لم يعد مشهد الانغماس في شاشات الهواتف الذكية حكرًا على جيل المراهقين والشباب، بل أصبح من المألوف اليوم أن ترى الآباء والأجداد- أولئك الذين عاشوا نصف أعمارهم في زمنٍ بلا كهرباء أو شبكات- يجلسون في المجالس العائلية، وقد انحنت رؤوسهم نحو شاشاتهم الصغيرة، كأنهم يتأملون فيها أسرار العالم. المفارقة العجيبة أن الجيل الذي كان ينتقد أبناءه لانشغالهم بالتكنولوجيا، أصبح اليوم أكثر التصاقًا بها منهم، إلى درجةٍ تدعو أحيانًا إلى التأمل… وأحيانًا إلى الابتسامة.
في لقاءٍ وديّ جمع مجموعة من الأصدقاء، دار الحديث حول الذكاء الاصطناعي وتأثير التكنولوجيا في الأجيال الجديدة. كانت الآراء متقاربة حول خطورة الإدمان الرقمي على الأطفال، حتى قاطع أحدهم الحديث قائلاً بنبرةٍ مازحة:”مشكلتنا ليست في الأطفال؛ بل في آبائنا!” سرعان ما اتفق الجميع أن الظاهرة باتت عامة، وأن الشكوى من الجد الذي لا يترك هاتفه، أو من الأب الذي يقرأ الرسائل أكثر مما يستمع لأبنائه، أصبحت حديث كل بيت.
تبدو القصة في ظاهرها طريفة، لكنها تكشف عن تحول اجتماعي عميق. التكنولوجيا التي كانت تُقدَّم للأجيال الكبيرة وسيلة للتواصل، تحوّلت تدريجيًا إلى ملاذٍ للوحدة، ووسيلةٍ لملء الفراغ. دراسة صادرة عن جامعة هارفارد عام 2022 أشارت إلى أن كبار السن، بعد التقاعد وتقلّص دوائرهم الاجتماعية، يجدون في الهواتف الذكية نافذةً على العالم ومصدرًا لإحساسٍ زائف بالانشغال والارتباط. الهاتف لا يملّ من الاستماع، ولا يحكم على أحد، ويمنحهم شعورًا بالوجود في عالمٍ يتغير أسرع مما يستطيعون اللحاق به.
لكن المشكلة تكمن في أن هذا النوع من الإدمان لا يُعبَّر عنه بالصخب كما يفعل الشباب، بل بالصمت. الآباء والأجداد يغيبون عن الحاضر، دون أن يغادروا المكان. يجلسون بين الأبناء والأحفاد، لكن أرواحهم متصلة بشاشةٍ مضيئة تبعدهم عن لحظاتٍ حقيقية من الدفء الإنساني. في الماضي، كانت المجالس تُزهر بالحديث والضحك والقصص القديمة، أما اليوم، فقد غلب عليها صمتٌ رقمي، تُكسره بين الحين والآخر نغمة إشعارٍ جديدة أو ضوء شاشةٍ يُغري بالمزيد من التصفح.
ومن زاويةٍ أخرى، لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا منحتهم أدواتٍ للتعلم والتواصل والمتابعة، وأدخلتهم إلى عوالم لم يعرفوها من قبل. كثيرٌ من الآباء يتابعون الأخبار عبر تطبيقاتهم الخاصة، وبعض الأجداد يتبادلون مقاطع الفيديو أو الصور مع أصدقاءٍ قدامى، بينما يحاول آخرون مجاراة الزمن بفتح حسابات على”منصة X” أو “تيك توك”. غير أن هذا التفاعل الظاهري يخفي في جوهره ظاهرةً أكثر عمقًا، وهي ما تسميه الباحثة شيري توركل من معهد MIT في كتابها الشهير”وحيدون معاً” بعبارةٍ مؤثرة:”نحن متصلون أكثر… لكننا وحيدون أكثر.”
ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذا الإدمان يتسلل بصمتٍ تحت مظلة “التسلية البريئة”. فلا أحد يشعر أنه مدمن عندما يقضي الساعات يتفقد مجموعات”واتساب” أو يتابع مقاطع “ريلز”، لكنها ساعات تُنتزع من عمر العلاقات الإنسانية الحقيقية. لم تعد الزيارات العائلية كما كانت، ولا اللقاءات العفوية تحمل دفئها القديم. كلٌّ في عالمه الصغير، يمدّ يده نحو الشاشة لا نحو القلوب.
من السهل أن نُلقي اللوم على التكنولوجيا، لكن الحقيقة أن الهواتف ليست سببًا بقدر ما هي مرآةٌ لحاجاتنا النفسية. الأب الذي يهرب إلى هاتفه ربما يبحث عن سكينةٍ يفتقدها، والجدّ الذي يقضي وقته في تصفح المقاطع قد يحاول مقاومة الشعور بالعزلة. التكنولوجيا لم تغيّرنا بقدر ما كشفت ما فينا، وعمّقت ما كان كامناً من رغبةٍ في التواصل، وإن كان هذا التواصل اليوم عبر إشعاراتٍ رقمية بدلاً من نظراتٍ بشرية.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: بدر الشيباني
إقرأ أيضاً:
تعاون جديد بين تضامن الأقصر وتعليم الكبار للقضاء على الأمية
في خطوة جديدة لتعزيز جهود الدولة في القضاء على الأمية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة بمحافظة الأقصر، عقد محمد جمعة وكيل وزارة التضامن الاجتماعي بالأقصر، اجتماعًا موسعًا مع خالد شمس مدير عام فرع الهيئة العامة لتعليم الكبار بالمحافظة، لبحث سبل التعاون وتكثيف الجهود المشتركة لدعم المشروع القومي لمحو الأمية.
جاء الاجتماع تنفيذًا لتوجيهات الأستاذ محمد عبد اللطيف وزير التربية والتعليم، وبرعاية المهندس عبد المطلب عمارة محافظ الأقصر، ووفقًا لتعليمات اللواء المهندس رائد هيكل رئيس الجهاز التنفيذي للهيئة العامة لتعليم الكبار، بضرورة تعزيز الشراكة بين الجهات المعنية لتحقيق نقلة نوعية في ملف محو الأمية بالأقصر.
وخلال اللقاء، استعرض مدير عام فرع الهيئة إنجازات مكلفي الخدمة العامة المشاركين في المشروع القومي لمحو الأمية، مؤكدًا أن الجهود الحالية تستهدف الوصول إلى كل قرى ومراكز المحافظة لتقليص نسب الأمية وتحقيق مشاركة مجتمعية فاعلة.
وعلى هامش الاجتماع، تم تنظيم أولى الندوات التوعوية لدفعة أكتوبر 2025 من مكلفي الخدمة العامة المكلّفين بالعمل في تعليم الكبار بالأقصر، حيث ركزت الندوة على تدريب المدرسين العاملين في المشروع على طرق جذب الدارسين إلى الفصول، وكيفية التغلب على التحديات التي تواجههم عند بدء العمل.
وأكد خالد شمس أن فرع الهيئة بالأقصر بصدد تنظيم سلسلة من الندوات المماثلة بجميع المراكز الإدارية خلال الفترة المقبلة، بهدف رفع كفاءة العاملين في مشروع محو الأمية ودعم التواصل الميداني مع الدارسين.
من جانبه، أشاد محمد جمعة بالتعاون المثمر بين وزارة التضامن الاجتماعي والهيئة العامة لتعليم الكبار، مشددًا على أن مشروع محو الأمية يمثل أحد أولويات العمل الاجتماعي بالمحافظة، لما له من دور محوري في تحقيق التنمية الحقيقية وتمكين المواطنين من فرص التعليم والعمل الكريم.