في غزة، وبعد أكثر من 22 شهرًا من الحرب والحصار، لم يعد الخطر يقتصر على القصف، بل تجاوز ذلك إلى جوع قاتل يتربص بالسكان من كل جانب. 

الحشود الجائعة تتدافع على الفتات القليل من المساعدات، وسط الفوضى والرعب، لتجد نفسها في مواجهة نيران القناصة، أو في شباك العصابات الإجرامية التي باتت تتقاسم المساعدات وتتحكم بمصير المحتاجين.

رغم وعود التهدئة ومبادرات الإغاثة، يظل الواقع الإنساني في القطاع في حالة انهيار متسارع، تكشفه شهادات الناجين، وتقارير المنظمات الدولية، ومواقف تتسم أحيانًا بالغموض من الأطراف الفاعلة.

المساعدات في مرمى النار

منذ إعلان إسرائيل عن وقف جزئي للقصف تحت ضغط دولي متزايد بسبب تفشي المجاعة، بدأت المساعدات الإنسانية تعود تدريجيًا إلى قطاع غزة. غير أن المنظمات الدولية اعتبرت الكميات الواردة ضئيلة جدًا مقارنة بالحاجة الماسة لسكان محاصرين منذ شهور.

وفي كل مرة تصل فيها هذه المساعدات، تتكرر المشاهد المأساوية: حشود منهكة، تندفع صوب الشاحنات أو نقاط الإنزال الجوي، كما حدث في الزوايدة وسط القطاع حين تدافع العشرات نحو طرود ألقتها طائرة، ليتحول المشهد إلى فوضى وغبار واشتباك بالأيدي والسكاكين. يقول أمير زقوت: "دفع الجوع الناس إلى التناحر... الناس يتقاتلون بالسكاكين".

ضحايا الجوع لا القصف فقط

في منطقة زيكيم شمال غزة، يقول أحد الناجين وهو يحمل كيس دقيق: "كادت عجلة شاحنة أن تسحق رأسي، وأصبت أثناء انتشال الكيس".

وفي رفح جنوبًا، كان محمد أبو طه واقفًا في طابور منذ الفجر بحثًا عن كيس دقيق، حين اندلع إطلاق نار أدى إلى تدافع الناس وسقوط قتلى وجرحى. قال: "مشهد مأساوي: دماء في كل مكان، جرحى، وقتلى".

ووفق الأمم المتحدة، قُتل نحو 1400 فلسطيني منذ 27 مايو/أيار، معظمهم برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء انتظارهم المساعدات. بينما يرد الجيش الإسرائيلي بأن نيرانه "تحذيرية".

عراقيل متعمدة

المنظمات الدولية لم توجّه أصابع الاتهام للواقع فقط، بل إلى الإجراءات الإسرائيلية التي تعرقل وصول المساعدات، سواء من خلال التأخير في التصاريح أو فرض طرق عبور خطرة أو منع القوافل من التحرك في اللحظات الأخيرة.

يقول مسؤول أممي:
"غيّر الجيش الإسرائيلي خطط التحميل في زيكيم فجأة، ما أدى إلى خلط الحمولات وإجبار القافلة على المغادرة دون تأمين كافٍ".

وفي معبر كرم أبو سالم، أُجبرت المنظمات على سلك طرق محفوفة بالمخاطر، بدل الطرق الآمنة إلى المستودعات وسط القطاع.

سرقة منظمة للسلاح الأبيض

عصابات إجرامية صارت لاعبًا بارزًا في هذه الفوضى، تهاجم المستودعات وتنهب الشاحنات، ثم تبيع المساعدات بأسعار خيالية. يقول الباحث محمد شحادة:
"إنها تجربة داروينية لا ينجو فيها إلا من يملك القوة والطاقة، أما الأكثر جوعًا فيُقصَون".

ويضيف رئيس بعثة "أطباء بلا حدود" في غزة، جان-غي فاتو:
"تُرسل العصابات أطفالًا ليموتوا بالرصاص في نقاط التوزيع. لقد أصبحت هذه مهنة جديدة".

في أسواق غزة، يُباع كيس الدقيق بـ400 دولار، ويُشترى فقط من لا يزال لديه ما يدفع.

حماس، الاتهام القديم المتجدد

اتهمت إسرائيل مرارًا حركة حماس بنهب المساعدات، ما استخدم كذريعة لحظرها بين مارس/آذار ومايو/أيار 2025. وفي مايو، ظهرت "مؤسسة غزة الإنسانية" بدعم إسرائيلي–أميركي، لتصبح الجهة المفترضة لتوزيع الإغاثة، لكن بقية المنظمات ترفض العمل معها، وتصف نقاط توزيعها بـ"مصائد الموت".

وفيما تصر إسرائيل على أن حماس تسرق المساعدات وتطلق النار على المدنيين، فإن مصادر داخل جيشها قالت لصحيفة نيويورك تايمز إن "لا دليل على أن حماس تسرق المساعدات من الأمم المتحدة بانتظام".

ويقول الباحث شحادة إن "حماس أصبحت ضعيفة للغاية، وخلاياها متناثرة وتعمل بشكل غير مركزي، ويستحيل أن تُسيطر على الأرض حاليًا".

انهيار السلطة وتفشي الفوضى

في السابق، ساعدت شرطة غزة التابعة للسلطة – وتضم عناصر من حماس – في تأمين المساعدات، لكن الآن، ومع غيابها، يسود الفراغ، وتتصاعد معدلات السرقة والنهب.

وتقول بشرى الخالدي من منظمة أوكسفام:
"دعونا إسرائيل مرارًا لتسهيل وتأمين عمليات الإغاثة، لكن هذه الدعوات قُوبلت بتجاهل واسع".

شبكات إجرامية بإشراف عسكري؟

تشير اتهامات أممية وإعلامية إلى احتمال دعم الجيش الإسرائيلي لعصابات محلية في غزة. وقد تحدث جوناثان ويتال، منسق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، عن وجود "سرقة منظمة للمساعدات تحت أعين القوات الإسرائيلية".

وتتردد أسماء مثل "القوات الشعبية"، وهي ميليشيا مسلحة بقيادة ياسر أبو شباب من قبيلة بدوية جنوب غزة، اتُهمت بنهب شاحنات المساعدات. ويُقال إن إسرائيل سلّحت هذه الجماعات لمعاداة حماس.

ويقول ميكائيل ميلشتاين من مركز موشيه ديان إن أفرادًا من هذه الجماعات "متورطون في تجارة المخدرات والأنشطة الإجرامية".

مأساة بلا أفق واضح

في ظل استمرار الحرب، وتفاقم الجوع، وتعقّد المشهد بين أطراف متشابكة: حماس، الجيش الإسرائيلي، العصابات، والمؤسسات الإنسانية؛ يجد سكان غزة أنفسهم محاصرين بين القصف والجوع والفوضى.

وسط هذا الظلام، يظل الأمل الوحيد في حل سياسي شامل، وضمان حماية مدنية فاعلة، ورفع القيود التي تُفرغ المساعدات من معناها. وحتى يتحقق ذلك، يبقى سكان غزة يدفعون وحدهم ثمن صراع لا يُبقي ولا يذر.

وفي ظل حملات التشويه المتصاعدة التي تستهدف مصر ودورها الريادي في دعم القضية الفلسطينية، أكد الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس والقيادي الفلسطيني، أن الموقف المصري الثابت في مواجهة مخططات الاحتلال لتهجير الشعب الفلسطيني أزعج إسرائيل ودفعها إلى الترويج لمزاعم كاذبة للتحريض على القاهرة، مستغلين منصات إعلامية ومواقع تواصل مشبوهة. 

وأضاف الرقب في تصريحات لـ “صدى البلد”، أن مصر لم تتوانَ عن فتح معبر رفح وإدخال المساعدات رغم التعقيدات، ووقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني بإرادة سياسية وإنسانية صلبة.

وأوضح الرقب أن الدعوات التي ظهرت مؤخرًا للتظاهر أمام السفارات المصرية في الخارج دعوات مشبوهة ومرفوضة، لا تخدم سوى المشروع الصهيوني الساعي لتفتيت الموقف العربي، مؤكدًا أن التظاهر الحقيقي يجب أن يكون أمام السفارات الإسرائيلية أو الأمريكية، باعتبارهما المسؤولين الأساسيين عن العدوان على غزة. واعتبر أن مجرد توجيه الغضب نحو مصر هو تشويه متعمد للواقع يصب في مصلحة الاحتلال.

واختتم الرقب بتأكيده على التقدير الكبير الذي يكنّه الشعب الفلسطيني لمصر، رسميًا وشعبيًا، مشددًا على أن الشكر واجب لكل ما قدمته القاهرة من مساعدات إنسانية وسياسية، وأن مواقفها الشريفة تستحق الدعم لا الإساءة. كما دعا الفلسطينيين إلى الحذر من الانسياق وراء حملات مغرضة لا تهدف إلا إلى النيل من الحليف العربي الأهم في دعم القضية الفلسطينية.

طباعة شارك غزة قطاع غزة فلسطين المجاعة مجاعة غزة إسرائيل

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: غزة قطاع غزة فلسطين المجاعة مجاعة غزة إسرائيل الجیش الإسرائیلی

إقرأ أيضاً:

كيف يصبر أحمد الأطرش وأسرته على الجوع في غزة؟

غزة- قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كان أحمد الأطرش (47 عاما) يعيش مع زوجته شادية (45 عاما) وأطفالهما حياة بسيطة في القطاع، حيث لم يكن رزقهم وفيرا، لكنه كان كافيا للعيش بكرامة في بيت صغير لا يطرقه الجوع.

يقول الأطرش بصوت تخنقه الحسرة "قلبت الحرب على غزة حياتنا رأسا على عقب، سلبتنا سعادتنا البسيطة وأحلامنا المتواضعة، ودفعتنا نحو جوع لا يرحم، التهم أجسادنا حتى انهارت".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تعرّف على أغرب أكلات الغزيين لمجابهة التجويعlist 2 of 2صوت الأمعاء الخاوية أعلى من ضجيج الحرب.. يوميات التجويع في غزةend of list

وأضاف للجزيرة نت "كنت أتقاضى شيكا من برنامج الرعاية الاجتماعية بقيمة 1800 شيكل (530 دولارا) كل 3 أشهر، وأعمل في مهنة الدهان من الفجر حتى المغيب، بأجر يومي لا يتجاوز 40 شيكلا، كنت أنفقه على زوجتي وأطفالي السبعة، بالإضافة إلى والدتي المسنة".

ويضيف "رغم ضيق الحال كنت راضيا، لم أملك الكثير من المال، لكننا كنا نشعر بالأمان وراحة البال، ومع اندلاع الحرب انهار كل شيء دفعة واحدة".

ويسرد الأطرش ما حصل معه بعد ذلك بالقول "توقف صرف مخصصات الحماية الاجتماعية (يسمونها الشؤون الاجتماعية)، وتوقف عملي، وتلاشى كل ما كان يضمن لنا قوت يومنا، في وقت ارتفعت فيه الأسعار بشكل جنوني، واشتد الجوع حتى بات يؤلم الأمعاء، لم أعد أملك ما أشتري به دقيقا أو طعاما أسد به رمق أطفالي".

الاطرش وابنته آلاء في منزلهما المقصوف والذي يشهد على جوعهما (الجزيرة)

وفي محاولة يائسة للتغلب على الجوع بدأ الأطرش يرسل ابنه الأكبر محمد (17 عاما) إلى ما تسمى مراكز توزيع المساعدات في منطقة نتساريم رغم خطورتها، مضيفا "أنتظر عودته بين خوف على حياته، وأمل في أن يحمل إلينا شيئا نأكله، فقد أصبح مصيرنا مرتبطا بخبز قد يعود به محمد، وقد لا يعود".

أما محمد فتحولت حياته إلى سباق يومي مع الخطر، يركض خلف الصناديق التي تُسقطها طائرات المساعدات، ينافس الرجال والنساء للوصول إليها أولا، على أمل أن يحظى بطرد غذائي، فالعودة خالي اليدين ليست خيارا بالنسبة له حتى لو جازف بالوصول إلى "مصائد الموت" كما يسمي الأهالي مراكز توزيع المساعدات أو محطات إلقائها من الجو.

إعلان

وبينما ينشغل الابن بالسباق الدامي ترسل والدته شقيقاته الثلاث يوميا إلى "تكية أبناء النصيرات" القريبة من المنزل، للحصول على قليل من حساء العدس أو الفاصولياء أو الأرز وعلى أي حصص قد لا تكفي لسد الجوع، لكنها تبقى على شريان الحياة الوحيد، كما تقول الأم شادية.

الأطرش وزوجته يتوسطان أبناءهما قي بيتهم الذي يفتقر إلى مقومات الحياة (الجزيرة)هُدم البيت

لم يكن الجوع وحده ما طرق باب أحمد الأطرش، بل جاءه الموت أيضا، فيذكر "في صبيحة 8 حزيران (يونيو) 2024 شنت إسرائيل هجوما جويا مباغتا على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تزامن مع تغطية نارية كثيفة لوحدات كوماندوز خاصة تسللت لتحرير 4 أسرى إسرائيليين".

ويضيف "اشتعلت السماء بالقصف، كما امتلأت الأرض بالموت في المجزرة التي تُعرف بـ"مجزرة الرهائن"، حيث استشهد أكثر من 270 فلسطينيا، وأصيب ما يزيد على ألف -معظمهم من المدنيين- ليتهدم البيت فوق رؤوسنا، فاستشهدت والدتي تحت الركام، ونجونا بأعجوبة، لكننا خرجنا جميعا مصابين، نحمل على أجسادنا جراحا، وفي قلوبنا فاجعة لا تُنسى".

أصيب أحمد بجروح في الرأس والظهر أثّرت على حركته، في حين تعاني زوجته من إصابات في الصدر والظهر وتحتاج إلى عمليات وعلاج طبيعي وأدوية وطعام خاص لا يمكن توفيره في ظل الحصار، أما أطفالهما فقد أصيبوا بجراح طفيفة.

ومنذ ذلك اليوم باتت العائلة تعيش على شفير الموت جوعا، بلا عمل وبلا معونة وبلا طحين ولا خبز، وتتساءل شادية بمرارة "من سيطعم أطفالي؟ من سيرحمهم من هذا الجوع؟ من سيوفر لي الدواء؟ فزوجي عاجز عن الوقوف، وأنا لا أملك شيئا".

تنفجر الأم بالبكاء وهي تتحدث للجزيرة نت "أطفالي يتلوون جوعا أمامي، ولا أملك لهم شيئا، أرسلهم إلى التكايا، فيعودون ببقايا طعام لا تسمن ولا تغني من جوع"، مضيفة "أتمنى الموت تحت القصف ولا أرى أطفالي يتعذبون وأنا عاجزة تماما عن فعل شيء".

لا أمان ولا طعام

ومن ركن مظلم في المنزل تتحدث الابنة آلاء (14 عاما) وهي تحاول إخفاء دموعها، وتقول "الحرب دمرت بيتنا وحرمتنا من أبسط حقوقنا الإنسانية كالأمان والطعام".

وتضيف للجزيرة نت "تمر علينا أيام لا نأكل فيها شيئا على الإطلاق، نحن أطفال، لم نقترف ذنبا، حلمنا فقط أن نعيش مثل أطفال العالم، لكن الاحتلال لا يرى فينا إلا أهدافا للموت والتجويع".

ومنذ توقف التهدئة في 18 مارس/آذار 2024 يعيش سكان غزة تحت حصار خانق بعد أن أغلقت إسرائيل المعابر ومنعت دخول المساعدات، ليتفاقم الجوع ويلقي بقسوته على أكثر من مليوني إنسان.

وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، دخل قطاع غزة المرحلة الثالثة من المجاعة، وفق تصنيف شبكة معلومات الأمن الغذائي العالمية (آي بي سي)، حيث تتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل خطير، وسط نقص حاد في الدواء وانعدام شبه تام للغذاء.

مقالات مشابهة

  • الإعلام العبري: “حماس” تشترط دخول 250 شاحنة مساعدات يوميا لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل
  • كيف يصبر أحمد الأطرش وأسرته على الجوع في غزة؟
  • مصائد الموت قناع إسرائيل وأميركا في تجويع غزة
  • مصر تمد يد العون لغزة.. وزير الخارجية: على إسرائيل رفع الحصار وفتح المعابر
  • وزير الخارجية: مصر تمد يد العون لغزة.. وعلى إسرائيل رفع الحصار وفتح المعابر
  • استشهاد 21 فلسطينيا بنيران الجيش الإسرائيلي قرب مراكز توزيع المساعدات
  • تصعيد جديد.. الجيش الإسرائيلي يتخذ مقرا له جنوبي سوريا
  • المحتجز الإسرائيلي أفيتار دافيد: لم آكل منذ أيام وأقترب من الموت
  • إيكونوميست: مجاعة غزة كشفت فشل استراتيجية إسرائيل وتحولها إلى دولة منبوذة