من يتوهم أن الحرب في غزة قد انتهت مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، لم يفهم طبيعة الحروب الحديثة، ولا دراما التاريخ حين يغيّر شكله دون أن يغيّر جوهره. فالنار التي انطفأت فوق الركام اشتعلت من جديد في الفضاءات الرمزية، وفي الجامعات، وفي المنابر الإعلامية، وفي المراكز الفكرية، وفي كل مكانٍ يُحاول فيه الصوت الإنساني أن يصرخ في وجه الصمت.

الحرب لم تتوقف؛ لقد تبدّلت أدواتها فقط من قنابل تُفني الجسد إلى منظوماتٍ معرفية تُصفي الوعي.

ومن يظن أن إسرائيل كانت وحدها في ميدان الإبادة فهو غارقٌ في سذاجة سياسية عميقة. فالإبادة لم تكن فعل كيان واحد كإسرائيل، بل مشروعا غربيا بأكمله، تواطأت فيه العقول قبل المدافع، وتناوبت فيه الحكومات والمؤسسات على تطبيع القتل، وإضفاء الشرعية الأخلاقية عليه، وإخماد كل صوتٍ يحاول أن يسأل من القاتل ومن القتيل؟

تُشنّ اليوم المرحلة الثانية من الحرب على غزة، حرب على المعنى ذاته، فبعد أن دُمّر الحجر والبشر، جاء الدور على الكلمة والشاهد. صارت الحقيقة ميدانا قتاليا جديدا، والمثقف الذي يكتب أو يوثّق أو يشهد يُعامَل كما يُعامَل المقاتل في الميدان.

من هنا تبدأ قصة الأكاديمية الإيرانية مهدية إسفندياري، التي اعتقلتها السلطات الفرنسية قبل أشهر بتهمة "دعم الإرهاب"، لأنّها وثّقت الجرائم الإسرائيلية في غزة. في قاموس القيم المقلوبة، أصبح توثيق الجريمة هو الجريمة، والدفاع عن الضحية تهمة، والشهادة على المذبحة إرهابا يستحق الاعتقال.

كانت إسفندياري تمارس أسمى أشكال المقاومة، مقاومة الوعي، كانت تكتب ما يراه الإنسان الحر واجبا لا خيارا: أن يشهد ويوثق الجرائم. لكنها اصطدمت بالوجه الحقيقي لفرنسا، تلك التي لطالما قدّمت نفسها كحارسةٍ للحرية وضميرٍ للعالم، فإذا بها تكشف عن وجهها الآخر؛ وجهٍ يضع الحرية في أقفاص السياسة، ويحوّل شعارها الأشهر "حرية، مساواة، إخاء" إلى ثلاث كلماتٍ جوفاء تُستدعى فقط حين لا تمسّ مصالح إسرائيل.

لقد كشف اعتقال إسفندياري من جهة واعتبار كل حركة سلمية مناصرة لفلسطين عملا إرهابيا، كشف هشاشة الخطاب الفرنسي حول حرية التعبير، فالحرية التي تباهت بها باريس قرونا، لم تصمد أمام كلمةٍ تُدين الاحتلال. منذ اللحظة التي تحوّلت فيها فلسطين إلى مرآةٍ تكشف تناقض الغرب، بدأ الغرب في كسر المرآة بدل مواجهة وجهه.

لقد تحوّلت حرية التعبير في فرنسا إلى حريةٍ مشروطة بمقدار ما تُرضي روايتهم الرسمية عن حرب الإبادة في غزة، فالكلمة هناك حرة ما دامت لا تقترب من جدار "إسرائيل"، والضمير حرٌّ ما دام لا ينحاز إلى طفلٍ تحت الركام. وعندما تفعل، تُستدعى قوانين الإرهاب، وتُصادر الكتب، وتُمنع المظاهرات، وتُهاجم الجامعات التي لا تلتزم بـ"الصمت المناسب".

إنّ ما جرى مع إسفندياري وغيرها ليس طارئا، بل هو تجلٍّ لسياسةٍ طويلة المدى، ترى أن الرواية الفلسطينية خطرٌ استراتيجي لأنها تهدّد بنية الوعي الغربي ذاته، ذلك الوعي الذي بُني على أسطورة تفوّق الحضارة الأوروبية، واحتكارها لمفاهيم العدالة والحرية والإنسانية. فلسطين، بما تحمله من وضوحٍ أخلاقي، تنسف هذه الأسطورة من جذورها، ولهذا تُعامَل كل كلمة تُكتب عنها كقنبلة فكرية يجب نزع فتيلها قبل أن تفضح النظام القيمي برمّته.

الأدهى من الاعتقال كان ما تبعه، إذ مارست فرنسا ما يمكن وصفه بـ"الخطف للمبادلة"، حين ضغطت على طهران لمبادلة إسفندياري بمسجونين فرنسيين متهمين بالتجسس في إيران. في لحظةٍ واحدةٍ انكشفت أخلاق القوة، ففرنسا لا ترى في العدالة مبدأ، بل ورقة تفاوض؛ تضع الناشطة الحقوقية في كفة والجاسوس في كفة أخرى، وكأنّ الضمير الإنساني قابل للمقايضة في سوق المصالح.

هذا السلوك ليس مجرد انحرافٍ قانوني؛ إنه سقوطٌ فلسفي، فالدولة التي كانت تُدرّس العالم مفاهيم الحرية باتت تمارس "الخطف السياسي" بلباسٍ قانوني أنيق. إنّه شكل جديد من الهيمنة، لا يكتفي بقمع الحرية، بل يُسخّرها أداة ضغطٍ على الآخرين. وهكذا تحوّل الشعار الفرنسي القديم إلى معكوسه: من "حرية، مساواة، إخاء" إلى "ابتزاز، تواطؤ، إنكار".

منذ لحظة إطلاق سراحها المشروط، أعلنت إسفندياري أنها لن تتراجع قيد أنملة عن موقفها. تلك العبارة القصيرة كانت كفيلة بأن تضعها في صفّ التاريخ الصحيح، فهي لم تخرج من السجن لتصمت، بل لتقول إن الحرية التي تُمنح مشروطة ليست حرية، وإنّ الصوت الذي يُراقَب لا يزال أقوى من المراقِب نفسه.

في وجه القمع، يصبح الموقف الأخلاقي أرقى أشكال البطولة، فحين تتجرّد القوة من معناها الإنساني، يصبح الثبات على الحقيقة مقاومة تعادل في قيمتها الصمود تحت القصف. وهكذا تتحوّل إسفندياري من باحثةٍ جامعية إلى رمزٍ إنسانيٍّ يفضح نفاق النظام الغربي من داخل مؤسساته.

لقد سقطت الفلسفة الغربية المعاصرة في امتحان فلسطين كما سقطت قبلها في امتحان الجزائر والعراق وأفغانستان، إذ اتضح أن ما يُسمّى "الكونية الأخلاقية" ليس إلا ستارا لخصوصية المصالح. فحين تتعارض الحرية مع إسرائيل، تُعلَّق الحرية، وحين تتعارض العدالة مع واشنطن، تُفرّغ العدالة من معناها.

إنّ ملاحقة الصحفيين، وتجريم التظاهرات المؤيدة لغزة، ليست سوى حلقاتٍ في سلسلةٍ واحدة من سياسات تجريم الوعي. الغرب، في جوهره الراهن، لا يخاف من صاروخٍ فلسطيني بقدر ما يخاف من روايةٍ فلسطينية، لأن الرواية قادرة على إحداث ما لا تفعله الجيوش من تقويض شرعية الهيمنة من الداخل.

لكن المفارقة العظيمة أن هذا القمع أتى بنتائج عكسية، فبدلا من إسكات الصوت الفلسطيني، ساهم في تحويله إلى صوتٍ كوني. في الجامعات الغربية، في ساحات باريس ولندن وبرلين، يتشكل وعيٌ جديد يرى في فلسطين معيارا للحقيقة، وفي موقف الدول منها مقياسا للضمير.

لم تعد فلسطين قضية شعبٍ محتل، بل قضية إنسانٍ حر يبحث عن التحرر من الاحتلال والتواطؤ، إنها الامتحان الأعظم لكلّ ما تبقّى من معنى الإنسانية. ولهذا نرى اليوم أن الأجيال الجديدة في الغرب تتحدّث عن غزة لا بلغة السياسة، بل بلغة الأخلاق، فمن يقف مع غزة يقف مع العدالة، ومن يبرّر الإبادة يقف ضدّ ذاته قبل أن يقف ضدّ الآخرين.

كل ما تفعله إسرائيل وحلفاؤها هو محاولة لدفن الذاكرة، لأن الذاكرة هي السلاح الوحيد الذي لا يمكن نزع سلاحه. حين يُعتقل الأكاديميون وتُحظر التظاهرات وتُشوّه المفردات، فذلك لأنّهم يخافون من أن تتحول فلسطين إلى ذاكرةٍ جماعيةٍ لا تُمحى، فهم يدركون أن الحروب تُربَح بالقنابل لكنها تُخسَر بالذاكرة.

إنّ ما جرى في غزة هو لحظة تأسيسية في وعي البشرية الحديثة، كشفت زيف القيم التي بنت عليها أوروبا صورتها عن نفسها. ولعلّ أخطر ما تفعله اليوم ليس دعمها لإسرائيل بالسلاح، بل دعمها لها بالصمت، وبتبرير الجرائم، وبإنتاج خطابٍ لغويٍّ يُبرئ القاتل ويُدين الشاهد.

التاريخ، في نهاية المطاف، لا يُكتب بالمدافع، بل بالذاكرة. والذاكرة اليوم تقف إلى جانب الضحايا، ستبقى أسماء غزة محفورة في ضمير العالم، وستبقى صورة مهدية إسفندياري وآلاف المعتقلين في الغرب وأمريكا تذكّر بأن الكلمة قد تُسجن لكنها لا تُهزم.

إن ما نعيشه ليس نهاية المعركة، بل بداية تحولٍ أخلاقي عالمي. فالإبادة لم تعد مجرد جريمة ضد شعب، بل ضد فكرة العدالة نفسها، وحين تُستهدف العدالة، يُعاد تعريف العالم من جديد.

قد تكسب فرنسا صمت اللحظة، وقد تربح إسرائيل هدنة فوق الخراب، لكنهما خسرتا المعركة الأعمق وهي معركة الوعي؛ لأن الضمير الإنساني حين يُستفَز يتحوّل إلى نارٍ لا تخمد، والدم حين يُراق ظلما يتحول إلى ذاكرةٍ لا تنسى.

وهكذا، في لحظةٍ يظنّ فيها القاتل أنّه انتصر، ينهض التاريخ ليقول كلمته القديمة الجديدة: "إنّ الدم، مهما طال ليله، ينتصر على السيف".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة إسرائيل حرية التعبير فلسطين فرنسا إسرائيل فلسطين فرنسا غزة حرية التعبير قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی غزة

إقرأ أيضاً:

إسرائيل تهاجم رئيس وزراء النرويج

شنت إسرائيل هجوما حادا على رئيس الوزراء النرويجي يوناس غار ستور، واتهمته بمعاداة السامية، وذلك بسبب تفضيله المشاركة في حفل تدعمه اللجنة النرويجية لفلسطين على حفل نظمته الجالية اليهودية في البلاد.

وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان مساء أمس الأحد إن "ستور سجل أرقاما قياسية جديدة في الانحطاط الأخلاقي والعداء لإسرائيل ومعاداة السامية"، حسب تعبيراتها.

وبحسب الوزارة فإن سبب هذا الهجوم مشاركة ستور في فعالية نظمها المركز النرويجي لمناهضة العنصرية، بدعم من اللجنة النرويجية لفلسطين، بدلا من الانضمام لحفل نظمته الجالية اليهودية في النرويج.

وادعت الخارجية الإسرائيلية أنه اختار المشاركة في احتفال حوّل حادثة مروعة من جرائم قتل واضطهاد اليهود، وهي ذكرى ليلة "الزجاج المكسور" (حوادث عنف نازية ضد يهود عام 1938)، إلى سلاح ضد الدولة اليهودية والإسرائيليين واليهود، وفق زعم البيان.

واعتبرت أن هذه إهانة لذكرى ضحايا ما يسمى "الهولوكوست"، وخاصة أن أكثر من 750 يهوديا نرويجيا رُحّلوا وقتلوا على يد النازيين وعملائهم المحليين، بحسب زعم الوزارة أيضا.

كما ادعت الخارجية الإسرائيلية أن هذا الحدث (لم تحدد تاريخ الفعالية)، الذي يُنظّمه المركز النرويجي لمناهضة العنصرية، بدعم من اللجنة النرويجية لفلسطين، يستغل الهولوكوست لتأجيج معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.

وقالت إن رئيس الوزراء النرويجي برفضه طلبات الجالية اليهودية والانضمام إلى الحدث، يرسل رسالة خطيرة مفادها أنه حتى ذكرى ضحايا "الهولوكوست" يمكن استخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، بحسب الوزارة.

لكن خلافا لما ادعته الخارجية الإسرائيلية، قال ستور خلال الفعالية إن حكومته "ستبذل قصارى جهدها لحماية ودعم يهود النرويج وجميع الأقليات"، وفقا لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.

إعلان

وأردف "يجب أن تكون النرويج بلدا يمكن للمرء أن يقول فيه بفخر: أنا يهودي".

وعادة ما تهاجم إسرائيل الدول والمسؤولين الذين ينتقدون حرب الإبادة الجماعية التي تشنها بدعم أميركي على الفلسطينيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ومرارا هاجم ستور حرب الإبادة، وانتقد منع إسرائيل إدخال المساعدات الإنسانية لنحو 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، الذي تحاصره منذ حوالي 18 عاما.

وكان من المؤمل أن يمنع اتفاق لوقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي استمرار هذه الإبادة، لكن إسرائيل تخرقه يوميا ما خلّف مئات الشهداء والجرحى، فضلا عن منع إدخال قدر كاف من المواد الغذائية والمستلزمات الطبية.

وأسفرت الإبادة عن 69 ألفا و176 شهيدا فلسطينيا، و170 ألفا و690 جريحا، معظمهم أطفال ونساء، ودمار طال 90% من البنى التحتية المدنية، مع تكلفة إعادة إعمار قدرتها الأمم المتحدة بنحو 70 مليار دولار.

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تهاجم رئيس وزراء النرويج
  • الخطوة السرية التي تُحاك منذ أشهر: كيف تخطط تركيا لمعاقبة إسرائيل
  • شهر على وقف إطلاق النار.. إسرائيل تواصل الإبادة الجماعية في غزة بأساليب مختلفة
  • بعد مرور شهر على وقف إطلاق النار.. الأورومتوسطي: إسرائيل تواصل الإبادة الجماعية بغزة
  • الأورومتوسطي: "إسرائيل" تواصل الإبادة الجماعية بغزة بأساليب مختلفة
  • رئيسة سلوفينيا: لن نسمح لـ"إسرائيل" بالقضاء على الدولة الفلسطينية
  • فلسطين: مذكرات التوقيف التركية بحق مسؤولين إسرائيليين انتصار للعدالة
  • حماس: سنسلم جثة الضابط التي عثر عليها أمس في رفح الفلسطينية
  • من الردع الي الإبادة.. إسرائيل تكتب الموت بنصوص قانونية