كييف- رغم جهود أميركية كبيرة وعلى أعلى مستوى لإنهائها، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا تزداد سخونة يوما بعد آخر، وأهداف هجمات موسكو الأخيرة تزداد اتساعا وثمنا ومعنى.

فإلى جانب المواقع العسكرية والمباني السكنية ومنشآت البنى التحتية، شملت عمليات القصف خلال الأسبوعين الماضيين محطات للطاقة في شتى المقاطعات، وخطوطا ومحطات للسكك الحديدية.

كما استهدف القصف واحدا من أهم جسور البلاد وأكثرها حيوية على نهر دنيبرو الذي يقسم البلاد بين شرق وغرب، وهو جسر كريوكوفسكي في مدينة كريمنتشوك بمقاطعة بولتافا وسط أوكرانيا؛ بعد استهداف جسر آخر على النهر ذاته، أدى إلى تقطيع أوصال مدينة خيرسون جنوبا.

رسائل روسية

وكان تعرضُ مجلس الوزراء الأوكراني للقصف أيضا، الأحد الماضي، سابقة لم تحدث منذ بداية الحرب في فبراير/شباط 2022.

وسواء في داخل أوكرانيا أو خارجها، يكاد يجمع المراقبون على أن كم ونوع الضربات الروسية الأخيرة يحمل -دون شك- رسائل إلى كييف، وللعالم الغربي الداعم لها.

من جانبه، قال أوليكساندر كوفالينكو الخبير العسكري في "مركز مكافحة التضليل الإعلامي" للجزيرة نت إن رسالة موسكو للغرب أنها لا تأبه بالعقوبات والضغوط ودعوات السلام، وأن مساعداته لكييف لن تمنعها عن المضي بالحرب حتى تحقيق أهدافها، وعلى رأسها السيطرة على كل أوكرانيا، أو أكبر مساحة ممكنة فيها، "سواء قبلوا بذلك أم لا".

وفيما يخص كييف، أضاف كوفالينكو "أثناء الحروب والصراعات هناك دائما محرمات غير معلنة في المواجهة، ومن بينها القضاء على كبار مسؤولي الدولة الذين قد يشاركون في تسوية النزاع، أو الذين يضيفون الشرعية على استسلام أحد الأطراف. أحيانا يتم تجاهلها، ولكن بشكل عام، نرى أنه منذ العام 2022، لم يستهدف الروس في أوكرانيا مبنى البرلمان أو مجلس الوزراء أو الرئاسة".

إعلان

ويقرأ الخبير العسكري هجمة ليلة الأحد الماضي كتخلٍ روسي رسمي عن تلك المحرمات، وتلميح "لا لبس فيه" بأنه إذا واصلت أوكرانيا تجاهل الإنذارات الروسية، فسيتوسع نطاق الاستهداف ليشمل مباني صنع القرار أو حتى قادتها.

سفيتلانا فودولاها: القصف الواسع على كييف يحدث للمرة الثانية منذ بداية الشهر (الجزيرة)اختراق كبير

ويبدو أن موسكو حققت باستهداف مبنى رئاسة الوزراء اختراقا كبيرا بات حديث الناس، خاصة أنه يقع في "الحي الحكومي" قريبا جدا من مبنى البرلمان والرئاسة، وفي كييف الأكثر تحصينا بالدفاعات الجوية.

ويقول الخبير العسكري فلاديسلاف سيليزنيوف للجزيرة نت "بالطبع، تتركز أعداد كبيرة من أنظمة الدفاع الجوي في العاصمة الأوكرانية وحولها، لكن هذا لا يعني نجاح الحماية بنسبة 100%". ويضيف أن روسيا حققت هذه النتيجة بسبب كثافة استخدام المسيّرات (أكثر من 800 معا) وأنها مشكلة قد تتكرر، ويعتقد أن على كييف أن تكون في حالة تأهب دائمة.

وانطلاقا من هذا الواقع، يرى أوكرانيون أن قصف مبنى الحكومة ما هو إلا حلقة جديدة في سلسلة تصعيد بدأته موسكو منذ فترة، وتأتي فيها الأهداف بالتناوب.

من جهتها، قالت سفيتلانا فودولاها رئيسة دائرة الاتصالات في هيئة الطوارئ الأوكرانية للجزيرة نت إن "القصف الواسع على كييف يحدث للمرة الثانية منذ بداية الشهر. يقصفون المباني السكنية دون غيرها. لا يمكن تفسير ذلك إلا بكونه إرهابا روسيا لكسر الأوكرانيين وإرهاقهم معنويا".

ويؤكد الخبير العسكري أوليكساندر موسينكو للجزيرة نت أن روسيا "تتعمد" ضرب المدن الكبيرة بشكل كبير ومكثف، مدركة أن هذا سيؤدي إلى الدمار والخسائر في صفوف المدنيين وإرهابهم و"نشر الخوف مهمة يمارسها الروس دائما وفي كل مرة".

ويضيف "عسكريا، ضرباتهم تنتقل من هدف إلى آخر بحسب المرحلة والحاجة. رأينا كيف ركزوا فترة على مرافق الطاقة والخدمات اللوجستية والبنية التحتية الحيوية والنقل، ثم تحولوا في هجمات لاحقة نحو سكك الحديد؛ والآن يستهدفون الجسور الهامة لعرقلة الإمدادات، وربما يتكرر القصف على المباني الحكومية إذا تعثرت تماما جهود الحل".

السلام بعيد

ويلفت الخبير موسينكو إلى أن السكك الحديدية تنقل نصيب الأسد من البضائع العسكرية، "وليس لدينا الكثير من الجسور عبر نهر دنيبرو. لذلك، فإن الدمار الكبير يخلق مشاكل خطيرة لنا في الخدمات اللوجستية من الضفة الغربية إلى الشرقية".

ووفقا له، فإن كل هجوم جديد يختلف عن سابقه بكم الأهداف الجوية وأنواعها وسرعتها وارتفاعها ومساراتها الملتفة والملتوية، وأصبح من الصعب مواجهة مسيّرات "شاهد" بعد أن زودت نسبة منها بمحركات صاروخية.

وعلى خلفية هذه التطورات و"التكتيكات" الجديدة، يرى كثيرون أن فرص إنهاء الحرب تتبخر، وأن الكلمة الفصل لن تكون قريبا إلا لقوة السلاح.

من وجهة نظر الخبير العسكري سيليزنيوف، "ربما يرسم شخص ما في الكرملين بعض السيناريوهات أن مثل هذه الضربات ستؤدي إلى شيء ما، أو تصبح إشارة إلى شيء ما. حربنا معهم مفتوحة على كل الاحتمالات، والرد بالمثل خيار وارد في كل مرة".

إعلان

انطلاقا من هذا المنطق، يقول الخبير العسكري "لا أؤمن بسلام مع الروس يأتي بالدبلوماسية. ما حدث مؤشر على أن أفق السلام بعيد، وجهود الحل الراهنة لا تؤدي إلى نتيجة؛ وأننا نقف أمام مزيد من التصعيد المتبادل، والإجراءات الغربية ضد موسكو".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات الخبیر العسکری للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

لماذا أصبح استشراف الغد ضرورة حيوية لكل قائد؟

 

 

د. علي بن حمدان بن محمد البلوشي **

في عالم تتسارع فيه التغيرات وتتزايد فيه التحديات، أصبح استشراف المستقبل ضرورة ملحّة لكل قائد يسعى لاتخاذ قرارات رشيدة تحمي منظمته وتضمن لها البقاء في بيئة مليئة بالتحولات؛ فالممارسات التقليدية وردود الأفعال الآنية لم تعد قادرة على مواجهة واقع تتحرك فيه التقنية، والاقتصاد، والمجتمع، والسياسة بوتيرة تفوق قدرة المؤسسات غير المستعدة على التكيف.

ولا شك أن وجود رؤية مستقبلية واضحة يمكّن متخذ القرار من فهم الاتجاهات القادمة، واستيعاب الفرص الكامنة، والاستعداد للمخاطر المحتملة، بما يضمن استمرارية النمو والتطور على مدى السنوات المقبلة.

ويُعد استشراف المستقبل عملية علمية لا تسعى لمعرفة الغيب؛ بل تعتمد على تحليل الاتجاهات ودراسة الأنماط وبناء سيناريوهات متعددة تساعد في توجيه القرارات. ومن دون هذا الوعي تصبح القرارات قصيرة المدى ومبنية على ردود فعل سريعة قد تُعرّض المؤسسات أو الدول لمفاجآت غير محسوبة. أما حين تمتلك المنظمة تصورًا مستقبليًا، فإنها تصبح أكثر قدرة على توقع التحديات وبناء استعداد مبكر للتعامل معها، بل وتحويل ما قد يبدو خطرًا إلى فرصة استراتيجية.

وعند النظر إلى القطاعات الحيوية في سلطنة عُمان، نجد أن الحاجة إلى الاستشراف تختلف باختلاف طبيعة كل قطاع، إلّا أن بعض القطاعات تبرز بوضوح بوصفها الأكثر حاجة إلى رؤية مستقبلية معمقة. اقتصاديًا، يبدو قطاع الطاقة محوريًا، إذ يشهد العالم تحولًا متسارعًا نحو الطاقة المتجددة والحياد الكربوني؛ مما يجعل من الضروري بالنسبة للسلطنة التخطيط لتنويع مصادر الدخل والاستثمار في اقتصاد أخضر يتسق مع مستهدفات رؤية "عُمان 2040". اجتماعيًا، يتصدر قطاع التعليم قائمة القطاعات التي لا تحتمل غياب الاستشراف، نظرًا لدوره في تشكيل مهارات الأجيال القادمة، وفي ظل التحولات السريعة في سوق العمل وظهور مهن جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والابتكار والريادة، يصبح تطوير المناهج وبناء قدرات الطلاب أمرًا مصيريًا.

ومن زاوية أخرى، يُمثِّل الأمن الغذائي والمائي أحد أبرز التحديات في ظل التغيرات المناخية والاعتماد الكبير على واردات الغذاء من الخارج، ما يجعل امتلاك رؤية مستقبلية ضرورة لضمان استدامة الموارد الحيوية وتعزيز القدرة الوطنية على مواجهة الأزمات. تقنيًا، يأتي التحول الرقمي في مقدمة القطاعات التي تتطلب استشرافًا عميقًا؛ فالتطور المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني يفرض على المؤسسات التخطيط المسبق لتطوير بنيتها الرقمية وبناء كفاءات وطنية قادرة على التعامل مع هذا التغيير المستمر. وتنمو أهمية قطاع اللوجستيات والتنقل أيضًا، بوصفه محورًا تنمويًا تسعى السلطنة من خلاله إلى تحقيق مكانة متقدمة كمركز لوجستي عالمي، وهو قطاع يتأثر بشكل مباشر بالتقنيات الحديثة مثل الطائرات الذاتية والموانئ الذكية والمركبات الكهربائية، مما يجعل الاستشراف ركيزة لتعزيز تنافسيته الدولية.

وتتنوع مقاربات الاستشراف تبعًا لطبيعة الموضوع والسياق؛ فهناك المقاربة الاستكشافية التي تنطلق من الحاضر نحو المستقبل اعتمادًا على الاتجاهات الحالية، والمقاربة المعيارية التي تبدأ من مستقبل مرغوب وتبني خارطة الطريق المؤدية إليه؛ والمقاربة التحويلية التي تسعى لإحداث تغيير جذري يعيد تشكيل المستقبل بأكمله. إلّا أن المقاربة الأكثر ملاءمة لزمننا الراهن، بكل ما يحمله من تسارع وتقلب، هي المقاربة التكيفية التي تركز على المرونة وقدرة المؤسسات على تعديل مسارها وفق المستجدات، وهو ما يمثل ضرورة في عالم رقمي سريع التحول.

ومن الأدوات الأكثر انتشارًا وفعالية في هذا المجال منهجية بناء السيناريوهات المستقبلية، التي تهدف إلى رسم صور متعددة لمستقبلات ممكنة، وتساعد القادة على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا. تبدأ هذه المنهجية بتحليل القوى المؤثرة، ثم تحديد العوامل غير المؤكدة التي يمكن أن تغير مستقبل القطاع، يلي ذلك بناء سيناريوهات مختلفة وتحليل آثار كل منها. وإذا طُلب تصور مستقبل التعليم خلال السنوات العشر القادمة، فإن العامل الأكثر تأثيرًا بلا شك سيكون التطور التقني، لما له من دور في إعادة تشكيل طرق التعلم ودور المعلم والمهارات المطلوبة لسوق العمل.

ولا يكتمل الاستشراف دون إشراك الخبراء وأصحاب المصلحة؛ فطُرق مثل دلفي، والمقابلات المتعمقة، وورش المستقبل تسهم في الوصول إلى رؤى أكثر دقة، بينما تعزز المنهجيات التشاركية مشاركة الموظفين والمجتمع في صياغة الرؤية، مما يزيد من مستوى الالتزام ويسهم في خلق شعور بالمسؤولية تجاه المستقبل المراد تحقيقه. فالموظف الذي يشارك في تصميم مستقبل منظمته يكون أكثر قدرة على فهم القرارات وأكثر حرصًا على تنفيذها.

ولأن الاستشراف لم يعد نشاطًا بحثيًا معزولًا؛ بل أصبح سياسة وطنية، فقد بات ضروريًا أن تبني الدول رؤى طويلة المدى توجه خطط التنمية لعقود. فالرؤية الوطنية توفر إطارًا مستقرًا لاتخاذ القرارات، وتساعد على توقع التحديات، وضمان استدامة التنمية، وجذب الاستثمارات، وتنسيق الجهود بين القطاعات. وهي أيضًا وسيلة لحفظ التوازن بين احتياجات الحاضر ومتطلبات المستقبل، بما يضمن نموًا متواصلًا لا يتأثر بتغير الظروف.

إنَّ استشراف المستقبل مهارة قيادية محورية، والمستقبل لا يُنتظر؛ بل يُصنع عبر الوعي والتحليل والاستعداد المبكر، كما إن امتلاك القدرة على التفكير المستقبلي لم يعد رفاهية أكاديمية، وإنما ضرورة مهنية لبناء قرارات بعيدة المدى ورؤية تتجاوز حدود اللحظة؛ فالمستقبل مساحة للخيال العلمي المنهجي، ومسؤولية تقع على عاتق كل قائد يسعى لصناعة واقع أفضل يبدأ اليوم قبل أن يصل الغد.

** مستشار أكاديمي

مقالات مشابهة

  • جرحى المرتزقة بتعز يغلقون مكاتب حيوية احتجاجاً على الإهمال والتجاهل
  • غارات على جنوب لبنان والجيش الاسرائيلي يعلن استهداف مواقع لحزب الله
  • المفاوضات تدخل منطقة الضباب.. «سلام أوكرانيا».. موسكو تترقب وكييف تتريث
  • بيسكوف: واشنطن لم تطلع موسكو بعد على نتائج محادثاتها مع كييف
  • موسكو: بوتين وويتكوف ناقشا بشكلٍ متعمق سبل التسوية في أوكرانيا
  • لماذا أصبح استشراف الغد ضرورة حيوية لكل قائد؟
  • الخبير الاقتصادي شريم يطلق رؤية وطنية للنهضة والإصلاح
  • أوكرانيا تنقل المواجهة للعمق الروسي .. تحوّل استراتيجي يستهدف شلّ الاقتصاد وردع موسكو
  • بمسيّرات وصواريخ.. ضربات روسية مكثفة على مواقع الطاقة في أوكرانيا
  • قبل المحادثات بين كييف وواشنطن.. روسيا تشن هجومًا واسع النطاق على أوكرانيا