صورة بكين.. ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب
تاريخ النشر: 4th, September 2025 GMT
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه خطوط الجغرافيا والسياسة، يتبدّى للعالم مشهد يختزل تحوّلًا تاريخيًا. لم يعد الأمر مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل صورة مكثّفة تختصر مسارًا دوليًا جديدًا يفرض نفسه على قواعد اللعبة القديمة.
أربعة زعماء في قلب بكين: شي جين بينج، فلاديمير بوتين، كيم جونغ أون، ومسعود بزشكيان.
الصورة تبدو كأنها لوحة تأسيسية لنظام عالمي آخر، نظام يتحدى إرث الهيمنة الغربية، ويعيد توزيع مراكز القوة، ويفتح الطريق أمام عالم متعدد الأقطاب.
الصين في مركز العالموقوف الرئيس الصيني في المنتصف، بزيه الرمادي البسيط، لم يكن تفصيلًا بروتوكوليًا، بل إعلانًا رمزيًا بأن بكين لم تعد مجرد «مصنع العالم»، بل صارت مركزًا قياديًا يرسم خرائط المستقبل.
الصين اليوم تتجاوز الاقتصاد إلى الجيوسياسة، تؤسس لشراكات استراتيجية، وتنسج تحالفات تتحدى نموذج الهيمنة الأحادية الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة.
جناحا الردعإلى جانبه يقف بوتين وكيم جونغ أون، أحدهما غارق في حرب أوكرانيا التي صارت ساحة استنزاف للقوة الغربية، والآخر محاصر بالعقوبات لكنه يملك مفاتيح الردع النووي.
وجودهما ليس ديكورًا سياسيًا، بل تثبيت لتحالف يستند إلى قوة الردع وشرعية المقاومة في وجه الضغوط الأميركية والأوروبية.
إيران في الصف الأماميأما الظهور الإيراني خلف بوتين، فليس تفصيلًا ثانويًا، بل إشارة إلى أنّ طهران باتت جزءًا من المعادلة الجديدة. من خلال قمة شنغهاي ودعم الصين لحقها النووي السلمي، تدخل إيران إلى المشهد كصوت إضافي ضمن الاصطفاف الشرقي، وتكسب شرعية رمزية في مواجهة محاولات العزل الغربية.
من الأحادية إلى التعدديةهنا يكتمل المشهد: لا وجود لأي زعيم غربي، ولا محاولة لفرض حضورهم على المسرح. إنها رسالة صامتة بأن زمن الأحادية القطبية قد انتهى، وأنّ التعددية الشرقية في طور التبلور. لحظة تؤسس لسردية جديدة تمتد من موسكو إلى طهران، ومن بيونغ يانغ إلى بكين.
أين العرب من هذه الصورة؟يبقى السؤال المؤلم: في خضم هذا التحول، أين يقف العرب؟
هل نكتفي بموقع المتفرّج الذي يقرأ الصور في الصحف، أم نملك القدرة على تموضعٍ استراتيجي يحمينا من أن نكون مجرد أوراقٍ في صراع الكبار؟
العالم يعيد رسم خرائطه، بينما تظل منطقتنا ممزقة بين تحالفات متناقضة، تارة تبحث عن حماية أميركية، وتارة تتطلّع نحو الشرق.
في سوريا: كل قوة إقليمية أو دولية تحاول أن ترسم وجودها على الجغرافيا السورية، بين نفوذ روسي وإيراني، وظل أميركي-تركي، وصمت عربي لا يملك سوى مراقبة الخرائط وهي تُعاد صياغتها.
في غزة: الحرب تفتح جرحًا إنسانيًا وسياسيًا على حد سواء، كاشفة هشاشة الموقف العربي في ظل غياب مشروع استراتيجي جامع. ما يجري هناك ليس مجرد صراع محلي، بل اختبار حقيقي لموقع العرب في معادلة الصراع بين الغرب والشرق.
في غاز شرق المتوسط: تحوّل إلى ساحة سباق كبرى بين أوروبا الباحثة عن بدائل للطاقة الروسية، وتركيا الطامحة لفرض دورها، وإسرائيل التي تسعى لتثبيت موقعها كلاعب إقليمي. بينما يقف العرب في موقع المتردد، منقسمين بين مصالح متضاربة ورؤى قصيرة المدى.
نداء للعربإنّ صورة بكين ليست مجرد مشهد سياسي، بل مرآة كاشفة لزمنٍ يتشكل أمام أعيننا. فيها تتقاطع الجغرافيا مع الفلسفة، والرمزية مع القوة الصلبة. إنها صورة تقول ببساطة: «العالم لم يعد كما كان».
لكن الأهم من ذلك: كيف سنقرأ نحن العرب هذه الصورة؟
هل نملك شجاعة الانتقال من الهامش إلى المركز، أم سنظل خارج إطار الكاميرا، نكتفي بالتعليق بينما تُعاد صياغة التاريخ دوننا؟
إنها دعوة صريحة للقيادة العربية أن تدرك أنّ اللحظة تاريخية، وأنّ الفرصة قائمة للتموضع في قلب عالم متعدد الأقطاب، بدل أن نُترك أسرى لخيارات الآخرين.
ومع ذلك، يظل السؤال العميق مطروحًا:
أليست أميركا والغرب ما زالت مفاصل اللعبة في أيديهم؟
اقرأ أيضاًتواصل توافد رؤساء العالم إلى بكين لحضور فعاليات إحياء الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية
بكين: سيادة الصين على تايوان نتاج الانتصار في الحرب العالمية الثانية وتؤكدها الوثائق
وول ستريت جورنال: الاقتصاد الصيني يُظهر علامات تباطؤ.. وبكين تعاني من زيادة الضغوط
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: إسرائيل سوريا فلاديمير بوتين إيران بكين الرئيس الصيني غزة شي جين بينغ مسعود بزشكيان الهيمنة الغربية الجغرافيا السورية
إقرأ أيضاً:
الصين تؤكد هيمنتها على الصادرات بفائض تجاري يتجاوز تريليون دولار
تقول صحيفة "وول ستريت جورنال" إن الفائض التجاري للصين في تجارة السلع تجاوز هذا العام، وللمرة الأولى في التاريخ الاقتصادي المسجل، حاجز التريليون دولار، في علامة جديدة على "الهيمنة" التي باتت تتمتع بها بكين في كل شيء، من السيارات الكهربائية المتقدمة إلى القمصان منخفضة الكلفة.
وبحسب بيانات الإدارة العامة للجمارك في الصين، التي أوردتها الصحيفة، بلغت الصادرات الصينية في الـ11 شهرا الأولى من العام 3.4 تريليونات دولار، بزيادة نسبتها 5.4% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بينما تراجعت الواردات 0.6% إلى نحو 2.3 تريليون دولار، ليصل الفائض إلى 1.08 تريليون دولار.
وترى الصحيفة أن هذا الرقم "الاستثنائي" هو حصيلة عقود من "السياسات الصناعية" والعمل البشري المكثّف، التي نقلت الصين من اقتصاد زراعي فقير في أواخر سبعينيات القرن الماضي إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، قبل أن تتحول من "مصنع العالم" للسلع الرخيصة إلى لاعب مهيمن في سلاسل الإمداد العالمية لقطاعات التكنولوجيا والنقل والدواء والسلع الاستهلاكية.
الهيمنة على عديد المجالاتوتشير "وول ستريت جورنال" إلى أن الصين بدأت تثبيت موقعها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي كمنتِج لسلع بسيطة مثل "الباروكات والأحذية الرياضية وأضواء عيد الميلاد"، وهو ما منحها لقب "أرضية المصنع العالمي". لكن التقرير يؤكد أن ذلك "لم يكن سوى البداية"، إذ صعدت بكين منذ ذلك الحين تدريجيا على "سلم القيمة المضافة" إلى منتجات أكثر تعقدا وربحية.
وتوضح الصحيفة أن شركات صينية رائدة أصبحت اليوم لاعبا مهيمنا في الألواح الشمسية، والسيارات الكهربائية، وأشباه الموصلات المستخدمة في الأجهزة المنزلية اليومية، لدرجة أن الصين "جعلت نفسها ترسًا لا غنى عنه" في سلاسل الإمداد العالمية.
وعلى الرغم من الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضتها أميركا، تقول "وول ستريت جورنال" إن الصادرات الصينية تواصل الارتفاع. فبعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، "لم يُضع وقتا" قبل أن يعيد رفع الرسوم على الواردات الصينية، لتتجاوز في بعض الحالات 100%، قبل أن يجري خفضها لاحقا، لكنها لا تزال عند متوسط يقارب 37% على السلع الصينية، وفقًا لمركز "أوربان-بروكينغز" للسياسات الضريبية، كما تنقل الصحيفة.
إعلانومع ذلك، تبيّن الأرقام التي أوردتها "وول ستريت جورنال" أن بكين نجحت في "إعادة توجيه" جزء كبير من تجارتها إلى أسواق أخرى؛ إذ قفزت الصادرات الصينية إلى أفريقيا بنسبة 26%، وإلى جنوب شرق آسيا بنسبة 14%، وإلى أميركا اللاتينية بنسبة 7.1% منذ بداية العام.
في المقابل، تراجعت الصادرات الصينية إلى أميركا في نوفمبر/تشرين الثاني بنسبة 29% على أساس سنوي، بينما ارتفعت الصادرات الإجمالية للصين إلى العالم بنسبة 5.9% في الشهر نفسه، مدفوعة بزيادة قدرها 15% في الشحنات إلى الاتحاد الأوروبي، و8.2% إلى دول جنوب شرق آسيا، بحسب الصحيفة.
قلق أوروبي متصاعدوبحسب تحليل لمصرف "مورغان ستانلي" أوردته الصحيفة، لا يتوقع اقتصاديون كبار أن يتباطأ زخم التجارة الصينية بشكل جوهري في المدى المنظور، رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية ومحاولات بعض الاقتصادات "تنويع" سلاسل الإمداد بعيدا عن الصين.
وتقول "وول ستريت جورنال" إن خبراء "مورغان ستانلي" يتوقعون أن ترتفع حصة الصين من صادرات السلع العالمية إلى نحو 16.5% بنهاية العقد، مقارنة بنحو 15% حاليا، مدفوعة بتقدمها في "التصنيع المتقدم". ويصف التقرير رؤية المصرف لهذه المرحلة بقدرة الصين على "استباق اتجاهات الطلب العالمي المتغيرة واستعدادها لتعبئة الموارد لبناء قدرات إنتاجية جديدة".
لكن هذه الديناميكية تثير "إنذارات" متزايدة حول العالم، ولا سيما في أوروبا، وتنقل الصحيفة عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي عاد لتوه من قمة استمرت 3 أيام مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين وتشنغدو، قوله إنه حذّر بكين من أن أوروبا قد تُضطر إلى اتخاذ إجراءات إذا لم تتحرك الصين لتقليص اختلال الميزان التجاري.
وقال ماكرون، في مقابلة مع صحيفة "لو زيكو" الفرنسية نقلتها "وول ستريت جورنال": "قلت لهم إنه إذا لم يتحركوا، فسنُجبَر نحن الأوروبيين، في المستقبل القريب، على اتخاذ إجراءات قوية والانسحاب من التعاون، على غرار الولايات المتحدة، مثل فرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية".
وأضاف أن "الصين تضرب قلب النموذج الصناعي والابتكاري الأوروبي"، مشيرا إلى تراجع سعر اليوان بنحو 10% أمام اليورو هذا العام، وهو ما يعتبره مسؤولون فرنسيون عاملا إضافيا يفاقم اختلال التنافسية.
وعلى الجانب الآخر من المعادلة، تلفت "وول ستريت جورنال" إلى أن فائض الصين التجاري بات مصدر قلق متزايد لغرف التجارة الغربية. وتنقل الصحيفة عن ينس إسكلوند، رئيس غرفة التجارة التابعة للاتحاد الأوروبي في الصين، قوله إن حجم الفائض "كبير إلى درجة أنه من الواضح أن المسألة لا تخص الولايات المتحدة أو أوروبا وحدهما، بل العالم بأسره الذي سيتعين عليه تمويل هذه الفجوة".
ويشير إسكلوند، وفقا لما أورده التقرير، إلى أن سلسلة من الشكاوى والإجراءات التجارية ثنائية الجانب ضد الصين باتت تأتي ليس فقط من أميركا وحلفائها الغربيين، بل أيضا من دول في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
ويضيف "لا شك لدي أننا سنرى المزيد، لا أقل، من مبادرات الدفاع التجاري في أنحاء العالم كافة"، في إشارة إلى الرسوم الحمائية والتحقيقات في قضايا الإغراق والدعم الحكومي.
وتوضح "وول ستريت جورنال" نقلا عن إسكلوند أن اختلال ميزان التجارة مع الصين قد يكون أكبر حتى مما تعكسه الأرقام الاسمية.
إعلانفعلى مستوى القيمة، تمثل الصين نحو 15% من صادرات السلع العالمية، لكن في حجم الشحنات، يقدّر المسؤول الأوروبي أن كل حاوية تغادر أوروبا إلى الصين تقابلها 4 حاويات متجهة في الاتجاه المعاكس، ما يعني أن الصين تستحوذ، بحسب تقديره، على حوالي 37% من كل ما يُصدَّر في حاويات شحن حول العالم.
ويخلص إسكلوند، كما تنقل الصحيفة، إلى أن "حالة القلق تتزايد"، محذرا من أننا قد نصل في المستقبل القريب إلى "نقطة تنكسر فيها الأمور"، إذا لم تُعالَج هذه الاختلالات عبر سياسات أكثر توازنا في التجارة العالمية، في وقت تواصل فيه الصين تعزيز موقعها كقوة تصديرية كبرى بفائض يتجاوز تريليون دولار لأول مرة في التاريخ.