أو ما كان لهذه النبوءة أن تبتدئ أبدا ؟!
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
تأملات : علي بن يوسف الأنصاري
قبل البدء وتحييد شخصية الشاعر عن إنتاجه الأدبي وفصل ما يكتبه عن أناه؛ أجدني ملزما قول: إن من عاش مع الراحل حمد الخروصي وعاشره، لا يستطيع سوى الجزم بأنه لا نهائي الإقبال على «الحياة»، يبث الفرح في صدور المثقلين بأحزانهم أينما وطأت روحه وقدماه، يشعل الأمل في طريق من أظلم مستقبله وتاه، بدءا من ابتسامته الملائكية شديدة الانحدار إلى أقاصي القلب، مرورا بإنسانيته المتناثرة على قارعة هلع الغريب قبل الطريق والصديق، وانتهاءً بأحلامه وطموحاته وآماله وخططه الغزيرة التي يعدّها كل صباح متأملا في غيوم السماء والبعيد غير آبه بما بعد اللحظة من مفاجآت ومطر، غير أن من يلتقط صورة بانورامية لتجربة الكتابة لديه ويُمعن النظر في تفاصيلها؛ يجدها مُكتَظّة بمفردات ومعاني وصور وتداعيات الموت ومآلاته، ليس على مستوى الكتابة الشعرية فحسب، وإنما حتى في أبسط اختياراته التي تلازمه بصورة مستمرة في حياته اليومية، على سبيل المثال وليس الحصر (اسم المستخدم لبريده الإلكتروني الشخصي «موت هادئ»، تبويب مقاله الثابت في مجلة «جواهر» الإماراتية «الشعر والوجود» -الوجود المناقض للعدم- ، مقاله المبوب في مجلة «وهج» العمانية بـ «قفار» ويقتفي من خلاله تجارب الشعراء والأدباء الراحلين لنشرها وتوثيقها، وغيرها من شذراته الخاصة والمقتبسة المترامية في حساباته على مختلف مواقع الواصل الاجتماعي -والتي بلغت ذروتها خلال العام الذي رحل فيه 2015-مثل: «مع كل موت نكتشف أن الحياة خدعة، كل هذا التفكير بلا جدوى»، «الموت مسألة وقت»، «قريب يا موتي البعيد؟».
وبتضييق الزاوية أكثر على تجربة الراحل حمد الخروصي الكبيرة والمتشعبة واستخدام العدسة الواسعة لالتقاط صورة لمفردات «الموت» ومعانيه على طريقة الـ «landscape» وبالتحديد في ديوانه «أثر» الصادر عام 2019 عن دار «مسعى للنشر والتوزيع»، نجد أن الحضور الطاغي لـ «الموت» يستمر في المُؤَلَف الذي تضمّن 118 قصيدة وقطعة شعرية؛ فبلغة الرياضيات -الجافة إلى حد كبير ولكنها في الوقت ذاته تثبت فرضية «كثافة حضور الموت في أثر حمد الخروصي» من خلال مجموعة من الاستدلالات والمؤشرات الرقمية- يتجلى «الموت» مفردة ومعنى في أكثر من 174 مناسبة موزّعا على 66 نصّا -أي أن الموت حضر في أكثر من 76 ٪ من نصوص الديوان- في مختلف الأغراض الشعرية، وقد جاءت النصوص «الوجدانية» في الصدارة؛ حيث بزغ «الموت» في (43 نصا) منها، تلتها «العاطفية» (16 نصا)، ثم «الرثاء» (5 نصوص)، كذلك «الغزل» (في نصين)، وقد توغل الموت في الديوان على مستويين متقاربين: يتمثّل الأول في مفردة «موت» واشتقاقاتها حيث وردت (70 مرة)، مثل: الموت، يموت، مات، الموتى، أموت، موتي، ميّت، مُت، الممات...إلخ، أمّا المستوى الثاني فيتمثل في معنى مباشر من معاني «الموت» ودلالاته مثل: الفقد، قبر، نزع روح، الغياب، نعش، رحمك الله، كفن، جثماني، نعي، حتفه، جثة، ضريح، أفديك بأولادي، الناعي، جنازة ...إلخ (105 مرات)، وأستطيع الجزم بأن هناك المستوى الثالث المتزأبق الذي يتمثل في المعاني غير المباشرة للموت -الصور الشعرية القابلة للتأويل- التي تنضح على جنبات الديوان وتكاد لا تخلو أي قصيدة أو قطعة شعرية من رائحتها، وقد تناولها عدد من الكتاب والشعراء العمانيين مثل: عبدالرزاق الربيعي وإبراهيم سعيد وطاهر العميري وحمود سعود وغيرهم في إضاءات نقدية وانطباعية نشرت خلال السنوات الماضية، ومن وجهة نظري الشخصية أرى أنه ما زال هناك متسع كبير للتعمّق في هذا المستوى على وجه الخصوص وسبر أغوار العلاقة المُتَشَادة بين حمد والموت.
وبالعودة إلى المستوى الأول، نجد أن مفردة «موت» واشتقاقاتها وردت في (39 نصّا)، وباستثناء ورودها بمعنى «جدا أو كثيرا» -الدارج في اللهجات المحلية لبعض الدول العربية- في البيت «عزاي إني أحبك موت.. عزاك إنك تحبيني» من نص «كذا عرسك»، فقد جاءت في بقية المواضع بمعنى واحد وهو «نهاية أو توقّف حياة الشيء وزواله» مهما تشكّل هذا الشيء في صورة (كائن حي، صحو، جمادات، أمل، بقعة جغرافية، ظاهرة طبيعية، حاسة، كلمات ...إلخ)، غير أنها تأتي على دفقات شعورية متباينة ولتحقيق غايات مختلفة، فتارة تتمظهر لنا في قمة الحنو والسمو والاستعداد للتضحية بالنفس دون تردد مقابل أن لا يتأذى من نحب ولو بأبسط الأشياء وأصغرها مثل «أموت لو تجرحك يا أماه إبرة» في قصيدة بمناسبة يوم «الأم»، وتارة ثانية تتبختر إلينا في خطوات متغطرسة وعبثية لتعكر علينا لحظات الصفاء واستحضار الذاكرة المترعة بالحنين و«هذيان ما بعد الطفولة» مثل «هيه يا دنيا وباقي لك بنا .. نزع روح وموت يخطفنا بثواني»، بينما في تارات أخرى تفرض علينا رقابة لصيقة كاللّص المحترف، تسترق النظرات لتحركاتنا في كل زمان ومكان، انطلاقا من العصور الضاربة في القِدم وما قبل الميلاد «ومروني أموات قبل آدم» إلى أن نشعر بها عند «الواحدة قبل السهر كل حي يموت رغم المصابيح الكثيرة» في «مطرح»، أو عندما تندس في أمتعة الغربة ومستلزمات الاشتياق إلى الأرض وطين البدايات وحلم النهايات كما في «أرفض أموت وداخلي لك يا وطن ذا الانتظار»، و«وإن مت قبل إني أعود وألثمك يـ أطهر وطن»، و«وتنام بين أموات فوضى المقابر»، لتستقبلنا بعدها في المساحات الواسعة التي تترقب رحمة الهطول «ماتت الصحرا وهي تبكي ابدوي» وتواصل ملاحقتنا بين أزقة الحارة الضيقة ومحاصرتنا في زوايا السكك الرطبة ومشاركتنا منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وفرحنا وحزننا كما في «ماتت الأحلام من جف الفلج»، و«دمع الطريق اللي يمر بين البيوت الخايفة من حضرة الموت الظلام»، و«تموت الساحةْ يا جاري»، و«بين الحياة والموت يمر شارعنا»، و«اليوم أنا من دون صوت .. في وسط درب الموت شيعني المداد»، وتتجرأ بعد ذلك بصورة مبالغة لتباغتنا وتفتح مغاليق الأسى «بلا موعد يجي هذا الممات وينزع الأحباب» و«أنا ما عدت متأكد أموت إلا على بابك»، وتنسل إلى عقر دارنا لتقض مضاجعنا وتجثو على صدورنا في غرف الكتمان وتقاسمنا أسرّة نومنا عالية الخصوصية والحرية كما في نص «ثقافة جهل» عند الشطر «أخشى أكون الميّت المركون في الغرفة» ونص «محاولة انتحار رجل ميّت» عبر «ريحة الموت فـ لحافك» و نص «ليل الشموع» من خلال «والموت كل ليلة ينام بشرشفي» ونص «كذا عرسك» في «والمرايا شاحبة والموت في لبسك»، لتصل ذروتها بتسللها إلى دواخلنا المتشظية وإحكام القبضة على حواسنا وأعضائنا والعناصر الأساسية التي تبقينا على قيد الحياة والأمل مثل «طعن مثل الموت يرحل في حدود أنفاسنا»، و«اتكدّس الموت في عيني»، و«هذا طعم الموت»، و«هذا هُو: ريحة الموت / الغياب»، و«أكيد أنه درى بالموت وأخفى داخله ذا السر»، وقد يخرج المتأمل في ديوان «أثر» بعدة ملاحظات حول المستوى الأول، منها: أن مفردة «موت» واشتقاقاتها لم تَرِد في (3) مرثيات «حمود»، «نعي»، و«أحباب» على الرغم من أن هذه النوعية من القصائد تنطلق من فكرة الموت وتستند عليها، وفي الجانب المقابل قد تحضر المفردة في أغراض شعرية أخرى في (6) مواضع بقصيدة واحدة مثل قصيدة «منافٍ ووطن واحد» و«مطرح حمامة والبحر ريش»، وأيضا ارتباط المفردة سببيا بـ «الأنثى» في حالات كثيرة، مثل «وأنا ميّت وذي آخر قصيدة واحفظي العنوان»، و«الموت في لبسك»، و«وأنا الميّت في هالجثّةْ وأنا المدفون بترابك»، و«القلب ميّت من بعد طعنة الغدر»، و«لكن بلا جدّةْ تصرّخ لي تعال .. الموت لو به قلب ما يسرق الحي»، وكنتِ تموتي واليدين اتّشابك .. وآنا أسألك متِّ تقولين حيّةْ»، و«كان يهذي بأغْنية (ريتا) ومات»، و«صمتك الموت في صحرا الظلام»... إلخ، وكذلك اقتران المفردة في سياق الجملة الشعرية بـ «الحياة» ومعانيها في مواضع متعددة، مثل: «موتي / حياتي ولعنتي خوفي»، و«مثل الوجود / رحلة الموت الحياة»، و«شوف حال الناس والحياة شبه الممات»، و«خلني أعيشك موت وأذكرك وأنساك»، و«يا حياة ما تساوي عود كبريت وسجارة، يا مماتٍ لو يريح الروح من هذي المرارة!!»، «وأنت ميّت تمتلك كل الوجود!!» ...إلخ، بالإضافة إلى ربط الموت بالألوان في بعض المواضع «والأزرق الميّت»، و«الموت الأحمر لا قسيتي دقايق» مع ضرورة التنبيه بأن مفردة «موت» واشتقاقاتها تتردد كثيرا حتى في القصائد والقطع الشعرية التي لم تنشر في ديوان «أثر»، مثل: «سعيد أكثر من الأوّل وموتي فيك ميلادي..!!»، و«بعيونهم ينقرأ موتٍ تعب غربة»، و«نعشقك حد الممات ولو تكون مقصّر»، «الموت يأتي في العمر مرّة»، و«هنا والموت تفاحة صلاة وجوع أشعر به»، و«صرت أنا ميت جسد .. دونكم وش هو البلد»، و«ميتٍ هالموت .. في حياتي الفارغةْ»، و«إذا ما لجل أيامي لجل موتي وميلادي».
أمّا فيما يتعلّق بالمستوى الثاني، فنجد أن معاني «الموت» وصوره تظهر في (55 نصّا) من ديوان «أثر»، وحدها مفردة «قبر» واشتقاقاتها وردت (29 مرة)- وهذه حالة أخرى لافتة للانتباه في متلازمة الموت والكتابة لدى الراحل حمد الخروصي- بمعنيين اثنين مادي ومعنوي، الأوّل هو ذلك الثقب الأرضي المحاط بدموع الصبّار وأحزان الشوك، المسوّر بعروق الراك وغبار الأيام، النافذ إلى أذهاننا كلما استحضرنا الراحلين من أحبابنا عبر صور الذاكرة، المكان الذي يحملنا عراة من ملذاتنا وندفن داخله ما تبقى من ذواتنا قبل أن تهجع فيه أجسادنا «يكون قبرك واسعٍ مثل قلبك»، «التراب اللي زرعنا، الشجر، حتى المقابر»، «في المقبرة أحباب باكر نلاقيهم»، «ويرحل مثْل لصٍ ما ترك إلا شواهد قبر»، «كيف كان القبر يا لعازر؟»...إلخ، وعلى الرغم من بشاعة اللحظة ووحشة المنظر في المعنى التقليدي للقبر؛ يُدهشنا حمد بإعادة تشكيل هذه الصورة الذهنية القاسية في مخيلتنا وتحويل كرش الطين اليابس إلى صورة بديعة مفعمة بالجمال والحيوية، تجعلنا لوهلة نقفز بخفة من على سياج الغفوة، حيث المرأة كاملة الأنوثة وسيدة الإغراء «المقبرة صدر العروسة والشجر مثل الضفاير»، وفي المعنى الثاني -المعنوي- يتبادل الشاعر الأدوار مع «القبر»، فنجده الحامل لتباريح الفقر ومعاناة المرض طوال العمر لا المحمول في حضن الرفاه ورغد العيش، «وش هي حياتي والجسد أحمله قبر»، يحاصر يومياته الحالكة ويزوره رغما عنه في مستقره ومقامه دون الحاجة إلى الذهاب له بنعش يضم قطعة من الروح والقلب «صحيح إن الشوارع نور، ولكن البيوت قبور»، ينتعله أينما حل فوق صحاري الجمر الفارعة برملها الملتهب كرؤوس المسامير المدببة أو ارتحل إلى منافي النصال التي تبدأ أجوبتها من محازم الناس وتنتهي في غمد الوطن «فوقي السما مظلمةْ.. تحتي الأرض قبْر»، يوغل الانتشار في حناياه رغم محاولة المقاومة والتصدي له بفوضوية الجنون «اسمك قبرته من زمن داخل دماي»، وهكذا تستمر المفردات التي تحمل معاني «الموت» وصوره في الانسكاب بغزارة على باقي نصوص الديوان بمفردات مختلفة تودي إلى نهاية واحدة مهما تنوعت الأغراض، وتشترك في غالبية ملاحظات المستوى الأول «وأنت العيون اللي تجيب المنيّة»، «يا طعم هالليلة وأنا حريتي كبر لْحدي»، «وأنا أتصوّر تمريني جنازة ليلة الفرقا»، أنا بخير ومنتظر منك ولو قطعة كفن»، «والمأتم البارد»، «ولا يوصل مداه الهمس والأصوات والناعي» ...إلخ، غير أن الشاعر الراحل تحاشى في بعض المواضع استخدام المفردات التي لها ارتباط مباشر بـ «الموت» واستعاض عنها بتعابير أخرى مُحكمة تحمل الدلالة ذاتها؛ لكنها تخفف من وطأة المشهد وجلل المصاب وتربت على حنق المشاعر وتتدرّج في إيصال صدمة الفراق «ماني مصدّق كيف ما عدْت موجود»، «طيور في الجنة ترف وتغني»، «سافروا خلف الحدود .. يوم ما حان الأجل»، «وتاركٍ لأهْلي شِعِر يوزن جبال».
وأخيرا.. وليس آخر، أجدني مُلزمًا مرة أخرى أن أضَعَ عباءة شخصية الشاعر على جسد قصائده، وأُذيب قطعة الجليد المتمترسة على جبهة الاحتمالات بين حمد الخروصي ومن عَرَفَه عن قُرب في كأس النبوءات، محاولا اجترار خيباتنا المشتركة في (فلاش باك مختزل) مشبع بجلد الذات عبر سياط مجموعة من التساؤلات: فكيف له أن يُغافلنا طَوال رحلته الشعرية بالتوازي مع العلاقات الإنسانية ويبعث لنا رسائل مزدوجة يطغى جانب منها على الآخر، فيغمرنا بنبله الشاهق وطيبه العالق بين شقوق جدران الأفئدة، ليلهينا في الوقت نفسه عن سيناريو المآل الذي أدمى به مدامعنا وبدأ صياغته بوصاياه العلنية على عكس العرف والعادة «يا أبوي أنا ميّت وهذي وصاتي»، كيف له أن يستوعب كل هذه الأرواح الراقصة على حبل الاحتضار بأطراف مشاعرها، ويلوّن لها المساحات الرمادية بريشة الأمل ليمنحها فُسحة ممكنة لعشق الحياة وحياة العشق وهو الذي قد استعّد جيدًا / مسبقًا / سرًّا للسير على طريق مُغبرٍ بالغياب «فكّيت لأجل الموت أزراري»، كيف له أن يمعن السفر في دواخلنا ويستشرف القادم المُبهَم لأقلام الساحة قبل مرحلتي امتلاك الأدوات وتشكّل الوعي، وعلى خطٍ موازٍ يرسم لنفسه لوحة الختام على أوراق الظلام وهو ما حدث بالضبط بعد ذلك «وصيّتي: جثماني يُنقل للوطن...!»، كيف له أن يستهل يوم وفاته 5 أغسطس 2015 -في هذا اليوم نفسه قبل 10 أعوام- بصورة اعتيادية ويتواصل مع الخاصة كما قال الشاعر جمال الشقصي لأولاده لاحقا: (كان أبوكم من قلوب، يصبح الصبح ويوزعها قصايد، كان وااااايد حب وأشعار وعطر ودخون)، وينشر في ظهيرة اليوم نفسه للعامة على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعا مرئيا يلقي خلاله بيتين من قصيدة (ليلة وداعي) التي يختمها بـ «نعم كان الفراق أرحم من أني أتركه لو طاف، ومرينا الطريق أمسك يده.. هو يمسك ذراعي» ليُحرِج الموت نفسه قُبَيلَ مجيئه بساعات في الليلة ذاتها عبر إفشال عنصر المفاجأة وفنتازيا النهايات، عليك الفاتحة يا حمد! ما كان لهذه النبوءة أن تبتدئ أبدا، لن نمررها لك ولن تمر علينا ثانية بهذه الحربائية، حتى وإن صرخت في وجوهنا «الموت رزمة من رصاص .. والقدر عين التفق» !
جميع القطع الشعرية الواردة بين علامتي التنصيص للشاعر حمد الخروصي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الموت فی
إقرأ أيضاً:
غزة تحت الحصار والجوع.. بين فوضى التوزيع ومصايد الموت
في غزة، وبعد أكثر من 22 شهرًا من الحرب والحصار، لم يعد الخطر يقتصر على القصف، بل تجاوز ذلك إلى جوع قاتل يتربص بالسكان من كل جانب.
الحشود الجائعة تتدافع على الفتات القليل من المساعدات، وسط الفوضى والرعب، لتجد نفسها في مواجهة نيران القناصة، أو في شباك العصابات الإجرامية التي باتت تتقاسم المساعدات وتتحكم بمصير المحتاجين. رغم وعود التهدئة ومبادرات الإغاثة، يظل الواقع الإنساني في القطاع في حالة انهيار متسارع، تكشفه شهادات الناجين، وتقارير المنظمات الدولية، ومواقف تتسم أحيانًا بالغموض من الأطراف الفاعلة.
منذ إعلان إسرائيل عن وقف جزئي للقصف تحت ضغط دولي متزايد بسبب تفشي المجاعة، بدأت المساعدات الإنسانية تعود تدريجيًا إلى قطاع غزة. غير أن المنظمات الدولية اعتبرت الكميات الواردة ضئيلة جدًا مقارنة بالحاجة الماسة لسكان محاصرين منذ شهور.
وفي كل مرة تصل فيها هذه المساعدات، تتكرر المشاهد المأساوية: حشود منهكة، تندفع صوب الشاحنات أو نقاط الإنزال الجوي، كما حدث في الزوايدة وسط القطاع حين تدافع العشرات نحو طرود ألقتها طائرة، ليتحول المشهد إلى فوضى وغبار واشتباك بالأيدي والسكاكين. يقول أمير زقوت: "دفع الجوع الناس إلى التناحر... الناس يتقاتلون بالسكاكين".
ضحايا الجوع لا القصف فقطفي منطقة زيكيم شمال غزة، يقول أحد الناجين وهو يحمل كيس دقيق: "كادت عجلة شاحنة أن تسحق رأسي، وأصبت أثناء انتشال الكيس".
وفي رفح جنوبًا، كان محمد أبو طه واقفًا في طابور منذ الفجر بحثًا عن كيس دقيق، حين اندلع إطلاق نار أدى إلى تدافع الناس وسقوط قتلى وجرحى. قال: "مشهد مأساوي: دماء في كل مكان، جرحى، وقتلى".
ووفق الأمم المتحدة، قُتل نحو 1400 فلسطيني منذ 27 مايو/أيار، معظمهم برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء انتظارهم المساعدات. بينما يرد الجيش الإسرائيلي بأن نيرانه "تحذيرية".
عراقيل متعمدةالمنظمات الدولية لم توجّه أصابع الاتهام للواقع فقط، بل إلى الإجراءات الإسرائيلية التي تعرقل وصول المساعدات، سواء من خلال التأخير في التصاريح أو فرض طرق عبور خطرة أو منع القوافل من التحرك في اللحظات الأخيرة.
يقول مسؤول أممي:
"غيّر الجيش الإسرائيلي خطط التحميل في زيكيم فجأة، ما أدى إلى خلط الحمولات وإجبار القافلة على المغادرة دون تأمين كافٍ".
وفي معبر كرم أبو سالم، أُجبرت المنظمات على سلك طرق محفوفة بالمخاطر، بدل الطرق الآمنة إلى المستودعات وسط القطاع.
سرقة منظمة للسلاح الأبيضعصابات إجرامية صارت لاعبًا بارزًا في هذه الفوضى، تهاجم المستودعات وتنهب الشاحنات، ثم تبيع المساعدات بأسعار خيالية. يقول الباحث محمد شحادة:
"إنها تجربة داروينية لا ينجو فيها إلا من يملك القوة والطاقة، أما الأكثر جوعًا فيُقصَون".
ويضيف رئيس بعثة "أطباء بلا حدود" في غزة، جان-غي فاتو:
"تُرسل العصابات أطفالًا ليموتوا بالرصاص في نقاط التوزيع. لقد أصبحت هذه مهنة جديدة".
في أسواق غزة، يُباع كيس الدقيق بـ400 دولار، ويُشترى فقط من لا يزال لديه ما يدفع.
حماس، الاتهام القديم المتجدداتهمت إسرائيل مرارًا حركة حماس بنهب المساعدات، ما استخدم كذريعة لحظرها بين مارس/آذار ومايو/أيار 2025. وفي مايو، ظهرت "مؤسسة غزة الإنسانية" بدعم إسرائيلي–أميركي، لتصبح الجهة المفترضة لتوزيع الإغاثة، لكن بقية المنظمات ترفض العمل معها، وتصف نقاط توزيعها بـ"مصائد الموت".
وفيما تصر إسرائيل على أن حماس تسرق المساعدات وتطلق النار على المدنيين، فإن مصادر داخل جيشها قالت لصحيفة نيويورك تايمز إن "لا دليل على أن حماس تسرق المساعدات من الأمم المتحدة بانتظام".
ويقول الباحث شحادة إن "حماس أصبحت ضعيفة للغاية، وخلاياها متناثرة وتعمل بشكل غير مركزي، ويستحيل أن تُسيطر على الأرض حاليًا".
انهيار السلطة وتفشي الفوضىفي السابق، ساعدت شرطة غزة التابعة للسلطة – وتضم عناصر من حماس – في تأمين المساعدات، لكن الآن، ومع غيابها، يسود الفراغ، وتتصاعد معدلات السرقة والنهب.
وتقول بشرى الخالدي من منظمة أوكسفام:
"دعونا إسرائيل مرارًا لتسهيل وتأمين عمليات الإغاثة، لكن هذه الدعوات قُوبلت بتجاهل واسع".
تشير اتهامات أممية وإعلامية إلى احتمال دعم الجيش الإسرائيلي لعصابات محلية في غزة. وقد تحدث جوناثان ويتال، منسق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، عن وجود "سرقة منظمة للمساعدات تحت أعين القوات الإسرائيلية".
وتتردد أسماء مثل "القوات الشعبية"، وهي ميليشيا مسلحة بقيادة ياسر أبو شباب من قبيلة بدوية جنوب غزة، اتُهمت بنهب شاحنات المساعدات. ويُقال إن إسرائيل سلّحت هذه الجماعات لمعاداة حماس.
ويقول ميكائيل ميلشتاين من مركز موشيه ديان إن أفرادًا من هذه الجماعات "متورطون في تجارة المخدرات والأنشطة الإجرامية".
مأساة بلا أفق واضحفي ظل استمرار الحرب، وتفاقم الجوع، وتعقّد المشهد بين أطراف متشابكة: حماس، الجيش الإسرائيلي، العصابات، والمؤسسات الإنسانية؛ يجد سكان غزة أنفسهم محاصرين بين القصف والجوع والفوضى.
وسط هذا الظلام، يظل الأمل الوحيد في حل سياسي شامل، وضمان حماية مدنية فاعلة، ورفع القيود التي تُفرغ المساعدات من معناها. وحتى يتحقق ذلك، يبقى سكان غزة يدفعون وحدهم ثمن صراع لا يُبقي ولا يذر.
وفي ظل حملات التشويه المتصاعدة التي تستهدف مصر ودورها الريادي في دعم القضية الفلسطينية، أكد الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس والقيادي الفلسطيني، أن الموقف المصري الثابت في مواجهة مخططات الاحتلال لتهجير الشعب الفلسطيني أزعج إسرائيل ودفعها إلى الترويج لمزاعم كاذبة للتحريض على القاهرة، مستغلين منصات إعلامية ومواقع تواصل مشبوهة.
وأضاف الرقب في تصريحات لـ “صدى البلد”، أن مصر لم تتوانَ عن فتح معبر رفح وإدخال المساعدات رغم التعقيدات، ووقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني بإرادة سياسية وإنسانية صلبة.
وأوضح الرقب أن الدعوات التي ظهرت مؤخرًا للتظاهر أمام السفارات المصرية في الخارج دعوات مشبوهة ومرفوضة، لا تخدم سوى المشروع الصهيوني الساعي لتفتيت الموقف العربي، مؤكدًا أن التظاهر الحقيقي يجب أن يكون أمام السفارات الإسرائيلية أو الأمريكية، باعتبارهما المسؤولين الأساسيين عن العدوان على غزة. واعتبر أن مجرد توجيه الغضب نحو مصر هو تشويه متعمد للواقع يصب في مصلحة الاحتلال.
واختتم الرقب بتأكيده على التقدير الكبير الذي يكنّه الشعب الفلسطيني لمصر، رسميًا وشعبيًا، مشددًا على أن الشكر واجب لكل ما قدمته القاهرة من مساعدات إنسانية وسياسية، وأن مواقفها الشريفة تستحق الدعم لا الإساءة. كما دعا الفلسطينيين إلى الحذر من الانسياق وراء حملات مغرضة لا تهدف إلا إلى النيل من الحليف العربي الأهم في دعم القضية الفلسطينية.