مدخل إلى القارة الجريحة

إفريقيا، التي وُصفت طويلًا بأنها "القارة السوداء"، لم تكن يومًا مظلمة إلا في عيون الطامعين. منذ مؤتمر برلين 1884 - 1885 قُسمت كما يُقسم الإرث بين ورثة بلا رحمة، ثم ورثتها أنظمة هشة تتأرجح بين الاستعمار القديم والهيمنة الجديدة.

اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على رحيل عبد الناصر ومعمر القذافي، وبعد تحولات مصر عقب اتفاقية كامب ديفيد، تجد إفريقيا نفسها أمام مفترق جديد: مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة للقارة.

ليست مجرد خطوط على ورق، بل محاولة لرسم هوية ووعي جديدين، وربما استعادة مكانة ضائعة في النظام الدولي.

رحيل الزعماء وغياب المشروع

برحيل عبد الناصر عام 1970 فقدت القارة صوتًا كان يرى إفريقيا امتدادًا طبيعيًا لمصر وللعالم العربي. دعوته إلى منظمة الوحدة الإفريقية لم تكن خطوة سياسية فحسب، بل رؤية لربط المصير العربي بالإفريقي في مواجهة الاستعمار الجديد.

ثم جاء رحيل القذافي عام 2011 ليترك فراغًا آخر. الرجل الذي أنفق من خزائن ليبيا على مشروعات الوحدة الإفريقية، وحلم "الولايات المتحدة الإفريقية"، غاب وترك القارة عرضة للاختراقات.

منذ ذلك الوقت تراجعت جسور التواصل العربي - الإفريقي، ولم تبق سوى خيوط هشة. حتى جنوب إفريقيا، التي عاشت حقبة التمييز العنصري، وجدت نفسها في زمن ما أقرب إلى إسرائيل قبل أن تتغير المعادلة مع سقوط الأبارتهايد.

جنوب إفريقيا: من دولة منبوذة إلى صوت أخلاقي

المفارقة أن الدولة التي عانت من الفصل العنصري، هي اليوم الأكثر جرأة في مواجهة إسرائيل داخل مجلس الأمن، متهمة إياها بتطبيق نموذج أبارتهايد جديد على الشعب الفلسطيني.

جنوب إفريقيا لم تعد مجرد لاعب إقليمي، بل أصبحت ضميرًا عالميًا يذكّر بأن من تذوق مرارة العنصرية لا يقبل بتكرارها. في كل مداخلة دبلوماسية لوفودها بالأمم المتحدة، تحضر صورة مانديلا كرمز حيّ، كأن صوته لم ينقطع.

التوغل الإسرائيلي في القارة بعد كامب ديفيد

بتوقيع مصر اتفاقية السلام عام 1979 فقدت إفريقيا إحدى ركائزها في مواجهة المشروع الصهيوني. إسرائيل، التي كانت معزولة دبلوماسيًا بفضل الجبهة العربية - الإفريقية، وجدت الباب مفتوحًا للعودة.

في إثيوبيا: دعمت أنظمة متعاقبة، وتوغلت عبر ملف "الفلاشا" والتعاون العسكري.

في أوغندا وكينيا: قدمت نفسها كحليف أمني ضد الإرهاب، بخبرة استخباراتية واسعة.

في غرب إفريقيا: اخترقت عبر الزراعة والتكنولوجيا والماس.

في الساحل والصحراء: نشطت شركاتها الأمنية الخاصة تحت شعار "مكافحة الإرهاب".

إسرائيل فهمت أن القارة ليست مجرد أسواق ومناجم وسدود، بل أيضًا ساحة أصوات بالأمم المتحدة. ومن يملك القارة يملك كتلة تصويتية يمكن أن تشرعن أو تعزل.

الاتحاد الإفريقي وخريطة الهوية الجديدة

منذ تأسيس الاتحاد الإفريقي عام 2002 خلفًا لمنظمة الوحدة، تسعى القارة لإعادة إنتاج ذاتها. لكن مبادرة اعتماد خريطة جديدة تعكس أبعادًا أعمق:

الاعتراف بالحدود القائمة لتقليل النزاعات.

صياغة سردية إفريقية موحدة أمام العالم.

إعلان أن القارة لم تعد تابعًا، بل لاعبًا يجب أن يُحسب حسابه.

إنها ليست خرائط لكتب مدرسية، بل جغرافيا للذاكرة والهوية. فمن لا يرسم حدوده بيده، سيرسمها الآخرون له كما فعل الأوروبيون من قبل.

إفريقيا: جسد يبحث عن روح

-- التاريخ يكشف أن القارة كانت دومًا جسدًا ممزقًا يبحث عن روح موحدة. استعمار ونهب وتقسيم حدودي جعلها كمن يعيش في "غرفة مرايا" لا يرى صورته الحقيقية.

اليوم، مع مبادرة الخريطة، تقول إفريقيا: "هذه صورتي الحقيقية، لا كما رسمتموني."

لكن السؤال: هل تكفي الخريطة لإحياء الجسد دون مشروع اقتصادي وسياسي جامع؟

الجيوسياسة الجديدة: إفريقيا بين القوى الكبرى

إفريقيا اليوم مسرح للحرب الباردة الجديدة:

الصين عبر "الحزام والطريق" تستثمر في الموانئ والسكك الحديدية.

روسيا تعود عبر صفقات السلاح و"فاغنر".

أمريكا تحاول موازنة النفوذ الصيني والروسي عبر قواعد ومساعدات.

إسرائيل تسعى لرسوخ نفوذها في المياه والأمن والغذاء.

--مبادرة الخريطة إذن ليست جغرافيا فحسب، بل إعادة تعريف للذات وسط تنافس القوى الكبرى.

فلسطين وإفريقيا: ذاكرة مشتركة

-- في زمن عبد الناصر كانت إفريقيا ترى في فلسطين مرآتها: شعب يرزح تحت استعمار، ويسعى للتحرر. لكن مع التحولات الدولية تراجعت القضية في وعي الكثيرين.

اليوم يأتي صوت جنوب إفريقيا ليذكّر: فلسطين ليست قضية عرب فقط، بل اختبار إنساني عالمي. ومن هنا كان موقفها في مجلس الأمن إعلانًا للهوية أكثر من كونه سياسة خارجية.

--الخريطة كفلسفة وجود

الخريطة ليست خطوطًا، بل فلسفة وجود.حين ترسم إفريقيا خريطتها بنفسها، تعلن أنها لم تعد فراغًا في خرائط الآخرين. لكن التحدي يبقى: كيف تتحول الفلسفة إلى مشروع واقعي؟ اتحاد اقتصادي، تعاون أمني، موقف موحد تجاه الشرق الأوسط، وخاصة تجاه إسرائيل.

نحو صحوة إفريقية جديدة

مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة ليست قرارًا إداريًا، بل دعوة لإفريقيا أن تستعيد روحها بعد غياب زعمائها الكبار وبعد اختراقها من قوى الخارج.

قد تكون جنوب إفريقيا نموذجًا، حين واجهت إسرائيل في مجلس الأمن، بأن القارة قادرة أن تكون صوتًا أخلاقيًا لا يُشترى.

لكن يبقى السؤال: هل تستطيع إفريقيا أن تتحول من ساحة صراع إلى فاعل رئيسي؟ وهل ستكون الخريطة بداية وعي جديد أم مجرد شكل بلا مضمون؟

العلاقات العربية - الإفريقية: عودة إلى الجذور

-- المستقبل يفرض إعادة صياغة العلاقة العربية - الإفريقية على قاعدة المصالح المشتركة. الأمن المائي في نهر النيل، أمن البحر الأحمر، تجارة البحر المتوسط، والهجرة، كلها ملفات لا يمكن معالجتها إلا بشراكة صادقة.

على العرب أن يستعيدوا ما فقدوه بعد كامب ديفيد ورحيل عبد الناصر والقذافي، عبر مشروع حقيقي يعيد وصل ما انقطع. فإفريقيا ليست مجرد عمق جغرافي، بل عمق تاريخي وثقافي، وبدونها يبقى العالم العربي معزولًا في مواجهة التحديات الكبرى.. .!!

--- محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ---

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الاتحاد الإفریقی جنوب إفریقیا خریطة جدیدة عبد الناصر فی مواجهة أن القارة

إقرأ أيضاً:

صحيفة إسرائيلية تحرض على الإخوان في أوروبا.. يتسللون تحت ستار الاعتدال

حرضت صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية على جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا، وحذرت من انتشارهم هناك، زاعمة أنهم يتسللون إلى مراكز القوة في القارة تحت ستار الاعتدال.

وتناولت الصحيفة مقتطفات من تقرير قُدّم إلى الاتحاد الاوروبي مؤخرا، يزعم أن جماعة الإخوان في أوروبا تعمل بهدوء على تفكيك المؤسسات الديمقراطية العلمانية في القارة، و"إقامة دولة دينية إسلامية قائمة على القرآن". 

ويعرض "تقرير شامل"، مُقدّم إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، كتبته فلورنس بريجو-بلاكلر وتوماسو فيرجيلي، الباحثان في شؤون الإسلام السياسي في أوروبا  "صورةً مُقلقةً للغاية" عن الإخوان المسلمين في أوروبا، وقالا، إن  "أوروبا تستخدم أموال دافعي الضرائب، أحيانًا دون علم، لتمويل منظمات مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، والتي تُروّج لأيديولوجيةٍ تخريبيةٍ تهدف إلى تغيير وجه القارة من الداخل". وفق زعم التقرير.


ونقلت الصحيفة عن الكاتب تشارلي فايمرز، وهو عضو البرلمان الأوروبي السويدي وصاحب فكرة التقرير، قوله، إن "الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين في أوروبا أشبه بمتاهة، فالجماعة شبكة من الجماعات شبه المستقلة، تربطها أيديولوجية مشتركة وروابط عائلية وعلاقات شخصية. سيجد أي شخص خارج الشبكة صعوبة في فهم آلية عملها، وسيجد صعوبة بالتأكيد في تتبع تدفق الأموال التي تدعمها".

يقول فايمرز: "تاريخيًا، كنا نتجاهل جماعة الإخوان المسلمين، لأن هذه الحركة كانت شبه معدومة في القارة، لكن الأمور انقلبت. ثلاثة تحولات جذرية أحدثت هذا التغيير: زيادة في حجم الهجرة الإسلامية، وظهور جيل جديد من المسلمين المولودين في أوروبا، مدركين لنقاط ضعفها ومستعدين لاستغلالها، والجهود المتعمدة من جانب جماعة الإخوان المسلمين لكسب موطئ قدم في الغرب". وفق مزعمه.

ولفت التقرير إلى أن الجماعة "تتسلل في أوروبا من خلال عمل لامركزي، عبر كيانات لا حصر لها، تبدو للوهلة الأولى غير مرتبطة ببعضها تمامًا. بعضها صغير جدًا وبعيد عن الأنظار، يُقدم نفسه كمنظمات حقيقية وشرعية - مساجد، ومنظمات غير ربحية، وصناديق رعاية اجتماعية، ومنظمات مجتمعية، وغيرها. الخيوط التي تربطها في شبكة واحدة لا يُحددها إلا الخبراء، مثل واضعي التقرير، وأفراد الأجهزة الأمنية. حتى عملهم لا يُكلّل بالنجاح دائمًا.

وزعم أنه "تحت ستار الشرعية واللامركزية، يمكن للهيئات الإسلامية أن تطلب ميزانيات وطنية وأوروبية، ومن خلال منح تُقدَّم ظاهرياً على أنها دعم لجهود دمج المهاجرين أو مكافحة العنصرية، ضخّ الاتحاد الأوروبي عشرات الملايين من الدولارات إلى شبكات تُروِّج للانفصالية والمجتمعات الموازية المستوحاة من الشريعة الإسلامية، والتي تُلحق ضرراً مباشراً بالقيم الديمقراطية التي نُقدِّرها". على حد زعم التقرير.

وأشار التقرير إلى صلة مزعومة بين فروع جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا وفروع إيران. وعلق كاتبا التقرير على ذلك بالقول: "ورغم أن هذين الطرفين الإسلاميين ينتميان إلى طائفتين إسلاميتين متعارضتين، إلا أنهما يجيدان التعاون فيما بينهما عند التسلل إلى أوروبا".


وزعم التقرير أيضا أن الإسلاميين في أوربا يستغلون اتهامات الإسلاموفوبيا لإسكات الانتقادات والمعارضة، بل وتمكنوا أيضًا من استغلال الاتحاد الأوروبي للحصول على تمويل إضافي لمكافحة هذا الخطاب المعادي للمسلمين.

وحرضت "إسرائيل اليوم" على "الإخوان" في أوروبا بالدعوة إلى حظر أنشطتهم وعدم التسامح معهم حين قال: "لقد حان الوقت للاتحاد الأوروبي لاعتماد نهج عدم التسامح مطلقًا مع هذا التهديد، بدءًا بالوقف الفوري لتمويل أي منظمة مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين أو حماس أو شخصيات، ومن خلال زيادة الشفافية والتدقيق الدقيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية".

وأشادت بـ"القرار الجريء الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب ببدء عملية تصنيف فروع رئيسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ولبنان والأردن كمنظمات إرهابية"، زاعمة أن هذا التصنيف "يشكل سابقة قوية لمواجهة التهديدات الإسلامية بشكل مباشر".

مقالات مشابهة

  • وزير الاستثمار يبحث مع اتحاد المستثمرات العرب تعزيز التعاون المشترك لفتح آفاق استثمارية جديدة في إفريقيا والمنطقة العربية
  • أمريكا في مواجهة أوروبا: استراتيجية ترامب تهز الاتحاد الأوروبي
  • الجزائر تدشّن المعهد الإفريقي للتكوين المهني ببومرداس
  • الاتحاد الأوروبي يهاجم استراتيجية ترامب
  • صناديق الاستثمار الخليجية تتجه نحو الهند وشرق إفريقيا (1- 2)
  • وزير الاستثمار يبحث سبل دعم الوجود المصري في الأسواق الإفريقية والدولية
  • توجو: انطلاق المؤتمر الإفريقي التاسع لمناقشة مكانة إفريقيا في العالم
  • الغاز في إفريقيا.. شمال القارة يتصدّر!
  • إعتماد إعلان الجزائر لتنظيم المنصات الرقمية وتعزيز السيادة لإفريقيا
  • صحيفة إسرائيلية تحرض على الإخوان في أوروبا.. يتسللون تحت ستار الاعتدال