كيف تحوّلت الليبرالية إلى أداة في خدمة إسرائيل؟
تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT
لطالما كانت الليبرالية الأيديولوجيا السائدة التي تشكّل الأنظمة السياسية والاقتصادية في العديد من الدول الغربية. فالليبرالية تقوم على سيادة القانون، وحماية حقوق الملكية، وفصل السلطات، وهي كلها أسس تهدف إلى صيانة الحريات الفردية.
كما أن الليبرالية وفّرت أساسًا للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وسعت إلى تعزيز القانون الدولي وحقوق الإنسان.
بيدَ أن الليبرالية اليوم تواجه أزمة عميقة على المستويين؛ الدولي والداخلي. فعلى الصعيد الدولي، يتمحور النقد الأساسي للمؤسسات الليبرالية حول ما يُنظر إليه من ضعفها، بل ومن نفاقها المتزايد.
إذ يُنظر إلى هذه المؤسسات غالبًا على أنها تخدم المصالح الإستراتيجية للدول الغربية الكبرى و"إسرائيل"، بدلًا من أن تكرّس، فعلًا، نظامًا دوليًا قائمًا على القواعد.
لقد دفعت العمليات العسكرية الأخيرة لـ"إسرائيل"، ولا سيما عدوانها المدمّر على غزة الذي أسفر عن استشهاد أكثر من خمسين ألف فلسطيني، المؤسسات الدولية إلى أزمة وجودية حقيقية.
وتُبرز هذه الأحداث كيف أن القوى الغربية- خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتعطيل قرارات وقف إطلاق النار متى شاءت.
كما تكشف عن تآكل مؤسسات مثل المحكمة الجنائية الدولية، كما حدث عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدعي العام للمحكمة كريم خان عقب إصداره مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
أما داخليًا، فالليبرالية أيضًا تمرّ بأزمة، بل حتى في الدولة التي تُسمّى "قائدة العالم الحر"، أي الولايات المتحدة. فقد شكّل قادة شعبويون حول العالم، مثل دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو، وناريندرا مودي، تحالفات مناهضة لليبرالية مع قوى دينية وقومية، متحدّين بذلك المعايير والمؤسسات الليبرالية في بلدانهم.
إعلانوعلى عكس الليبرالية، لا تُعدّ الشعبوية أيديولوجيا واضحة المعالم؛ بل هي حركة سياسية تدّعي تمثيل "الشعب" ضد "النخبة" الفاسدة و"الدخلاء" المهددِّين؛ بمن فيهم المهاجرون والأقليات. وغالبًا ما يُضعف القادة الشعبويون سيادة القانون، ويقوّضون مبدأ فصل السلطات، ويوسّعون سيطرة الدولة على الحريات الفردية.
فكيف يمكن لليبرالية، إذن، أن تواجه الشعبوية بشكل فعّال؟ يجب أن تبدأ بمواجهة مشكلاتها الذاتية، وخاصة تورطها في النيوليبرالية والمعايير المزدوجة للنظام الدولي الذي تقوده الدول الغربية.
خلال العقود الثلاثة الماضية، باتت الليبرالية ترتبط بشكل متزايد بسياسات اقتصادية نيوليبرالية عمّقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ففي الولايات المتحدة، يتمثل الأثر الأكثر وضوحًا لهذا التفاوت في تزايد أعداد المشردين، والذين تجاوز عددهم الآن 650 ألف شخص.
ومع أن بعض عناصر النيوليبرالية، مثل حماية حقوق الملكية واقتصادات السوق، لها جاذبية عالمية، فإن هذا النموذج أيضًا قوبل بانتقادات واسعة نظرًا لأنه يُغني الأغنياء على حساب الفقراء.
وقد أصبح هذا التفاوت الاقتصادي المتنامي أرضًا خصبة للخطاب الشعبوي. فبحسب بيانات الاحتياطي الفدرالي الأميركي لعام 2025، يسيطر 1% من الأميركيين على 31% من الثروة الوطنية. وتملك الشريحة من 2% إلى 10% ما نسبته 36%، أما الفئة بين 11% و50% فتمتلك 30%. وفي المقابل الصارخ، لا يملك نصف السكان الأدنى سوى 3% من الثروة.
إن مثل هذه الفوارق تغذي الخطاب الشعبوي الذي يصوّر المجتمع كساحة صراع بين نخبة فاسدة وجماهير مقهورة. لذلك، فإن الراغبين في التصدي للشعبوية عليهم أيضًا أن يواجهوا الظروف الاقتصادية التي تغذيها، عبر معالجة التفاوت داخل الدول والظلم الاقتصادي على مستوى العالم.
وعلى الساحة الدولية، يتعين على الليبرالية كذلك أن تواجه المعايير المزدوجة التي طالما قوضت مصداقيتها. فعندما تستخدم الدول الغربية المؤسسات الدولية لحماية نفسها و"إسرائيل" من المساءلة بشأن الحروب والجرائم العسكرية- بينما تدين بشدة روسيا أو غيرها من القوى غير الغربية- فإنها بذلك تزعزع شرعية هذه المؤسسات نفسها.
فالقوة السياسية لا تقوم فقط على القوة العسكرية أو الهيمنة الاقتصادية؛ إنما تعد الشرعية عنصرًا أساسيًا أيضًا.
وحين يتجاهل قادة- يدعون الليبرالية، مثل جو بايدن- الأعراف الدولية خدمةً لمصالح الولايات المتحدة و"إسرائيل"، فإنهم يضعفون النظام الدولي، ويجعلونه عرضة لاستغلال الفاعلين الشعبويين.
ولكي تتمكن الدول الغربية من مواجهة الشعبوية بشكل موثوق على الصعيد العالمي، فلا بد أن تجدد التزامها بالمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. فاستعادة سلطة هذه المؤسسات وحيادها أمر ضروري لإعادة بناء شرعية النظام الليبرالي.
وعلاوة على ذلك، ينبغي لليبرالية أن تواجه أوجه القصور في ذاتها، وخاصة ارتباطها بنموذج رأسمالي يعمّق الفوارق الطبقية.
وبمعالجة هذه العلل الداخلية وتجديد التزاماتها الجوهرية، يمكن لليبرالية أن تعيد فرض نفسها بديلًا موثوقًا ومرنًا للشعبوية على الصعيدين؛ الداخلي والدولي.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة الدول الغربیة
إقرأ أيضاً:
قانون الاستثمار.. بين النظرية الليبرالية والحماية الاجتماعية
عيسى الغساني
تتنافس الدول في الوقت الراهن على جذب الاستثمار الأجنبي؛ وذلك بسن القوانين وتقديم الحوافز لاستقطاب رأس المال الأجنبي، ومن حيث المبدأ عندما تستطيع دولة جذب أكبر نسبة من رأس المال ليعمل ضمن منظومة الاقتصاد الكلي؛ فهذا أمر جيد، لكن هناك عنصرًا مُهمًا في كيفية عمل رأس المال الأجنبي، وهو: هل ثمار الاستثمار تصنع النمو والتنمية للفرد؟ وهل الأساس يتمثل في الانطلاق من ثمار الاستثمار لتحقيق الاستقرار الاجتماعي أم الانطلاق من الاستقرار الاجتماعي لتحقيق التنمية؟!
في واقع الحال تُشكِّل قوانين الاستثمار إحدى الساحات القانونية التي يتقاطع فيها الاقتصاد والسياسة والعدالة الاجتماعية. حيث تقوم النظرية الليبرالية علي فتح الأسواق، وتقليل القيود، لجذب رؤوس الأموال باعتبارها محركًا للنمو. بالمقابل تقول نظرية الحماية الاجتماعية إن هناك حدودًا لما يُمكن للأسواق بدون قيود أن تقدمه لثلاث من ركائز الاستقرار الاجتماعي: وهي: 1) الفئات ذات القدرات المحدودة في الاندماج والاستفادة، 2) العمال، 3) احتمال الانفلات الاقتصادي.
ولعل من المناسب المرور على نظرة الليبيرية للسوق كأفضل منظم للاقتصاد؛ حيث تراهن النظرية الليبيرالية على ازدهار السوق عندما ترفع القيود القانونية والبيروقراطية، وتخفض الضرائب، وتمنح ضمانات للمستثمر مع حرية لحركة رأس المال والسلع. وهذا الطرح يري أن للسوق عقلًا تلقائيًا قادرًا على توزيع الموارد بطريقة وكفاءة أفضل من الدولة، وبالتالي يكون دور القانون إزاحة العوائق وكفالة حراسة الملكية وتوفير تحكيم سريع ومُحايد ونزيه مع ضرورة استقرار القوانين والتشريعات. وهذا المثال الاقتصادي يرتكز على فكرة ازدهار المستثمر يساوي ازدهار المجتمع لكن هذه المعادلة غير واقعية ولا تصدق في كثير من الأحيان.
من الناحية الاجتماعية، تنطلق الفكرة بأن الاستثمار يجب أن يكون في خدمة الإنسان، والاستثمار ليس غاية في حد ذاته؛ بل وسيلة لتحقيق العدالة وحماية البيئة واستدامة الموارد ورعاية المجتمعات المحلية وحقوق الأجيال القادمة.
وهذه المدرسة الاقتصادية ترى أن ازدهار ورفاه المجتمع هو الذي يصنع ازدهار المستثمر.
ويتصادم الطرح الاقتصادي الليبرالي والطرح الاجتماعي في 3 محاور جوهرية:
المحور الأول: الضرائب؛ حيث يرى الليبرالي ضرورة تقليل الضرائب، بينما الاجتماعي يرى رفعها لتمويل التعليم والصحة والرعاية.
المحور الثاني: سوق العمل؛ إذ يطالب النموذج الليبرالي بمرونة أكبر في التوظيف والفصل، بينما النموذج الاجتماعي يطالب بحماية للأجور وتحقيق الأمان الوظيفي.
المحور الثالث: حماية الموارد الطبيعية والبيئة؛ حيث يرى أنصار الطرح الليبرالي أن الحصول السريع والسهل لاستخراج الموارد الطبيعية بدون قيود بيئية أمر ضروري، بينما ينطلق البُعد الاجتماعي من التقييم البيئي الصارم وحقوق الأجيال القادمة.
وهذان الطرحان بكل جوانب الإيجاب وعدم الإيجاب لكل منهما، يؤديان إلى ما يُطلق عليه التوتر التشريعي، وهو عدم الانسجام بين بين القواعد القانونية والقواعد الاقتصادية الاجتماعية مثل فرض رسوم عالية تؤدي إلى نتائج منها خروج المستثمرين ورفع الأسعار ومن علامات التوتر التشريعي اختلاف المحاكم في التفسير، صعوبة تطبيق القانون وصدور قرارات متناقضة من الجهات الرسمية وتناقض بين قانون أعلى ولائحة تنفيذية. والتوتر التشريعي ينتج وهن في الفعالية التشريعية وهذا الوهن يلقي بظلاله على كل مناحي الحياة.
السير نحو نموذج متوازن بين وخاصة بعد 2008 وتأصيل معايير البيئة والمجتمع والحوكمة؛ حيث يجذب الاستثمار بضوابط عدم الإضرار بالمجتمع والبيئة هو الطرح الحاضر.
وهذا النموذج يطلق عليه الاستثمار المسؤول أو القانون الاجتماعي للاستثمار والذي قوامه التحكيم الشفاف وحقوق العمال والبيئة والمجتمع والحوكمة الرقمية وربط الحوافز بالاستدامة وتضمين معايير إدراج معايير ESG في كل تراخيص الاستثمار وأثر الاستثمار على الأجيال القادمة.
رابط مختصر