في خيمة صغيرة نُصبت على أطراف المحافظة الوسطى بقطاع غزة، تجلس إسراء أبو شحادة، امرأة في الثانية والثلاثين من عمرها، تصمت كثيرًا، لكن الدموع التي تنحدر على وجنتيها تتكلم عنها أكثر من أي صوت. لم تُولد إسراء بقدرة على السمع، لكنّها وُهبت قلبًا يسمع وجع الحرب أفضل من أي أذن. فقدت زوجها في قصف إسرائيلي طال منزلهم قبل ستة أشهر، ومنذ ذلك الحين وهي تحيا في خيمة مهترئة مع طفليها، اللذين لم يتجاوز أحدهما الثامنة من عمره.

صمت إسراء

تقول شقيقتها وهي تترجم من لغة الإشارة كلماتها المرتجفة: «أنا إسراء من غزة، صماء منذ الولادة، أعيش في صمت طويل ازداد ثقلًا بعد الحرب. كنتُ على موعد مع عملية في مصر لتركيب جهاز سمع يعينني على التواصل مع أطفالي، لكن إغلاق معبر رفح جعل كل الأبواب مغلقة في وجهي». ثم ترفع يديها وتضيف بإشارةٍ حزينة خلال حديثها لـ«عُمان»: «لا أسمع بكاءهم حين يجوعون، ولا أقدر على أن أقول لهم إني أحبهم. أخاف عليهم أكثر مما أخاف على نفسي».

الخيمة التي تأويها ليست سوى قطعة قماش ممزقة في مواجهة ظروف الطقس، والبرد يقضم أجساد الأطفال الصغار الذين ينامون إلى جانب أمهم الصامتة. تضيف شقيقتها المترجمة وهي تنظر إلى إسراء بعينين دامعتين: «كل ليلة تبكي خوفًا من أن تموت قبل أن ترى ولديها يعيشان حياة طبيعية. هي لا تطلب سوى أن تُفتح المعابر لتُسافر إلى مصر وتُركب جهازًا سمعيًا، لا تريد سوى فرصة لتكون أمًا تسمع ضحكات أولادها».

معاناة إسراء ليست فردية، بل مرآة لوجع آلاف الفلسطينيين الذين ينتظرون عند بوابة رفح المغلقة. فالمعبر الذي لطالما شكّل شريان الحياة الوحيد لغزة، أصبح اليوم رمزًا للصمت الكبير الذي يخيم على القطاع بأكمله. كل يومٍ يمرّ دون فتحه هو عمر يُقتطع من حياة مريض، وأمل يُطفأ في قلب أمٍ تصلي أن يُفتح الطريق قبل فوات الأوان.

تجلس إسراء في المساء تحدق في الأفق نحو الجنوب، حيث يفترض أن يكون هناك طريق يؤدي إلى مصر، إلى العلاج، إلى الحياة. لكنها لا ترى سوى الأسلاك والحواجز، وسكوناً يشبه الموت. في عينيها سؤال واحد لا يحتاج إلى ترجمة: «إلى متى سيبقى العالم صامتًا مثلها؟».

أزمة عمرها 18 عامًا

منذ أن دخل اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيّز التنفيذ قبل نحو 25 يومًا، حمل الغزيون أملاً حذرًا في أن تبدأ مرحلة جديدة تخفّ فيها المعاناة ويُفتح فيها معبر رفح الذي يمثل شريان الحياة الوحيد لسكان القطاع. غير أن الأمل سرعان ما تبدد مع استمرار إغلاق المعبر ورفض إسرائيل السماح بخروج المرضى والجرحى لتلقي العلاج في الخارج.

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 15 ألف مريض في غزة ينتظرون الخروج للعلاج، من بينهم آلاف الأطفال الذين يعانون من أمراض نادرة وحالات سرطانية تحتاج إلى عمليات عاجلة. المنظمة الأممية حذرت مؤخرًا من أن التأخير في سفر هؤلاء يعني زيادة الوفيات بين المرضى بنسبة غير مسبوقة. في المستشفيات المدمرة، ينام الجرحى على الأرض في انتظار فتح بوابة واحدة قد تنقذ حياتهم.

ولم يقتصر أثر الإغلاق على المرضى فقط، بل امتدّ ليطال كل جوانب الحياة. فالمعبر الذي يفترض أن يمر عبره الوقود والأدوية والمساعدات الإنسانية ما زال مغلقًا، مما أدى إلى نقص حاد في المستلزمات الطبية بنسبة تتجاوز 50%.

الأزمة ليست جديدة، لكنها اليوم أشد قسوة. فمنذ فرض الحصار على غزة عام 2007، ظل معبر رفح نقطة التوتر الدائمة بين الأمل واليأس، يفتح أيامًا قليلة ويغلق شهورًا طويلة. ومع الحرب الأخيرة التي دمّرت البنية التحتية وأرهقت المستشفيات، صار إغلاقه جريمة مضاعفة بحق الجرحى والمرضى الذين يُتركون لمصيرهم داخل قطاعٍ منكوب لا يجد متنفسًا للخارج.

جُرح صبري

في مخيم خان يونس جنوب القطاع، يتكئ صبري أبو جامع على عكازيه، يحاول أن يستعيد توازنه فوق قدمٍ مثقلة بالرصاص والشظايا. إصابة في ساقه اليسرى تركته عاجزًا عن المشي منذ أشهر، وكان الأطباء قد نصحوه بالسفر إلى الخارج لإجراء عملية جراحية عاجلة. لكنه اليوم يقف أمام المعبر المغلق كمن يقف أمام باب الحياة الموصَد بإحكام.

يقول صبري بنبرة يائسة: «كنا نظن أن وقف إطلاق النار يعني وقف الألم، لكننا اكتشفنا أن الألم مستمر. ذهبنا إلى الصليب الأحمر، بحثنا عن قوائم للسفر، لكنهم قالوا إن المعبر مغلق ولا جديد. عدت بخفي حنين كما يقولون، كأن لا هدنة وُقعت ولا اتفاق وُجد».

يضيف متنهداً خلال حديثه لـ«عُمان»: «حتى الدواء لم يعد متوفراً، والجرحى مثلي ينتظرون أن تُفتح البوابة ليتمكنوا من النجاة. العالم كله يتحدث عن السلام، ونحن ما زلنا نحيا وسط الرماد».

يصف صبري المعبر بأنه «الخط الفاصل بين الحياة والموت»، ويؤكد أن «منع الجرحى من السفر هو حكم بالإعدام البطيء». ورغم مرور أكثر من أسبوعين على الهدنة، لم يشعر بشيء من التغيير. «الناس هنا لا تعرف معنى وقف إطلاق النار»، يقول بمرارة، «حتى القصف لم يهدأ، والناس ما زالت تئن».

صرخة المقادمة

يقع معبر رفح في أقصى جنوب قطاع غزة، على الحدود مع مصر، وهو المنفذ الوحيد الذي يربط الفلسطينيين بالعالم الخارجي. دُمّر جزء كبير من منشآته خلال الهجمات الإسرائيلية، وتسيطر إسرائيل على جانبه الفلسطيني، ما يجعل إعادة تشغيله مرهونة بموافقتها. ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار تضمّن بندًا صريحًا بفتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية وضمان حرية تنقل المرضى، فإن إسرائيل لم تلتزم بذلك حتى الآن، بل تواصل تقييد مرور الإمدادات والوقود، في وقتٍ تنهار فيه البنية التحتية الصحية.

في شارع مكتظ شمال غزة، يقف أحمد المقادمة، رجل أربعيني، أمام أحد مراكز الإغاثة ينتظر دوره للحصول على بعض الأدوية. يقول بصوتٍ متهدّج: «أهل غزة يعانون معاناة لا توصف. لو تحدثنا من هنا إلى عنان السماء، لن نقدر على وصف حجم الألم الذي نعيشه. المرضى، الجرحى، المعاقون، كلهم يصرخون في صمت».

يتوقف لحظة ثم يضيف: «نحن لا نطلب المستحيل، فقط أن يُفتح المعبر، أن يُسمح للجرحى بالعلاج، أن تصل الأدوية إلى المستشفيات قبل أن يموت المرضى بسبب نقصها. أليست هذه أبسط حقوق الإنسان؟».

يؤكد أحمد لـ«عُمان» أن العالم كله يعرف حقيقة ما يجري، لكنه يغضّ الطرف: «كل يوم نسمع بيانات من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، لكن شيئًا لا يتغير. الوجع يزداد، والمعاناة تتضاعف، والناس هنا على حافة الانهيار». يختم كلماته بنبرة مفعمة بالحسرة: «إن لم يُفتح معبر رفح قريبًا، فسنشهد كارثة إنسانية لا يمكن للعالم تحمل صمتها».

هدنة بلا أثر

يرى ممثل منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيتر بيبركور، أن استمرار إغلاق المعابر بعد اتفاق شرم الشيخ يعرقل الخطة الإنسانية التي أُقرّت لتوسيع نطاق الإغاثة الطبية في غزة. ويشير إلى أن الحاجة باتت ملحّة لإتاحة مرور الإمدادات الصحية عبر جميع المنافذ، بما في ذلك نقل آلاف المرضى الذين يحتاجون إلى علاج عاجل خارج القطاع، ومن بينهم نحو أربعة آلاف طفل تتطلب حالتهم تدخلاً متخصصًا لا يتوافر داخل المستشفيات المدمّرة.

ويؤكد بيبركور أن بطء تنفيذ عمليات الإجلاء الطبي قد يحوّل الأزمة إلى مأساة طويلة الأمد، إذ إن كثيرًا من الإصابات المزمنة ستتحول إلى إعاقات دائمة ما لم تُستكمل ترتيبات الخروج خلال وقت قريب. ويرى أن عملية التعافي، حتى في حال تسهيل حركة المرضى والمساعدات، ستحتاج إلى ما لا يقل عن عقد كامل من العمل المتواصل لإصلاح ما أفسدته الحرب.

ويصف الوضع الصحي الراهن بأنه «شبه منهار»، إذ لم يبق في الخدمة سوى 14 مستشفى من أصل 36، فيما تعمل أغلبية مراكز الرعاية الأولية والنقاط الطبية بقدرات محدودة أو خارج الخدمة. ويبلغ عدد الأسرّة الفعالة في مختلف أنحاء القطاع نحو 2100 سرير فقط، لخدمة أكثر من مليوني نسمة، في وقت يعاني فيه عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين من نقص الأدوية والتجهيزات الحيوية. وتُقدَّر الخسائر الأولية في البنية التحتية الصحية بنحو سبعة مليارات دولار، ما يستدعي مضاعفة أعداد الطواقم الطبية وإعادة بناء النظام الصحي من جذوره بالتعاون مع المؤسسات المحلية والدولية.

كما يشير بيبركور إلى أن الأرقام الميدانية لا تزال صادمة؛ إذ سُجّل منذ بدء سريان وقف إطلاق النار مقتل 88 فلسطينيًا وإصابة 325 آخرين، ليرتفع إجمالي عدد الضحايا منذ أكتوبر 2023 إلى أكثر من 68 ألف قتيل و170 ألف جريح، بينما لا يزال آلاف آخرون مفقودين تحت الركام. وبرأيه، فإن هذه المعطيات تُظهر أن الهدنة الحالية لا تحمل أثرًا ملموسًا ما دامت القيود المفروضة على إدخال المعدات الطبية وخروج المرضى مستمرة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وقف إطلاق النار معبر رفح أکثر من الذین ی

إقرأ أيضاً:

سماحة المفتي يُدين خرق الاحتلال الإسرائيلي لـ"هدنة غزة".. ويدعو الأمة لنصرة المظلومين

مسقط - الرؤية

 

أعرب سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عُمان، عن استيائه العميق وقلقه البالغ إزاء استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وخرق الهدنة التي أُبرمت تحت إشراف مجموعة من الدول، مؤكداً أن هذا الإصرار على العدوان يُظهر غدر الكيان الصهيوني وتنكره للعهود.

وقال سماحته في بيان أصدره اليوم، إن الموقف الدولي إزاء ما يجري في غزة يبعث على العجب، إذ لم تُبدِ الدول المشرفة على الهدنة ولا المجتمع الدولي أي تحرك جاد لوقف الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، من قتل للأنفس البريئة وعدوان على الحرمات، مع غياب واضح لأي رد فعل يوقف هذا العدوان عند حده.

ودعا سماحته في بيانه الأمة الإسلامية وأحرار العالم إلى الوقوف صفاً واحداً لنصرة الشعب الفلسطيني والدفاع عن المظلومين، مؤكداً أن الأمل ما زال كبيراً في الدول العربية والإسلامية للتحرك الجاد في وجه العدوان.

واختتم المفتي العام بيانه بالتأكيد على ضرورة توحيد الجهود والشدّ على أيادي المقاومين، مستشهداً بقول الله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}، مشدداً على أن النصر وعد إلهي لمن يقف إلى جانب الحق والمظلومين.

مقالات مشابهة

  • نمط الحياة الحديث السبب.. جيل الألفية معرض للسرطان أكثر من آبائه
  • جيش الاحتلال يسلم جثمان الشهيد الأطرش الذي استشهد برصاص مستوطن
  • السؤال الذي يتطلب إجابة ما سر (صربعة) تلك الجماعة على هدنة ولقاء وحدث !
  • من التعذيب إلى الإبادة القانونية.. الاحتلال يفتح بوابة الموت للأسرى الفلسطينيين
  • الاحتلال يُفرج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين عبر معبر كرم أبو سالم
  • سماحة المفتي يُدين خرق الاحتلال الإسرائيلي لـ"هدنة غزة".. ويدعو الأمة لنصرة المظلومين
  • عبر معبر رفح.. قافلة المساعدات الـ 64 تدخل إلى قطاع غزة
  • الاحتلال يسلم جثامين لشهداء فلسطينيين عبر معبر كيسوفيم وسط قطاع غزة
  • مركز حقوقي: جيش الاحتلال يحكم بالإعدام على مرضى السرطان والفشل الكلوي في غزة