لجريدة عمان:
2025-11-11@18:33:28 GMT

لماذا نجح زهران؟

تاريخ النشر: 11th, November 2025 GMT

مدينة نيويورك تفصلها بين أحداث سبتمبر ٢٠٠١ وأحداث نوفمبر ٢٠٢٥، أربعة وعشرون عامًا تغيّر فيها مشهد المدينة، على الأقل من الجانب السياسي. في الحدث الأول كان المتهم الأول في شنّ تلك الهجمات يُنسب إلى المسلمين، وفي الحدث الأخير هذا الشهر كان زهران ممداني المسلم من أصول هندية هو مثار الجدل ليس في أمريكا أو نيويورك وحدها بل في العالم أجمع عندما فاز في الانتخابات الأخيرة بمنصب عمدة نيويورك.

وما بين الصورتين تناقضٌ صارخ يختزل المسافة بين من كان يُشار إليه يومًا بأصبع الاتهام بانه سبب في التدمير، ومن يُعوَّل عليه اليوم في الإصلاح والبناء. الثيمة واحدة في ظاهرها: ديانةٌ واحدة، ومهاجرٌ قَدِم من عالمٍ فقيرٍ إلى عالمٍ غنيّ؛ غير أنّ الفارق بين المشهدين كالهوة بين الخوف والطمأنينة، وبين الرفض والقبول. في الصورة الأولى، كان المهاجر المسلم عنوانًا للهدم والريبة، وفي الثانية غدا عنوانًا للثقة، يحمل مفاتيح المدينة التي اتُّهِم قومه يومًا بتقويضها.

قصة المهاجر إلى البلد الغربي شغلت تفكير الكثير من المفكرين والأدباء والسياسيين؛ فمنهم من رأى فيه عدوًا متخفّيًا جاء لتقويض قيم المجتمع الغربي وتهديد نسيجه الثقافي، ومنهم من رآه معينًا يمكن تطويعه للبناء والتعمير، وإعادة تشكيله داخل بوتقة القيم الغربية الحديثة. وإن لم يتحقّق هذا الانصهار في الجيل الأول من المهاجرين، فإنه لا محالة حاصل في الأجيال التالية، حيث يتبدّل الانتماء تدريجيًا من الوطن الأم إلى وطن الإقامة، وتذوب الفوارق بين الوافد والأصيل.

ولعلّ أبرز الشواهد على قصص تربع الوافد على قمة المشهد الغربي ذلك ما نشهده اليوم من صعود لافت لأبناء المهاجرين في مواقع القرار، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، في دولٍ كانت حتى وقتٍ قريبٍ تُوصم بأنها مغلقة وعنصرية. فالمجتمعات الغربية على تناقضاتها أدركت بمرور الزمن أن المهاجر ليس خطرًا على هويتها بقدر ما هو فرصة لتجدّدها، وأن التنوّع لم يعد تهديدًا بل شرطًا من شروط الحداثة ذاتها.

ومع مرور العقود، لم تعد ظاهرة المهاجر حضورًا هامشيًا في المشهد الغربي كما كانت في منتصف القرن الماضي، بل أصبحت رقمًا فاعلًا في معادلة السياسة والاقتصاد في العالم الغربي. فقد أفرزت المجتمعات الأوروبية والأمريكية، من بين صفوف المهاجرين وأبنائهم، قيادات تتبوّأ اليوم مواقع القرار، لا بوصفها استثناءً، بل كجزء من تحوّل بنيوي في تلك المجتمعات. فالمهاجر الذي كان يومًا يُنظر إليه كقوة عاملةٍ في المصانع والمرافئ، صار اليوم جزءًا من النخب الحاكمة، يشارك في صياغة السياسات العامة، ويمسك بزمام القرار في قطاعاتٍ حساسة.

في السياسة، يكفي أن نتأمل المشهد في بريطانيا حيث وصل في مرحلة من مراحلها رئيس للوزراء من أصول هندية، وفي الولايات المتحدة حيث تولت منصب نائب الرئيس امرأة من جذور آسيوية وأفريقية، وفي كندا وفرنسا وألمانيا وزراء ومسؤولون من أصول عربية وإفريقية وآسيوية مهاجرة. أمّا في الاقتصاد، فقد انتقلت القيادة في كثيرٍ من الشركات العملاقة إلى أبناء المهاجرين، فأصبحنا نرى وجوهًا غير غربية تتصدر المشهد في مؤسسات المال والتقنية والطاقة.

يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا في المشهد كله: لماذا نجح زهران ممداني في الوصول إلى قيادة أكبر مدينة في العالم، وهو ليس من سلالة الساسة المخضرمين، ولا من نُخب المال والأعمال، ولا من أولئك الذين يصنعون طريقهم عبر أبواب السلطة والنفوذ؟ كيف استطاع شابّ من أصولٍ مهاجرة، لا يملك ثروةً ولا إرثًا سياسيًا، أن ينتزع ثقة مدينةٍ تُعدّ رمزًا للحداثة والرأسمالية والانفتاح العالمي؟

سؤالٌ بدا لكثير من المحللين عصيًّا على إجابة واحدة، فالبعض رآه انعكاسًا لتحوّلٍ اجتماعي عميق في الوعي الأمريكي، حيث تعب الناس من وجوه السلطة التقليدية، وباتوا يبحثون عن صوتٍ جديدٍ يُشبههم لا في الثراء أو الجذور، بل في المعاناة والصدق والبساطة. وآخرون رأوا فيه تجلّيًا لحقيقةٍ أعمق: أنّ المهاجر حين ينخرط في تفاصيل الحياة اليومية للمدينة، يُصبح جزءًا من نسيجها الإنساني، فيتجاوز الصورة النمطية التي رسمها التاريخ عنها، وغيرهم من قال إن نمط الحياة الحديث يتطلب تغييرا في مفهوم القيادة الاجتماعية والإنسانية والبعد عن الأنماط التقليدية في قيادة الأثرياء ورجال الأعمال.

غير أن ما أراه، من وجهة نظر شخصية، هو النظر إلى ما جرى بزاويةٍ أوسع وأعمّ من حدود المدينة أو نتيجة انتخابية عابرة. فالقضية لا تتعلق بنيويورك وحدها، ولا بزهران ممداني في شخصه، بل بما تمثله تجربته من تحوّلٍ في بنية المجتمعات الغربية ذاتها؛ تحوّلٍ أتاح للأجيال اللاحقة من المهاجرين أن تتقدّم بثقةٍ نحو مواقع التأثير.

إن هؤلاء الذين يحملون في دمهم أكثر من عِرق، وفي ذاكرتهم أكثر من ثقافة، وفي وجدانهم أكثر من وطن، قد شكّلوا هويةً هجينةً جديدة، أكثر قدرة على الفهم والتأقلم والابتكار. فالوافد الذي عرف طريقه إلى المدن الكبرى، وعاش على تخومها، صار اليوم أعرف الناس بتفاصيلها: بضعفها وقوتها، بأحلامها وهواجسها، بما تحتاجه من خطابٍ صادقٍ يعيد وصلها بذاتها، ومن هذا الإدراك العميق بالمكان، تنشأ القيادة الجديدة قيادة تُبنى على المعرفة والمعايشة لا على الوراثة أو الامتياز.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من أصول

إقرأ أيضاً:

هل يهز "زهران ممداني" عرش "ترامب"؟

يطلقون عليها: التفاحة الكبيرة، والمدينة الأهم عالميًا، وصاحبة ثاني أهم منصب في الولايات المتحدة الأمريكية بعد منصب الرئاسة. يقطنها نحو (8.5) مليون شخص معظمهم من المهاجرين (23.3% من السكان)، ومنهم نحو (12%) من اليهود يمثلون أكبر تجمع سكاني لليهود بعد إسرائيل، كما أن كثيرًا من أثرياء المدينة من اليهود بطبيعة الحال. وهي بحق عاصمة المال والثقافة والموضة والإعلام، فضلًا عن السياسة، إذ بها مقر هيئة الأمم المتحدة، وتمثال الحرية، و"تايمز سكوير"، و"سنترال بارك"، ومسارح "برودواي" الشهيرة، فضلًا عن مركز التجارة العالمي الذي ضُرب في أحداث 11 سبتمبر 2001م، إضافة إلى متحف المتروبوليتان للفنون، وبورصة "وول ستريت" المالية، وغيرها من المعالم الكبرى.

عن مدينة نيويورك أتحدث، والتي شهدت مؤخرًا زلزالًا سياسيًا بفوز الديمقراطي "زهران ممداني" بمنصب عمدة نيويورك على غير هوى الرئيس الأمريكي الجمهوري "دونالد ترامب" واللوبي اليهودي القوي (الإيباك)، وهو ما يمثل الذروة في سلسلة انتصارات سياسية حققها الديمقراطيون ضد الجمهوريين، من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، بعد عام واحد فقط من الانتصار الكبير لـ "ترامب" في انتخابات عام 2024م، وقبل عام واحد من الانتخابات النصفية للكونجرس، والتي يمكن أن تقلب المعادلات السياسية الراهنة بالبلاد رأسًا على عقب!

و"ممداني" صاحب الـ (34) عامًا، مسلم شيعي يحمل الجنسية الأوغندية، وهو من أصول هندية، ومتزوج من أمريكية ذات أصول سورية، وهو حاصل على الجنسية الأمريكية عام 2018م، وينتمي إلى الحزب الديمقراطي، وبتحديد أكثر - وعلى حد وصفه بنفسه- بأنه "اشتراكي ديمقراطي".

وقد فاز "ممداني" بالمنصب بعد أداء سياسي وحملة انتخابية سحر خلالها الناخبين، ولا سيما جيل الشباب، واعدًا بتغيير طريقة حكم المدينة والتصدي المباشر لنهج "ترامب"، الذي سعى بأشكال شتى للحيلولة دون فوز "ممداني"، عبر تقديم الدعم - على مضض- لحاكم الولاية السابق الديمقراطي "أندرو كومو"، والذي ترشح مستقلًا بعدما خسر أمام "ممداني" في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.

وبهذا الفوز، صار "ممداني" العمدة رقم 111 للمدينة، وأصغر حاكم لها منذ نحو قرن من الزمان، كما أنه يمثل الجناح الاشتراكي التقدمي المناوئ للتيار اليميني المتشدد الذي يمثله "ترامب"، حيث يدعو "ممداني" دائمًا إلى حقوق العمال (أصحاب الياقات الزرقاء) والمهاجرين والأقليات، وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية لهم، مع فرض ضرائب أكثر على الأثرياء.

وإضافة إلى ما سبق، يثير "ممداني" حفيظة اللوبي اليهودي نظرًا لمواقفه القوية المساندة لغزة وإدانة حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل ضد أهل غزة لمدة عامين بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023م، حيث واجه ورفض "ممداني" محاولات اللوبي الصهيوني وصفه بـ "معاداة السامية".

وأخيرًا.. يبدو أن "ممداني" سيصبح صداعًا في رأس "ترامب"، والذي دعا من قبل صراحة إلى عدم انتخابه، مهددًا بأنه سيرحله من البلاد باعتباره مهاجرًا، بل هدد بأنه سيقلص ميزانية نيويورك إذا فاز!!

مقالات مشابهة

  • السيدات تتصدرن المشهد في اليوم الثاني لانتخابات مجلس النواب بحدائق أكتوبر | فيديو
  • مهرجان القاهرة يحتفي بالنجم خالد النبوي بعرض فيلمي المهاجر والمواطن
  • احتفاء بـ خالد النبوي.. مهرجان القاهرة السينمائي يعرض فيلمي «المهاجر» و«المواطن»
  • انتخابات النواب في الجيزة.. إقبال كثيف وتصدر نسائي في اليوم الأول (فيديو)
  • مهرجان القاهرة يحتفي بالنجم خالد النبوي بعرض فيلمي "المهاجر" و"المواطن"
  • سيدات سيوة ومرسي مطروح يتصدرن المشهد الانتخابي فى اليوم الأول “صور ”
  • هل يهز "زهران ممداني" عرش "ترامب"؟
  • لماذا تخاف إسرائيل من زهران ممداني؟
  • حكومة إقليم تيغراي تدعو إلى إعادة المهاجرين الإثيوبيين من اليمن