لماذا الرعونة المفرطة في أداء السفارات المصرية؟
تاريخ النشر: 27th, August 2025 GMT
ما إن انتهى الشاب المصريّ المقيم في هولندا، أنس حبيب، من وضع الأقفال على باب السفارة المصرية في هولندا؛ حتى رأينا السفارات والقنصليات المصرية في أنحاء العالم تنحدر في أدائها، وتنزلق في ردود أفعالها، وتنغمس بفعالها في لجة من الرعونة والنّزق، وصل الأمر إلى حدّ الاختطاف والتغييب القسريّ داخل مبنى السفارة أو القنصلية.
نقطة نظام قبل الاندفاع للأمام
ليعلم هؤلاء المسئولون ومَن وراءَهم ممن يغترّ بأدائه؛ أنّ التظاهر والاعتصام أمام السفارات والقنصليات، وما يصاحب التظاهر -أو يفترق وينفرد عنه- من أعمال رمزية معبرة، كوضع الأقفال ورفع اللافتات ورسم الرسوم وغير ذلك، كلّ ذلك من قبيل الأنشطة المشروعة التي تعبّر بها الجماهير عن غضبها واعتراضها على أداء الحكومات، ومن الأعمال المشروعة دينا وقانونا وعرفا، وأنّ حرمان الشعوب من أمثال هذه الفعاليات عدوان عليها وتغول على حقوقها، أمّا إلقاء القبض على من يقوم بهذه الأعمال واحتجازه قسريّا فهو عدوان وإجرام قد يصل في شريعة الله إلى مستوى الحرابة التي يكون أحد عناصرها ترويع الآمنين وإخافة السبيل، وفي مواثيق حقوق الإنسان يصل إلى مستوى الإهدار المتعمد والمصادرة الفجة التي تستلزم المحاسبة القانونية، وفي الحسّ الإنسانيّ والعرف البشريّ العام يعدّ بلطجة تستثير حفيظة الشعوب وتحرك غضبها، وليس صحيحا أنّ وضع الأقفال عدوان وتخريب للمؤسسات، وإنّما هو عمل رمزيّ للتعبير عن الرأي.
إلى أيّ سبب يُرَدُّ هذا الارتباك؟
لم تستطع وزارة الخارجية المصرية أن تتعامل بدبلوماسية ناجحة مع أيّ ملفّ من الملفات الثقيلة ذات البعد الاستراتيجيّ المؤثر، بدءا من ملفّ سدّ النهضة، ومرورا بملفات أمن قومي شديدة الخطورة، حيث وقع التفريط في أراض مصرية غاية في الحساسية، وانتهاء بالموقف المريض البغيض المهيض من الحرب الصهيونية الظالمة على غزة، فإلى الآن لم تفلح الخارجية المصريّة في أن يكون لها دور يليق بمكانة مصر في ملفّ طوفان الأقصى وما ترتب عليه من آثار، ولو كانت تعرف حروف الهجاء الأولية للعلاقات الدولية لاستثمرت الأحداث في نقل جميع الملفات المهترئة بين مصر والكيان من منطقة الارتياب والضبابية وغياب العدالة إلى منطقة أكثر وضوحا وشفافية.
فلو لم تمثل لنا حماس إلا مجرد جار لم يقع منه عدوان، ولم تمثل إسرائيل لنا إلا مجرد عدو محتمل في المستقبل -وهذان هما الحدّ الأدنى في تقييم طرفي الصراع المتاخمين لنا- لكان من الواجب انتهاز الفرصة للضغط على الكيان الصهيونيّ؛ من أجل تأمين الحدود بيننا وبين العدو الاستراتيجيّ لمصر وللأمة بأسرها، وكسر كثير من القيود الموضوعة في اتفاقية كامب ديفيد؛ بغرض إحياء سيناء واستثمارها في إحداث نهضة في كل المجالات الزراعية والتعدينية والسياحية وغيرها، ولكان من الواجب دعم المقاومة ولو سرّا؛ لتبقى سدا منيعا وخطّ دفاع متقدم ضدّ أخطر شيء يهدد أمننا القوميّ، ولكان من الممكن فتح المعابر ولو لأوقات يسيرة لدخول قوافل شعبية مصرية؛ لتحقيق أهداف عديدة، منها كسب رضا الشعب والأزهر والمؤسسات الدينية؛ فهذا مما يدعم شرعية النظام ويضمن له بقاء أطول. لكنّ الذي وقع هو إحكام الحصار على الشعب المسلم في غزة، وعدم التحرك ولو بالدبلوماسية تجاه التعدي الصريح من الصهاينة على محور فيلادلفيا.
وفي النهاية عندما يعبر شباب الأمة البسطاء بوسائل سلمية عن غضبهم تجاه هذا الخذلان؛ امتشق فتيان السفارات سيوف الحماقة ورماح النزق والطيش وانطلقوا في الشوارع خلف "شلة" من الشباب الأعزل، فأيّ رعونة هذه؟! إنّ أول ما تختلف فيه وزارة الخارجية عن وزارة الداخلية هو اتسامها باللياقة واللباقة التي غالبا ما تفتقدها أجهزة الداخلية.
أيّهما أقدم وأدوم: المؤسسات أم الأنظمة الحاكمة؟
السفارات والقنصليات من المؤسسات التي تملكها الأمة وتحوزها الشعوب، والمؤسسات ليست هي الحكومات، فالحكومات تتغير وتتبدل، بينما المؤسسات باقية. فإذا كانت المؤسسة في جانب من اهتماماتها خدمية، وإذا كان من مهامها احتضان أبناء بلدها المغتربين وحلّ مشكلاتهم؛ فيجب -على الأقلّ- ألا تناصبهم العداء لمجرد أنّهم في خلاف مع النظام الحاكم. هذا المعنى وهذا المفهوم من الأمور المقطوع بها في عالم السياسة، فلا يصحّ لمن تبوأ منصبا في سفارة أو قنصلية أن يدفعه حرصه على الوظيفة أو خوفه من رؤسائه أن يغمس نفسه في سلسلة من التفاعلات الغبية التي يجمع العقلاء على استهجانها، أم إنّنا أصبحنا في الغربة نتعامل مع أفرع لأجهزة الأمن التي لا تفهم إلا لغة البطش والإرهاب؟
وإذا كان البعض لا يفهم هذا فلا حيلة لنا فيه، لكن يبقى أنّ نهر الخير في الأمة لم يجفّ، وأن ينابيع الفضيلة فيها لم تنضب؛ فليعلم كلّ من يعي هذا الكلام من المسئولين أنّ الظلم عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، وحسبُهُ من الخطر أنّ دعوة المظلوم لا تردّ، وأنّها ستحيق به عاجلا أم آجلا، وحسبُه من التذكير أن يتلو قول الله تعالى: "وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ" (إبراهيم: 42-45).
أمّا أنتم أيها المناضلون فاستمروا في نضالكم؛ فإنّ أول الغيث قطرة، يكون بعدها السيل الهادر، والله معكم ولن يَتِرَكُمْ أعمالكم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المصرية السفارات غزة مصر غزة احتجاج سفارات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کان من
إقرأ أيضاً:
القوة التي تبني ولا تهدم.. من وحي تقرير "عُمان 2040"
سلطان بن سيف السلامي
لا يتم تصنيف الأمم بما لديها من جيوش وأسلحة واقتصاد فقط، بل بمقدار ما تهتم وتنفق على بناء صروح الثقافة كالمكتبات والمتاحف والمسارح والمعامل. يلخص هذا القول جوهر "القوة الناعمة"، وهو المفهوم الذي صاغه أستاذ العلوم السياسية الأمريكي (جوزيف ناي) لوصف قدرة الدولة على الحصول على ما تريد بالجذب والإقناع من خلال ثقافتها وقيمها وسياساتها، بدلًا من الإكراه بالقوة العسكرية أو دفع الأموال.
وفي عصر العولمة والرقمنة، أصبحت القوة الناعمة – ممثلة في الآداب والفنون والعلوم – سلاحًا استراتيجيًا في صياغة صورة الأمم والمنافسة على الخريطة العالمية، وهي ليست ترفًا، بل ركيزة أساسية للتنمية المستدامة وبناء الحضارة.
ولنا في دول الجوار الإقليمي أمثلة عديدة، فإن تحدثنا عن النموذج التركي؛ فالأرقام تشير إلى إنتاج 300 عمل درامي في عام 2024م، حققت عوائد مباشرة تصل لـ 500 مليون دولار أمريكي. هذا فضلا عن الصورة الذهنية التي خضعت للاشتغال الاستراتيجي بترسيخ صورة تركيا ونقل قصتها للعالم والمساهمة في نشر لغتها، الأمر الذي أفرز بدوره تعاطفًا وقبولاً قاد بشكل مباشر لانتعاش اقتصادي في قطاعات عديدة كالسياحة والصناعة ومبيعات الأثاث والأزياء وغيرها.
وعلى المستوى العالمي، تقدم كوريا الجنوبية نموذجًا آخر للتوجه الاستراتيجي بالاستثمار في القوة الناعمة، حيث قررت منذ الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالنمور الآسيوية في نهاية عقد التسعينات أن تحشد جهودها للاستثمار في (الهاليو) أو الموجة الكورية، تجسد في التخطيط لنشر ثقافتها عالميا والمحتوى الإبداعي في مجالات موسيقى الكيبوب والدراما والأفلام والأدب بالإضافة إلى مساهمات في مجالات مثل الأزياء والمطبخ والجمال. وقد أثمرت هذه الاستراتيجية وأتت أكلها عندما فازت الكاتبة الكورية هان كانغ بجائزة نوبل للأدب في عام 2018 ولأول مرة لكاتب كوري، ثم فوز فيلم "Parasite" بعدد من جوائز الأوسكار في عام 2020، وهو ما عزز من صورة كوريا الجنوبية عالميا ورفع جاذبيتها الاقتصادية والسياحية.
في مخيلتي وأنا أكتب هذه السطور، عين على القوة الناعمة ومفاهميها وأدبياتها، وعين على تقرير رؤية 2040 الأخير، حيث يجول في خاطري أن لرؤية عُمان فلسفة بين ثناياها (متى تجمع القلب الذكي وصارما / وأنفا أبيا تجتنبك المظالم) كناية عن التخطيط والتسلح بالأدوات وتأصيل قيمة الكرامة الوطنية، والبيت من المعلقات لعمرو بن براقة.
نستعرض الآن عناصر قوتنا بسرد لطيف سهل ممتنع، قبل أن نلج لتقرير رؤية 2040 الأخير في محور الإنسان والمجتمع وتحديدا أولوية "المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية":
الأدب: ذاكرة الأمة ووعيها:يمثل الأدب – شعرًا ورواية وقصة – سجلا إنسانيا لوعي الأمم، حيث يعبر عن هويتها، ويقدم صورتها، ويحفظ تاريخها، وينقد واقعها، ويرسم مستقبلها. وكما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: "إن الحضارة تبدأ بالفكرة، ثم تتحول إلى أخلاق، ثم إلى منتجات مادية". والأدب في فلسفته وماهيته هو الحاضن الأول للفكرة، فهو يغرس القيم ويرسخ عناصر الهوية، ويحفز الحس النقدي، ويساهم في تشكيل الوعي الجمعي. وهنا استذكر وأقف بكل احترام وتقدير لعدد من المبدعين العُمانيين كبشرى خلفان وجوخة الحارثي ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وعائشة السيفي وبدرية البدري وحسن المطروشي الذين بجهدهم وجديتهم صعدوا على منابر التكريم على المستوى العربي والعالمي، وما ذلك إلا حصاد مبادرات داعمة ووعي ترسخ وهمم شحذت فنالت ما تستحق.
الفنون: لغة الإنسان العالمية:الفنون بكل صنوفها (التشكيلية والنحت والموسيقى والمسرح والسينما وغيرها) لغة تتخطى حواجز اللهجة والثقافة. هي مرآة تعكس روح المجتمع وجمالياته وأداة فاعلة في تعزيز التسامح والحوار بين الثقافات. الفنان هو السفير غير الرسمي لبلده وثقافته، هو الناقل الرصين الذي يقدم صورة عنها تلامس المشاعر الإنسانية المشتركة قبل العقول.
العلوم: منارة التقدم والمنطق:
لطالما كانت الإنجازات العلمية والبحثية مصدر فخر واعتزاز وطني ومقياس تقدم الأمم ورقيها قبل أن تتحول لمنتجات وخدمات محركة للاقتصاد. فالمجتمع الذي ينتج المعرفة ويبتكر في التكنولوجيا والطب والفيزياء، يرسخ صورته كمجتمع منفتح، عقلاني، وقادر على الإسهام في رفاهية البشرية. وحتى نزيل الازدواجية فغالبا تأتي أنشطة وبرامج العلوم تحت أولوية "التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية" إلا إذا أخذنا الأمر في سياقاته الاجتماعية المرتبطة بتعزيز الهوية والترابط الأسري والمجتمعي، وكما يشير تقرير "رؤية عُمان 2040" نفسه، فإن أحد الأهداف الاستراتيجية لأولوية المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية هو "مجتمع متمكن من تقييم المعرفة ونقدها وتوظيفها وإنتاجها ونشرها"
عُمان والاستثمار في القوة الناعمة: إنجازات وتحديات
يقدم تقرير متابعة رؤية عُمان 2040 (أكتوبر 2025) لوحة واضحة عن الجهود العُمانية في تعزيز هذه الأولوية:
الإنجازات المشرفة:
التميز في التراث الثقافي: على سبيل المثال لا الحصر إدراج 17 عنصرًا في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو، وإدراج برنامج "سفينة شباب عُمان" للحوار الثقافي في قائمة أفضل الممارسات. هذا إنجاز دبلوماسي ثقافي يضع عُمان على خريطة التراث الإنساني العالمي. النشاط الثقافي الملموس: واسطة العقد في نشاط عُمان الثقافي يتمثل في عرس معرض مسقط الدولي للكتاب كفعالية سنوية مستديمة، تستقطب مئات الآلاف من الزوار، وترسم لوحة مميزة عن اشتغال ثقافي مجتمعي، إضافة لإنتاج عشرات الكتب التي تصدر سنويا للكتاب العُمانيين في شتى صنوف المعرفة، ثم تأتي قناة تلفزيون عُمان الثقافية والبرامج الإذاعية التي يقدمها نخبة من المثقفين العُمانيين الحالمين بوعي، وهناك برامج النادي الثقافي ومناشطه المتعددة سنويا، وجمعية الكتاب والأدباء وجمعية المسرح وفروع هذه الجمعيات في مختلف المحافظات، وربما من الضرورة الالتفات للمبادرات الفردية الرصينة التي نقف أمامها احتراما وتقديرا، من بينها دار الندوة في بهلا ودار عرب للنشر ومكتبة قراء المعرفة التي يستظل مدخلها غافة يانعة كقلوب القائمين عليها، وغير ذلك الكثير من المبادرات، ثم هناك المشروع الحلم المتمثل في إنشاء المكتبة الوطنية والمسرح الوطني ضمن "مجمع عُمان الثقافي" كأبرز علامات النهضة المتجددة. هذا الزخم المشهود من الفعاليات والبرامج والمشاريع يحول الثقافة من مفهوم نظري إلى واقع ملموس يحفز الاقتصاد الإبداعي. الوثائق والمخطوطات: توثيق آلاف المخطوطات والقطع الأثرية هو جهد جبار للحفاظ على الذاكرة الوطنية، يمثل في رأيي أساس رصين لأي إبداع مستقبلي، إلا أن هذا مشروط أيضا بتقديم هذه المخطوطات بطرق تفاعلية وعصرية جاذبة للأجيال الحديثة.الطريق ليس مفروشًا بالورود
ورغم كل ما سبق من إنجازات ذكرها التقرير؛ إلا أن الطريق ليس مفروشا بالورود كما قد نتخيل، فلكل اشتغال تحدياته وعقباته التي تأتي كنتيجة طبيعية لفعل الاشتغال نفسه، وهو ما يمثل فرصة لتعديل المسار بين الحين والآخر، يحفز وينبه السائر ليكون على هدى. فقد جاء في التقرير ما هو بحاجة للتأمل بداية ثم استشراف الحلول في:
مؤشر رأس المال الاجتماعي: يشير التقرير إلى أن مؤشر (ليغاتم للازدهار - ركيزة رأس المال الاجتماعي) لا يزال بحاجة إلى تحسين، مما ينبه إلى ضرورة تعزيز الثقة والنسيج الاجتماعي، وهي بيئة خصبة لنمو القوة الناعمة. إلا أن هذا المؤشر (ليغاتم) بحاجة للمراجعة، حيث إنه- كما جاء في التقرير- يضيف بين فترة وأخرى مكونات تعنى بالتسامح الاجتماعي، وهو ما قد يصطدم مع القيم العُمانية ذات المرجعية الإسلامية، كل هذا مفهوم، لذا يمكن النظر في اعتماد مؤشرات بديلة تراعي الخصوصيات الثقافية والدينة للمجتمع، مثل مؤشر الجودة الوطنية ومؤشرات التنمية المستدامة التي تركز غالبا على التوازن دون فرض مؤشرات قيمية محددة، كما أنه قد يشجعنا ذلك على تطوير مؤشرات محلية تتوافق مع القيم المجتمعية، مع الحفاظ على معايير القياس الموضوعية. الاقتصاد الإبداعي: برغم الإنجازات المذكورة، تبقى فرص تحويل التراث والثقافة إلى صناعات إبداعية مستدامة كتوظيف المباني التراثية لتصبح وجهات جاذبة وفاعلة وتوظف الذكاء الاصطناعي في ذلك، ودعم جهود السينما والألعاب الرقمية والتطبيقات التفاعلية وغيرها، بما يمثل فرصا ومجالات واسعة للاستثمار. كما نؤكد هنا على ضرورة تضمين المناهج الدراسية ومساقات التعليم العالي للاقتصاد الإبداعي. التكامل بين بعض أولويات الرؤية: لا تزال هناك فجوة بين منظومة البحث العلمي والمنظومة الاقتصادية، كما يذكر التقرير، وهو ما ينطبق على ضرورة ربط مخرجات الثقافة والعلوم بقطاعات الاقتصاد والسياحة.توصيات استشرافية: من التراث إلى المستقبل
لتحويل القوة الناعمة إلى محرك ريادي حقيقي، يمكن التركيز على:
دعم الصناعات الثقافية والإبداعية: كما جاء سابقا، نؤكد على ضرورة تحويل التراث من مادة للحفظ إلى مادة للإبداع. إضافة لدعم إنتاج أفلام وثائقية وروائية مستوحاة من التاريخ العُماني، وتطوير ألعاب فيديو تعليمية، وتصميم منتجات سياحية مبتكرة قائمة على القصص التراثية. وهذا في حد ذاته سيمثل أداة فاعلة في تعزيز الهوية لدى الأجيال بطرق جاذبة تتماشى مع روح العصر. تعزيز الترجمة: إنشاء برنامج وطني طموح لترجمة الإبداع العُماني أدبًا وأبحاثًا إلى لغات عالمية، وهو جسر أساسي لتوسيع دائرة التأثير والجذب. الاستثمار في الفنون البصرية والأدائية: دعم صناعة المسرح والفنون التشكيلية وغيرها من الفنون، وربطها بمنظومة التعليم، وتعزيز برامج جوائز الإبداع الفني الشبابي. ربط العلوم بالمجتمع: تبسيط ونشر الإنجازات العلمية للباحثين العُمانيين عبر منصات جذابة (مثل البودكاست والرسوم المتحركة ومجلات متخصصة للأطفال)، لتعزيز الفخر الوطني وترسيخ ثقافة العلم. الشراكات الدولية الاستراتيجية: رفع موازنات الترويج لتعزيز وجود عُمان في المعارض الفنية العالمية، والمهرجانات السينمائية، والمؤتمرات العلمية، والمعارض السياحية كجزء من استراتيجية دبلوماسية ثقافية طموحة.الهوية كمنصة انطلاق لا كسقف للإغلاق
القوة الناعمة كما جاء في مقدمة المقال ليست ترفًا نخبويًا، بل هي استثمار في رأس المال البشري والرمزي للأمة. هذه القوة هي التي بدورها تجعل من الهوية منصة انطلاق نحو العالم، لا سقفًا للانغلاق على الذات. وكما أن الإنجازات التي ذكرها تقرير الرؤية هي لبنات صلدة على هذا الطريق إلا أن المطلوب اليوم هو تحويل هذا الزخم إلى استراتيجية شاملة تجعل من الأدب والفنون والعلوم أدوات فاعلة في بناء الإنسان العُماني المعتز بتراثه، الواثق من هويته، والقادر على الإسهام في الحضارة الإنسانية. لأن الأمة التي تخلق جمالًا ومعرفة، هي الأمة التي تستحق الخلود.
**************
المراجع:
Nye, Joseph S. (2004). Soft Power: The Means to Success in World Politics. بن نبي، مالك (1972) شروط النهضة. تقرير متابعة رؤية عُمان 2040 (أكتوبر 2025) – وحدة متابعة تنفيذ رؤية عُمان 2040. اليونسكو – قوائم التراث الثقافي غير المادي.
** باحث في الاقتصاد والاستدامة
** مؤلف كتاب "اقتصاد المياه في سلطنة عُمان ودوره في تعزيز الأمن الغذائي"