تحت الضغط، والجدّ غائب أو غُيِّب، ففي وسط هذا الفراغ، دخلت الشاشات لتؤدي الدور التربوي، لا لأننا اخترناها، بل لأننا تراجعنا خطوة... ثم خطوتين وربما أكثر.
في السابق، كان الطفل يتعلّم من التجربة، من حكايات الكبار، من المجالس، من القرى، من الفلج، من البحر، من النخيل، من صرامة الحياة نفسها. أما اليوم، فتجربته رقمية، وعلاقته بالحياة غير ناضجة، لأننا لم نمهّده لها؛ بل إننا- في كثير من الأحيان- نُحمِّله مسؤوليات لا يفهمها، ونطالبه بنضج لم نمنحه مقدماته، فنقول له: "كن قويًّا"، دون أن نعلّمه كيف يتعامل مع الخوف، ونقول له: "احترم الكبار"، دون أن يرانا نحترم كبارنا، ونقول له: "احذر رفاق السوء"، دون أن نشرح له كيف يختار أصدقاءه.
الوصايا ليست تعليمات عابرة، وإنما هي خلاصة الحياة تُسلَّم من جيل إلى جيل، هي جُمل صغيرة، لكن أثرها يتغلغل في شخصية الإنسان حتى تشكّله، وما لم نعد نفعله – للأسف – هو نقل هذه الخلاصة؛ بل إن بعض الآباء والأمهات باتوا يعتقدون أن أبناءهم "سيتعلّمونها لوحدهم"، أو أن "المدرسة كفيلة بذلك"، أو أن "كل جيل يتدبّر أمره"! لكن الحقيقة التي لا نحب مواجهتها هي: أن أبناءنا بلا وصايا يصبحون أهدافًا سهلة لوصايا الآخرين.
نحن لا نخاف على أبنائنا من الضياع فقط، بل من أن يجدوا أنفسهم في طريق لا يشبههم، لا يشبهنا، ولا يشبه هذا الوطن الذي لم نُحسن إيصال قيمه إليهم.
فأين مجالس الأمس؟ أين الجلسة بعد العشاء، حين كان الجدّ يروي كيف عاش على القليل، وكان كثيرًا؟ أين أمّ الأمس التي كانت تحفظ في قلبها ديوانًا من النصائح، وتقولها في وقتها دون تنظير؟ أين الأب الذي لا يكتفي بالصرف والإنفاق، بل يزرع في ولده الرجولة، والصبر، والعفة؟
ما نحتاجه اليوم ليس اختراع طرق تربية جديدة، بل استعادة تلك اللحظات الإنسانية الحقيقية التي كانت تعلّمنا أكثر مما نتصوّر، أن نمسك بأيدي أبنائنا، لا لنقيّدهم، بل لنرشدهم، فلا عيب أن نحكي لهم حتى عن أخطائنا، عن فشلنا، عن الأشياء التي تعلمناها بالطريقة الصعبة، حتى لا يعيدوا الطريق ذاتها.. نحن لسنا بحاجة إلى أن نكون مثاليين، بل صادقين، لسنا بحاجة إلى أن نكون متفرغين دائمًا، بل حاضرين حين يُحتاج إلينا.
الجيل الجديد لا يبحث عن معلومات- فالمعلومة موجودة بضغطة زر- بل يبحث عن معنى، عن من يفهمه، عن من يرشده إن أخطأ، لا من يحاسبه فقط.
في الختام.. أقول لكل والد ووالدة، ولكل معلم ومربٍّ: إن لم توصِ أبناءك بشيء، فسيوصيهم غيرك بشيءٍ آخر. وما أكثر من ينتظر أن يملأ هذا الفراغ؛ فدعونا نُعيد إلى أبنائنا جلسة الوصايا، ولو في الطريق إلى المدرسة، أو في لحظة صمتٍ قبل النوم. دعونا نحكي لهم عن عمان التي نحبها، عن ناسها، عن شهامتها، عن الطيبين فيها، عن الأمانة، عن الوفاء، عن الجد في العمل، وعن البركة التي تسكن في القناعة. دعونا نعلّمهم الحياة، قبل أن يُفاجئهم الواقع بلا دليل ولا درع. فإن لم نكن نحن "صوت الحياة" في آذانهم، فلن نلومهم حين يسمعون غيره.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
600 ألف فلسطيني يستفيدون من «شريان الحياة» الإماراتي
رفح، غزة (وام)
أخبار ذات صلةأجرى فريق عملية «الفارس الشهم 3»، أمس الأول، جولة تفقدية ميدانية لموقع تنفيذ مشروع «شريان الحياة»، بالتعاون مع مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة، والذي يهدف إلى إمداد المناطق الجنوبية من قطاع غزة بخطوط مياه مستدامة، وذلك في إطار المشاريع الإغاثية والإنسانية الكبرى التي تنفذها دولة الإمارات العربية المتحدة لدعم الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويُعد هذا المشروع من أبرز المشاريع الحيوية التي تأتي استجابة للاحتياجات المتزايدة للنازحين والسكان المحليين، في ظل التدهور الإنساني الخطير الناجم عن الحرب المستمرة.
ويُنفذ بالتعاون مع مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة، وبالتنسيق مع الجهات المختصة في الجانب المصري.
ويمتد خط المياه الجديد لمسافة 7 كيلومترات، بدءًا من محطات التحلية الإماراتية في الجانب المصري من رفح، وصولًا إلى منطقة المواصي جنوب قطاع غزة، إحدى أكثر المناطق اكتظاظًا بالنازحين.
ويُتوقع أن يستفيد من هذا المشروع نحو 600 ألف مواطن، من بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء وكبار السن.
ويهدف المشروع إلى توفير إمدادات مياه نظيفة وآمنة، تخفف من الأعباء الإنسانية والصحية التي تواجه السكان، خاصة في ظل محدودية الموارد، والانقطاع المتكرر للمياه، وارتفاع درجات الحرارة.
وتندرج هذه الجهود ضمن خطة شاملة أطلقتها الإمارات، تحت مظلة عملية «الفارس الشهم 3»، التي تشمل حزمة واسعة من المشاريع الإغاثية، الطبية، والإنشائية، لصالح أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويتم تنفيذ المشروع بإشراف الفرق الإماراتية وبالتعاون الفني والميداني مع مصلحة مياه بلديات الساحل، لضمان مطابقة المعايير الفنية والاحتياجات المحلية.
وأكدت الفرق الفنية المنفذة للمشروع أن وتيرة العمل تسير بشكل متسارع، وأن الأعمال التنفيذية تمضي وفق الجدول الزمني المحدد، تمهيدًا لتشغيل الخط وضخ المياه إلى مناطق التوزيع في أقرب وقت ممكن.
ويعكس هذا المشروع حرص الإمارات على تقديم دعم إنساني مستدام وفعّال لقطاع غزة، خاصة في ظل التحديات غير المسبوقة التي تواجهه، مع استمرار العدوان، وانهيار البنى التحتية الأساسية في مختلف القطاعات.
ويُنتظر أن يُسهم «شريان الحياة» في تخفيف المعاناة اليومية لآلاف العائلات، وأن يشكّل نموذجًا للتعاون الإقليمي والدولي في مواجهة الأزمات الإنسانية.