(1)
الأحد، 9 سبتمبر 1990، سان دييغو، كاليفورنيا
الشيء الذي ينقصك هو الإيمان (الإيمان بالكتابة، مثلًا). لو كان لديك هكذا إيمان لما نُكِبتَ بليلة كانت قبل أيام، ولكان جهازك النَّفْسي أكثر قوة.
أنت ميت أُعيد إلى الحياة ثم يُطلب منه أن يموت مرة أخرى. كيف يمكن أن يعيش بلا إيمان واحد في الأقل؟
كيف يمكن ذلك؟
(2)
الاستماع إلى «قدَّاس الأموات» لموزارت طوال النَّهار والليل، والقيام ببعض التَّحضيرات لليلة الأخيرة.
الأحد، 16 سبتمبر 1990، سان دييغو، كاليفورنيا
[على الصفحة الخاصة بمادة هذا اليوم في كرَّاسة اليوميَّات هناك مغلَّف أبيض مغلق ومُكَبَّس، وعليه اسم أحدهم باعتباره المُرسَل إليه. في المغلَّف رسالة طويلة وغير مكتملة موجهة إلى ذلك الشخص وزوجته وأولادهما في عُمان. الأول صارت حالته الصحيَّة البدنيَّة والعقليَّة سيئة مؤخرًا (أعانه الله)، والثانية توفيت في 7 يناير 2015 (رحمها الله)، أما أولادهما فبخير وعافية (أعطاهم الله). فتحتُ مغلَّف الرِّسالة وأعدت قراءتها بابتسامة صغيرة وسرعة غير نادمة، ثم ألقمتها آلة تمزيق الأوراق الكهربائيَّة في غرفة المكتب، في شقَّتي اليوم، الاثنين، 17 مارس 2025، مسقط].
الأربعاء، 10 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
تكثُّف الكآبة والانقباض طوال الأيام الفائتة، وحضور أُميّ الموتي، الشَّجني، والحنون؛ تلك الكوابيس، والهواجس، والحدوس.. كل ذلك يترجمه زاهر الغافري اليوم بإخباري عن وفاة أُمِّ عبدالله الريامي؛ تلك المرأة الطيبة التي أراها الآن واقفة على أعلى السُّلَّم تودعني ملوِّحة بعد أن تناولت الغداء مع الأسرة في مسقط؛ تلك المرأة التي ليس هناك أي سبب مقنِع مهما يكن من أمر لأن تموت.
لماذا يحدث كل هذا وبهذا الشكل، وهذا الوجوم الهائل الذي أشعر به أمام الموت، أمام حضوره العاصف؟
هكذا يتكثف الأمر من جديد. ورغم أنه ليس من أفضل الأشياء أن تكون للمرء أم، فإن موت الأم هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي امرئ.
لكن الموت لا يفهم ذلك.
الاثنين، 15 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
ماذا أفعل بالكتابة التي لا يعنيها أي شيء مما يحدث على هذه الورقة؟
ماذا أفعل؟
الخميس، 18 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
ما سيحدُث اليوم، حدَث في الغد أيضًا (بنفس هذه الركاكة في اللغة، وفي الحياة).
الجمعة، 19 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
(1)
أشعر أحيانًا، وعلى الرغم من قلَّة كتابتي أو بسببها، بأني حين أكتب، فإنما أفعل ذلك لأجلي فقط (وهذا يختلف تمامًا عن القول بأني «أكتب لنفسي فقط»). لكني، في أحيان أخرى، أكتب لمخلوق واحد وحيد في مكان ما من هذا الكوكب، لا أعرفه، ولا يعرفني، ولا أريد أن تصله كتابتي.
غير أنني، في سرِّي، وتحت قشرة الادعاء الشخصي والمقولات الثَّقافيَّة والوجوديَّة العظمى، أريد أن تصله؛ وذلك كي أجد مبررًا للكتابة لي/ له مرة أخرى، وأخرى.
وفي أية حال فإن ذات وموضوع الكتابة سيبقيان موضوعًا ملغزًا (أكثر مما يثار، لدينا في منطقة الخليج على الأقل، منذ بدايات الثمانينيَّات، وتقريبًا لغاية الآن).
(2)
حديث مطول ومليء بالتَّوتر والتَّوجس، في جلسة اليوم مع سيء الذكر طبيبي النَّفسي N. D.، حول الاكتئاب والأرق المزمنين الحاديَّن.
لا فائدة. هذا الذي «يداوي الناس وهو عليل» فات عليه أن إدراكي مصيري يختلف تمامًا عن خزعبلاته التشخيصيَّة («يَدُهُ في القواميس»، على رأي قاسم حدَّاد).
على الطبيب النَّفسي إدراك أن مهمته تتلخص في وصف الدواء، ثم متابعة الأعراض الجانبية إن ظهر شيء منها، والاستمرار في وصف الدواء نفسه إذا كان هناك تحسن، أو تجربة دواء آخر إذا لم يحدث تحسن، وأشياء تدور في هذا الإطار التقني فقط. أما الحصول على «اعترافات» فتلك مهمة القساوسة في الكنائس، والجلادين في أقبية مخابرات بلدان العالم الثالث.
لا ولن يستوعب هذا الأخبل شيئًا عما حدث منذ أن ارتطمت خلايا روحي بالحياة؛ منذ أن اصطدم جسدي بالكتابة؛ منذ أن ذابت السماء على يدي وتسلل سمها كالحبر عبر المسام، وأنني، في حقيقة الأمر، لا أبحث عن «شفاء». أنا شاعر يكشف سقم التشريع، يكبر ويكابر (*).
(3)
في العتمة وأنا اليقين.
السبت، 20 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
وقفت في مكان ما على أن كافكا قد أعرب عن تحفظه على الدِّيانات الهنديَّة؛ وذلك لأن الاحتراق الذي يصير فيها احتراق ضد الحياة، لا لأجلها.
فيما يخص ذلك فليس لديّ أدني تحفظ على الدِّيانات الهنديَّة؛ بل أتحفظ على الحياة، كُليًَّا، لأجلها.
الأحد، 21 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
الكوابيس ليست نشاطًا ذهنيًا يتعلق بالوعي و/أو اللاوعي وما يجري التخلص منه (توكيده؟) في شحنات الليل المرعبة عبر شِعر وحشيٍّ، بل إنها، بالمقدار نفسه، تحويل للجسد إلى أداة سرديَّة.
هذا ما أشعر/ يشعر به ويعيشه جسدي مهدودًا، منهَكًا، وأشعر به متورِّمًا، متقرِّحًا، إذ في البارحة انهار عليَّ وأختي جدار طين تحت وابل عنيف من المطر.
وها أنا اليوم بالكاد أستطيع أن أخلَّص وجهي من لطخات الطين المبلَّلة، وبالكاد أتمكن من تحريك يدي لكتابة هذه السطور بعد أن أخذ الماء لطيفة ومضى.
الإثنين، 22 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
أريد الليلة أن أختلف مع القديس أوغسطين: الزمن هو ما يكفي لكتابة هذه الكلمات، فقط («أنا أعرف ما الزمن، ولكن إن أنت سألتني: «ما الزمن»؟ فأنا لا أعرف ما الزمن» («الاعترافات»).
الثلاثاء، 23 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
شاهدت جزءًا لا بأس به من مقابلة مطولة مع ديفد لين حيث يشير إلى أن العرب الذين تعامل معهم لورَنس العرب كانوا «عصابة» (“band”).
قبل أسابيع تحدثت بحدَّة إلى «جِم» و«أولا» عن المغالطات التاريخيَّة التي حفل بها فيلم «لورَنس العرب» الذي هو فيلم يدّعي البيوغرافيَّة (والتي لم يكن يحتاج إليها أصلًا كي يكون فيلمًا استشراقيًَّا من الطراز الكلاسيكي). لكن حتى في ذلك الحين لم أكن أتوقع أن الأمر يتعلق بمحض «عصابة».
--------------------------------------
(*): العبارة الأخيرة مكتوبة بقلم حبر أزرق، ومهنَدسة نزولًا تعرُّجيًَّا إلى أسفل الصفحة في الكراسة الأصليَّة لليوميات ما يتعذر نقله بذلك الشكل إلى هذه النسخة المنشورة. هذه حاشية أضيفت إلى المتن في يوم الخميس، 9 أكتوبر، 2025. مسقط.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سان دییغو ة التی
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسس الإيمان
بين الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: 110]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه عنه أَبِو هريرة رضي الله عنه: «لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (أخرجه البزار والطبراني في معجميه الكبير والأوسط).
من أسس الإيمانوقال علي جمعة من خلال صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”: جعل الله ورسوله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساسا من أسس الإيمان، فهو في غاية الأهمية كما هو ظاهر في القرآن والسنة، فبه تقوم المجتمعات ويستقر الأمن ويشيع السلام بين الناس، من هنا أيضا جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قالوا: لِمَن؟ قال: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (رواه مسلم)، ورواه أبو داود بلفظ: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَة، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَة، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَة»، قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: «للهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ المُؤْمِنِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»، فأهم شيء في الدين هو النصيحة، والنصيحة تكون لجميع الناس من الحكام والمحكومين؛ ولذلك نرى علماء المسلمين قد اهتموا بوضع أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشروطه، ونلخص ما قالوه في نقاط محددة تميز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الرضا بالفساد والسكوت عنه من ناحية، وعن التهور والاعتراض الغبي من ناحية أخرى، وكلاهما مصيبة تضيع الهدف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضيع الخير عن الناس.
وأوضح علي جمعة أن العلم بالحقائق على ما هي عليه أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنهى ربنا عن سوء الظن، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:12]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه).
وشدد على خطورة مخالفة الشريعة، فلقد حرم الله سبحانه وتعالى الظلم، وفي الحديث القدسي: «قال الله عز وجل: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا»