الجزيرة:
2025-11-19@14:42:47 GMT

إيران وانتخابات العراق.. الجار الحاضر في كل صندوق

تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT

إيران وانتخابات العراق.. الجار الحاضر في كل صندوق

في صباح 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، كان المشهد في كثير من مراكز الاقتراع العراقية هادئا على نحوٍ مقلق؛ طوابير أقصر من السنوات الأولى بعد سقوط صدام حسين، شباب يراقبون من المقاهي، وشاشات تلفاز تتوزع بين أخبار غزة وطهران وبغداد، أكثر مما تتوقف عند أسماء المرشحين.

في خلفية هذا الهدوء، كانت إحدى أكبر القوى الحاضرة في المعادلة هي تلك التي لا تصوّت أصلا: إيران.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ما قصة الرجل الغريب بيغوفيتش؟list 2 of 2قرى محصّنة.. كيف تشكلت العقيدة الأمنية لإسرائيل وماذا بقي منها اليوم؟end of list

انتخابات 2025 هي سادس انتخابات برلمانية منذ عام 2003، شارك فيها نحو 8000 مرشح يتنافسون على 329 مقعدا، بينما لم يُحدِّث سجلاته الانتخابية إلا قرابةُ ثلثي الناخبين المؤهلين.

ورغم أن تحالف "الإعمار والتنمية" بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تصدّر النتائج وحصل على 46 مقعدا وفق الأرقام الأولية، فإنه لم يقترب من عتبة الأغلبية، تماما كما حدث في عامي 2018 و2021، في انتخابات تنتهي دائما عند نفس السؤال: من سيتولى تشكيل الحكومة؟ ومن سيجلس في الغرف المغلقة ليحسم الأسماء؟

من هنا، لا يمكن قراءة انتخابات 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إلا كفصلٍ جديد في قصة أطول بكثير: قصة دور إيران في المعادلة الانتخابية العراقية منذ عام 2003، دور تحوّل من رعاية قوى شيعية معارضة في المنفى، إلى هندسة حكومات كاملة بعد الانتخابات، وصولا إلى لحظة 2025 حيث تبدو طهران أقل قوة من ذي قبل، لكنها أبعد ما تكون عن الغياب.

View this post on Instagram

انتخابات تحت ظلال الجغرافيا.. 11 نوفمبر مرآة لعقدين

دخل العراقيون انتخابات 2025 وسط حالة من اللامبالاة الشعبية، ومقاطعة مؤثرة من التيار الصدري، وتوترٍ أمني في كركوك ومناطق أخرى، بينما حافظت الأحزاب التقليدية -وخاصة المدعومة من فصائل "الحشد الشعبي"- على شبكاتها الانتخابية في المحافظات الشيعية.

خرج تحالف السوداني من الصناديق بوصفه الكتلة الأولى في 8 محافظات بينها بغداد والنجف، لكن دون أغلبية، في مشهد يكرر المعادلة المعروفة: لا فائز يحكم وحده، ولا خاسر يخرج من اللعبة تماما.

إعلان

في الخلفية، كانت التقارير الصادرة عن مراكز أبحاث غربية وعراقية تتحدث قبل الانتخابات أن الأحزاب المقربة من إيران -من بقايا فتح وبدر والعصائب وحلفائها- قد تستفيد من غياب الصدريين ومقاطعة جزء من الشارع الغاضب، لتوسّع حصتها داخل البيت الشيعي، ولو على حساب شرعيتها الشعبية الأوسع.

لكن، كيف وصلنا أصلا إلى لحظةٍ يكون فيها "الإطار التنسيقي" الذي يضم جزءا كبيرا من هذه القوى هو الكتلة الحاكمة بعدما خسر عددا مُهما من مقاعده في انتخابات 2021؟ وكيف تراكم نفوذ طهران في الانتخابات العراقية بين عامي 2005 و2018، ثم تراجع جزئيا في 2021 ليعود بوجهٍ جديد عام 2025؟

للإجابة ينبغي الرجوع إلى ما قبل أول صندوق اقتراع عراقي بعد الغزو.

الإطار التنسيقي الذي يضم القوى الشيعية عقد اجتماعا بحضور السوداني (وكالة الأنباء العراقية)من المعسكر إلى البرلمان.. البذرة الأولى بعد 2003

منذ اللحظات الأولى بعد سقوط بغداد عام 2003، كان واضحا أن طهران لا تتعامل مع العراق "كجارٍ عادي"، بل كعمق إستراتيجي لا يُحتمل أن يذهب إلى معسكر معادٍ، أو حتى أن يبقى ساحة مفتوحة بلا ضوابط.

تشير دراسة صادرة عن مركز مكافحة الإرهاب في "ويست بوينت" إلى أن الجمهورية الإسلامية استخدمت فيلق القدس لرعاية وكلائها العراقيين من جماعات المجموعات الخاصة بعد الغزو. ومن بين هذه الجماعات تمثلت "بدر" التي تأسّست في إيران خلال الحرب مع العراق، وأصبحت لاحقا لاعبا مؤثرا داخل المؤسسات الأمنية والسياسية العراقية.

وبعد عام 2003، تحولت بدر -بحسب نفس المصدر- إلى الذراع "العلني" لفيلق القدس داخل الدولة العراقية، عبر إدماج كوادرها في وزارة الداخلية ووحدات خاصة من الجيش، ما جعلها شبكة تمتد بين السلاح الرسمي والتمثيل السياسي، قبل أن تصبح لاحقا جزءا من "ائتلاف دولة القانون" ثم من تحالف "الفتح".

بالتوازي، كانت طهران توزع الرهانات: تدعم بدر والمجلس الأعلى، وتبقي قنواتها مفتوحة مع حزب الدعوة وأجنحته، وتطور علاقاتها مع فصائل مسلحة أخرى أكثر تشددا، ستُعرَف لاحقا باسم "المجاميع الخاصة" أو "المقاومة".

تشير دراسات -من ضمنها تقرير "Clingendael" لعام 2017- إلى أن نفوذ إيران استثمر واقع التعددية والانقسامات داخل البيت الشيعي العراقي، بحيث ظلت طهران وسيطا ضروريا في كثير من التفاهمات. وعليه، ثمّة من يرى أن طهران تعمدت ألا تراهن على فصيل واحد.

بهذه الخلفية دخل العراق أول انتخابات برلمانية حقيقية عام 2005.

2005 و2010.. من الصندوق إلى طاولة التفاوض في إيران

تشير دراسة صادرة عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أن طهران سعت، منذ أول انتخابات عراقية بعد الغزو، إلى التأثير في اتجاهات التصويت والتحالفات الشيعية.

فبحسب التقرير، قدّمت إيران دعما ماليا وسياسيا لمرشحين وكيانات قريبة منها في انتخابات عام 2005 والانتخابات المحلية عام 2009، ضمن سياسة "رعاية الوكلاء" التي اعتمدتها في العراق منذ سقوط النظام السابق.

كما يذكر التقرير أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني لعب دورا مباشرا في مفاوضات تشكيل الحكومة بعد انتخابات يناير/كانون الثاني 2005، وهي المفاوضات التي انتهت بصعود "الائتلاف العراقي الموحد" -المكوّن من المجلس الأعلى وحزب الدعوة وقوى شيعية أخرى- إلى رأس السلطة، مانحا القوى الشيعية الحليفة لإيران موقعا مهيمنا في معادلة ما بعد الدستور.

إعلان

ويرى التقرير أن الدعم الإيراني للائتلاف الشيعي في تلك المرحلة لم يكن تفصيلا ثانويا، بل جزءا من مقاربة أوسع هدفها ضمان أن تكون يد القوى الأقرب لطهران هي العليا داخل النظام السياسي الجديد. غير أن هذا النمط من التأثير سيصبح أوضح وأكثر تنظيما بعد 5 سنوات، مع اشتداد صراع النفوذ على حكومة ما بعد انتخابات 2010.

في انتخابات 2010، حصلت قائمة "العراقية" بزعامة إياد علاوي على أكبر عدد من المقاعد، متقدمة بفارق ضئيل على "دولة القانون" بقيادة نوري المالكي.

لكن النتيجة لم تُترجم إلى رئاسة حكومة لعلاوي، بل إلى أطول مأزق لتشكيل حكومة منذ عام 2003، انتهى بتحالف غير متوقع بين المالكي ومقتدى الصدر، ومعهما أطراف شيعية أخرى، ضمن صفقة شاملة ضمنت بقاء جلال طالباني رئيسا للجمهورية.

نقلت صحيفة الغارديان البريطانية في حينه عن مصادر عراقية وإقليمية أن إيران كانت "الوسيط الحاسم" في هذه الترتيبات، إذ استضافت اجتماعات رفيعة في طهران وقُم جمعت المالكي والصدر وقادة أكرادا، أفضت إلى إعادة تكليف المالكي برئاسة الحكومة رغم حلوله ثانيا في عدد المقاعد.

وتقدّم تقارير أخرى صورة متقاربة: قائد فيلق القدس قاسم سليماني لعب دورا مباشرا في صياغة التفاهم بين القوى الشيعية الكبرى، على قاعدة "لا مجال لعودة رجل قريب من الأميركيين إلى رئاسة الحكومة حتى لو فاز انتخابيا".

من هنا ترسخ مبدأ: نتائج الصندوق مهمة، لكن الأهم هو من يجلس حول الطاولة بعده، ومن يملك مفاتيح التواصل بين الفرقاء المتخاصمين.

في هذا المستوى كانت إيران لاعبا لا يمكن تجاوزه.

 

2014- 2018.. الحشد الشعبي يدخل اللعبة

أعاد صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بين عامي 2014 و2017 رسم المشهد كليا. لم يكن ذلك التنظيم تهديدا لبغداد وحدها، بل لطهران أيضا. وسرعان ما وجدت إيران في الحرب على التنظيم فرصة لتوسيع نفوذها العسكري والسياسي معا.

تشير تقارير "مجموعة الأزمات الدولية" وغيرها إلى أن فصائل الحشد الشعبي التي تشكلت استجابة لفتوى "الجهاد الكفائي"، نسجت علاقات وثيقة مع فيلق القدس الذي وفر لها السلاح والخبرة والمستشارين، إلى جانب دعم مالي وسياسي.

برزت من بين هذه الفصائل أسماء مثل: منظمة بدر بزعامة هادي العامري، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وكتائب الإمام علي، وتنتمي كلها تقريبا إلى ما بات يُعرف في الأدبيات الأمنية باسم "محور المقاومة" أو "المقاومة" (المقاومة العراقية) المدعوم إيرانيا.

بعد هزيمة تنظيم الدولة عسكريا، تحوّل جزء كبير من هذه الفصائل إلى العمل السياسي المباشر عبر تحالف الفتح بقيادة هادي العامري، الذي ضم بدر والعصائب وفصائل أخرى، ليدخل انتخابات 2018 لاعبا رئيسيا.

كانت النتائج لافتة: حل تحالف "سائرون" المدعوم من التيار الصدري أولا بعد نيله 54 مقعدا، بينما حصل تحالف الفتح على 48 مقعدا، وأتى ائتلاف النصر لرئيس الوزراء حيدر العبادي، و"دولة القانون" لنوري المالكي، بأرقام أدنى.

في السنوات التي تلت المعارك ضد تنظيم تنظيم الدولة، لم يعد "الحشد الشعبي" مجرد قوة تعبئة عسكرية وُلدت من فتوى ظرفية، بل تحوّل تدريجياً إلى كتلة سياسية راسخة تمتلك تمثيلا برلمانيا واسعا، يسانده نفوذ عسكري واقتصادي متنامٍ داخل الدولة العراقية.

وتشير دراسة إيرانية (2025) نشرتها "المجلة الإيرانية لبحوث السياسة الدولية" إلى هذا التحول بوضوح، مشيرة إلى أن الفصائل المرتبطة بالحشد -والمقرّبة من فيلق القدس- أصبحت جزءا بنيويا من معادلة الدولة، وليست مجرد امتداد عسكري خارجها.

وتؤكد الدراسة أن هذه الفصائل نجحت في تحويل قوتها العسكرية إلى نفوذ سياسي منظم، وأن طهران تعاملت معها بوصفها أذرعا مباشرة داخل المؤسسات العراقية، لا مجرد حلفاء موسميين.

إعلان

كان هذا التحوّل بالنسبة لإيران مكسبا من نوع جديد: فلم تعد بحاجة إلى الاكتفاء بالرهان على أحزاب المعارضة القديمة أو على علاقاتها التاريخية مع المجلس الأعلى وحزب الدعوة، بل أصبحت على علاقة وثيقة مع منظمة الحشد الشعبي التي -وفق عدد من الدراسات الأمنية- تُقدَّم أحيانا بوصفها منظومة سياسية أمنية متكاملة داخل الدولة، قادرة على لعب دور تفاوضي مؤثر في تشكيل الحكومات ورسم بعض الخطوط الحمراء، دون الحاجة إلى وسطاء كما كان الحال سابقا.

لكن هذا الصعود السريع لم يمرّ بلا ارتداد. فبعد عام واحد فقط، ومع احتجاجات 2019 والضغط الشعبي ضد الفصائل، بدأ النفوذ ذاته يواجه اختبارا قاسيا، كشف التوتر الداخلي بين القوة التي اكتسبتها هذه الكتلة وبين شرعيتها المتآكلة أمام الشارع.

في السنوات التي تلت معارك 2017 لم يعد الحشد الشعبي مجرد قوة تعبئة عسكرية بل تحوّل إلى كتلة سياسية راسخة (رويترز)انتفاضة 2019 وانتخابات 2021.. الشارع ينتفض على "النفوذ"

في أكتوبر/تشرين الأول 2019، انفجرت احتجاجات واسعة في بغداد وجنوب العراق، رفعت شعارات ضد الفساد والطائفية، وضد كل الطبقة السياسية التي نشأت بعد عام 2003. لكن اللافت أن جزءا من الغضب كان موجها صراحة ضد إيران، إذ أُحرقت قنصليات في النجف وكربلاء، ورُفعت شعارات هتفت ضد "الحكم من خارج الحدود".

مع سقوط حكومة عادل عبد المهدي تحت ضغط الشارع، بدا أن "وصفة" إيران -حكومة توافقية تستوعب الأحزاب حليفة طهران وتستخدم الحشد كضمانة- دخلت في أزمة حادة. ومع ذلك، ظل نفوذها حاضرا في كواليس اختيار البديل.

في انتخابات 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، سُجِّل أدنى معدل مشاركة منذ 2003 (نحو 44%)، لكن النتائج حملت رسالة صريحة: التيار الصدري حصل على 73 مقعدا، ليصبح الكتلة الأولى، بينما تراجَع تحالف الفتح إلى 17 مقعدا فقط، في هزيمة واضحة للفصائل الأقرب إلى طهران.

رفض قادة الفصائل العراقية المقربة من إيران هذه النتائج، وخرج أنصارهم في احتجاجات وصلت حد الاعتصام قرب المنطقة الخضراء، والتهديد بإسقاط العملية السياسية إذا لم تُعدَّل النتائج.

لم تكن الخسارة الانتخابية التي مُني بها حلفاء طهران في اقتراع 2021 مجرد "هزيمة لنفوذ إيران"، كما ذهبت بعض القراءات الأولى، فبحسب تحليل لمركز "المجلس الأطلسي"، فإن تراجع مقاعد القوى القريبة من إيران "لا يعني بالضرورة تراجعا مكافئا للنفوذ الإيراني في العراق"، لأن الصورة -كما يقول التقريرـ "أكثر تعقيدا بكثير من سردية الفوز والخسارة المباشرة".

يضيف التحليل أن ما بدا صدمة انتخابية لطهران سرعان ما تبيّن أنه جزء من معادلة أعمق، إذ تمتلك إيران نفوذا متشعّبا في العراق لا يقتصر على نتائج الصندوق، بل يمتدّ إلى شبكات سياسية وعسكرية واقتصادية تراكمت منذ 2003، ويمكنها أن تُبقي الكتل الحليفة في موقع تفاوضي قوي حتى عندما تتراجع مقاعدها البرلمانية.

ولهذا يشير التقرير إلى أنّ "طهران لم تخسر العراق" بقدر ما واجهت متغيّرا يحتاج إلى إعادة ضبط إستراتيجيتها للتعامل مع مشهد انتخابي جديد، لكنه لا يلغي ركائز نفوذها التقليدية، وهو ما ستُظهره لاحقا شهور ما بعد التصويت، حين تمكنت القوى المدعومة من إيران من استعادة مساحات مؤثرة في مفاوضات تشكيل الحكومة، رغم خسارتها العددية داخل البرلمان.

ما بعد 2021.. من الهزيمة الانتخابية إلى تشكيل الحكومة

حاول مقتدى الصدر بعد الانتخابات تشكيل ما سمّاها "حكومة أغلبية وطنية" تستبعد قوى "الإطار التنسيقي" المقرب من إيران. لكن التعقيدات الدستورية، وانقسام البيت الكردي، وصراع النفوذ بين الفصائل الشيعية، أدت إلى انسداد كامل.

اتخذ الصدر قرار الانسحاب من البرلمان في منتصف 2022، مستقيلا بنوابه وعددهم 73، ما فتح الباب أمام دخول مرشحين بدلاء من القوى المنافسة، في مقدمتهم قوى الإطار.

وسرعان ما انقلبت الموازين داخل المجلس، ليُصار إلى اختيار محمد شياع السوداني -المحسوب على جناح نوري المالكي سابقا- رئيسا للوزراء، بدعم صريح من القوى الأقرب إلى طهران.

وبعد انتخابات 2021، قالت تقارير تحليلية -من بينها تقرير لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بعنوان "إعادة تشكيل العراق.. كيف استحوذت المليشيات المدعومة من إيران على الدولة"- إن طهران لا تخسر فعليا عندما تخسر القوى المقرّبة منها في صناديق الاقتراع، لأنها تملك ما هو أثمن من عدد المقاعد: شبكة ممتدة داخل الدولة، من الأحزاب إلى الفصائل المسلحة، ومن الاقتصاد الموازي إلى أجهزة الأمن.

إعلان

هذه الشبكة -كما يوضح التقرير- تجعل إيران قادرة على العودة إلى قلب معادلة السلطة حتى عندما تتراجع نتائج حلفائها انتخابيا.

ويشير التقرير بشكل صريح إلى أن معركة تشكيل الحكومة -وليس عدد الأصوات- هي المكان الذي تمارس فيه الجماعات المدعومة من إيران نفوذها الحقيقي؛ فحتى حين خسر تحالف الفتح معظم مقاعده في انتخابات 2021، استطاعت القوى المرتبطة بطهران أن تعيد ترتيب المشهد من الداخل، وتدفع إلى الواجهة برئيس وزراء غير معاد لها، وهو ما منحها قدرة على تعويض الخسارة داخل البرلمان بربح أكبر على طاولة السلطة.

لهذا دخلت انتخابات 2025 وهي محمّلة بإرث ثقيل: شارع ثائر يرى منذ 2019 أن اللعبة مغلقة مهما تغيّر شكل الصندوق، وتيار صدري فاز ثم انسحب مقتنعا بأن العودة بلا شروط ستكون عبثا، وقوى الإطار التنسيقي -الأقرب إلى طهران- أكثر ثقة بأن أي نتيجة نسبية يمكن تحويلها إلى نفوذ حقيقي داخل الحكومة المقبلة، طالما بقيت مفاتيح الغرف المغلقة في أيديها.

2025.. عودة "الإطار" من صندوق آخر

كانت تحليلات عديدة قبل الانتخابات بأيام، تشير إلى أن الانقسام داخل البيت الشيعي بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري وقوى مستقلة، سيجعل صناديق 11 نوفمبر/تشرين الثاني أشبه باستفتاء داخلي على وزن كل تيار، أكثر من كونها سباقا بين مشروعين مختلفين لإدارة الدولة.

أكدت النتائج الأولية تقدم تحالف السوداني في محافظات أساسية، إلى جانب أداء ملحوظ لقوى كردية وسنية تقليدية، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف "تقدم" بزعامة محمد الحلبوسي، في حين بقيت قوى مرتبطة بالحشد الشعبي -مثل بدر والعصائب وحلفائهما- حاضرة في البرلمان، وإن بتشكيلات انتخابية متفاوتة، بعضها اندمج تحت عباءة السوداني، وبعضها الآخر تحالف في قوائم منفصلة.

في موازاة ذلك، خرجت تقديرات مؤسسات بحثية مثل "معهد دراسة الحرب"، لتقول إن الأحزاب المدعومة إيرانيا "في موقع جيد لتوسيع نفوذها بعد الانتخابات"، مستفيدة من مقاطعة التيار الصدري، وانخفاض تمثيل قوى الحراك المدني، واستمرار نظام المحاصصة الذي يجعل من كل حكومة نتيجة لمساومات طويلة بين الكتل الشيعية-السنية-الكردية.

في الشارع، ظل المزاج أقرب إلى اللامبالاة الساخرة: كثيرون صوتوا لأنهم مربوطون بشبكات وظائف ورواتب وخدمات تديرها الأحزاب، وكثيرون قاطعوا لأنهم مقتنعون بأن "النتيجة الحقيقية لا تُحسم في المفوضية العليا للانتخابات، بل في المكاتب المغلقة حيث تجلس الأحزاب مع الوسطاء الإقليميين"، وفي مقدمتهم الإيرانيون.

محمد شياع السوداني ومحمد الحلبوسي أثناء التصويت على حكومة السوداني في البرلمان ببغداد (رويترز)كيف تدير طهران نفوذها الانتخابي؟ من "قائد الظل" إلى براغماتية 2025

ووفق دراسة "إعادة تشكيل العراق.. كيف استولت المليشيات المدعومة من إيران على الدولة" الصادرة عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، لم تعتمد طهران خلال العقدين الماضيين على "رجل واحد" أو وكيل واحد داخل العراق، بل بنت ما يشبه شبكة متداخلة من الأحزاب والمليشيات والولاءات داخل مؤسسات الدولة.

هذا النموذج المتعدّد -وليس الرهان على كتلة واحدة- هو ما أتاح لها أن تمتص الخسائر الانتخابية عندما تقع، وأن تعود عبر بوابة تشكيل الحكومة، حيث تُحسم المعادلة الحقيقية، مهما تغيّرت الأرقام داخل صناديق الاقتراع.

كما حرصت طهران على الموازنة بين الصلابة الأيديولوجية والبراغماتية، فقد كان الخطاب في السنوات الأولى بعد 2003 يدور حول "محور المقاومة" ومواجهة الاحتلال الأميركي.

لاحقا، وخاصة بعد انسحاب معظم القوات الأميركية، وظهور تنظيم تنظيم الدولة ثم الانكماش الاقتصادي داخل إيران نفسها، بات الشعار الأهم هو حماية النفوذ بأقل كلفة ممكنة: عبر الاستثمار في الأحزاب والانتخابات والاقتصاد، لا في المواجهة المباشرة.

كذلك، دمجت بين السلاح والسياسة ولم تستبدل أحدهما بالآخر، حيث دخلت الفصائل التي قاتلت الأميركيين ثم تنظيم الدولة قبة البرلمان، لكنها لم تُسلِّم سلاحها بالكامل، بل حافظت على "ذراع مسلحة" موازية للدولة، تسمح لها بالضغط عند الحاجة، سواء في الشارع أو في التفاوض أو في العلاقة مع واشنطن.

كما استفادت إيران، إلى جانب السلاح والسياسة، من فتح سوق عراقية ضخمة لبضائعها، ومن مشاريع بنى تحتية ومؤسسات صحية وتعليمية، خاصة في الجنوب، ما خلق طبقة من رجال الأعمال العراقيين المرتبطين اقتصاديا بطهران. وهذا النوع من النفوذ لا يختفي بهزيمة انتخابية هنا أو هناك، لأنه متجذر في الحياة اليومية.

كما تمكنت السياسة الإيرانية من التكيّف مع تغيّر الأسماء، فمن إبراهيم الجعفري إلى المالكي، فحيدر العبادي، فعادل عبد المهدي، وصولا إلى السوداني، تغيرت أسماء رؤساء الوزراء، لكن القاسم المشترك أنه نادرا ما غابت طهران عن كواليس تشكيل الحكومات وفق معظم التحليلات، بل غالبا ما كانت لها كلمة مسموعة في هوية رئيس الوزراء أو في ملامح تحالفه الحاكم.

في دراسة فارسية نشرتها مجلة "المجلة الإيرانية لبحوث السياسة الدولية"، تؤكد أن اغتيال القائد سليماني مطلع 2020 لم يُنهِ النفوذ الإيراني في العراق وسوريا واليمن، بل إن المؤسسة بقيت قادرة على إعادة تنظيم نفسها داخل الدولة العراقية رغم إزالة أحد أعمدتها الكاريزميين.

مؤيدو مرشحي منظمة بدر يحملون لافتات خلال تجمع انتخابي قبل الانتخابات البرلمانية العراقية في مدينة الحلة بالعراق (رويترز)إيران التي وصلت إلى انتخابات 2025.. قوة تحت الضغط

ما يجب ألّا يغيب عن قراءة دور إيران في انتخابات 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 هو أنها لم تعد إيرانَ العقد الماضي. فبين عامي 2024 و2025 تعرضت طهران لأكبر سلسلة من الهزّات منذ الحرب مع العراق، وهو ما جعل تدخلها في البلاد -رغم استمراره- يأتي بملامح أكثر حذرا وبراغماتية، وأقل ثقة بالنفس مما كان عليه في سنوات ما بعد 2010.

وفي تحليل تطورات المنطقة بعد منتصف 2024، يمكن الإشارة إلى 3 تغيّرات مركزية هزّت "محور النفوذ الإيراني" على امتداد المشرق:

الضربات الإسرائيلية الأميركية المباشرة 

في هجمات مكثفة خلال يونيو/حزيران 2025، استُهدفت مواقع نووية ومراكز تطوير صاروخي ومخازن عسكرية داخل إيران نفسها.

بعض هذه الهجمات كانت "الأعمق" داخل العمق الإيراني منذ عقود، وكشفت ثغرات في المنظومات الدفاعية وفي قدرة الردع التي اعتادت طهران الاتكاء عليها.

خسرت إيران في تلك الضربات عددا من قادة الحرس الثوري من الدرجات الوسطى والعليا، ممن كانوا يشرفون على خطوط الدعم الممتدة إلى العراق وسوريا ولبنان.

التآكل الإقليمي لشبكات النفوذ 

في سوريا، خسرت إيران حليفها المهم الرئيس السابق بشار الأسد، وفقدت "السيطرة شبه المطلقة" التي كانت توفّرها لها سنوات الحرب الكبرى.

في لبنان، دخل حزب الله مرحلة سياسية وأمنية معقدة، تحت انتكاسة غير مسبوقة، وتزايد الانتقادات الداخلية، وانكشاف بعض بنيته العسكرية أمام ضربات متتالية لإسرائيل. وهذا ما جعل نفوذ إيران هناك أقل قدرة على فرض الإيقاع الإقليمي.

في غزة، رغم استمرار العلاقة بين إيران وحركات المقاومة، فإن التطورات الميدانية العنيفة خلال عامي 2024 و2025، وما تلاها من ضغوط دولية وعسكرية، قلصت قدرة طهران على استخدام الساحة الفلسطينية كما كانت تفعل سابقا، وباتت "تحت سقف جديد" فرضته موازين القوى الجديدة، وتحديدا بعد خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في القطاع.

تراجع القدرة على المبادرة 

في تحليل نشرته النسخة الإنجليزية من صحيفة "لوموند" الفرنسية يوم 14 يونيو/حزيران 2025، تحت عنوان "هجوم إسرائيل على إيران.. انهيار ما يسمى محور المقاومة الموالي لطهران"، تقدّم الصحيفة صورة مختلفة تماما عن المشهد الذي اعتادت إيران التحرك فيه قبل سنوات.

تقول "لوموند" إن حلفاء طهران الذين شكلوا لعقدٍ كامل ما يُعرف بمحور المقاومة، باتوا اليوم يتحركون بقدر أكبر من الحذر و"يوازنون مخاطر الانخراط" بدل المبادرة والهجوم، في إشارة إلى أن هذا المحور الذي كان يتقدّم بثقة، بات يتحرك بحذر أكبر تحت ضغط الضربات العسكرية المتتالية، والاضطراب الاقتصادي داخل إيران، وتحولات البيئة الإقليمية.

وبحسب التقرير، فإن إيران المثقلة بخسائر في سوريا ولبنان وغزة وبالضربات الإسرائيلية الأميركية على عمقها الداخلي، تبدو منشغلة بإعادة ترتيب أولوياتها، أكثر من سعيها إلى فتح جبهات جديدة.

وهكذا، يتحول "محور طهران" من كتلة كانت تتصرف باعتبارها صاحبة المبادرة في الإقليم، إلى شبكة تتفادى المجازفة، وتتعامل مع كل خطوة بميزانٍ أدق، مدفوعةً بحسابات البقاء لا حسابات التمدد.

لا يعني هذا التحوّل تراجع نفوذها في العراق، لكنه يعني أنه أصبح أكثر أهمية لها، لأن خسارته تُعتبر خسارة العمق الوحيد المتماسك المتبقي بعد اهتزاز ساحات سوريا ولبنان وغزة.

عندما دخلت إيران مشهد انتخابات 2025، كانت تفعل ذلك وهي تحمل على كتفيها وزن سنة كاملة من المواجهات غير المسبوقة. لهذا ظهرت سياساتها في بغداد أقل نزقا، وأكثر حرصا على تثبيت التحالفات التي تضمن لها الحد الأدنى من النفوذ، لا السعي إلى السيطرة الكاملة كما في 2010 أو 2014.

بعبارة أخرى، دخلت إيران انتخابات 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 وهي أكثر براغماتية، أقل ثقة، وأكثر احتياجا للاستقرار العراقي من أي وقت مضى.

وهذا ما يجعل انتخابات 2025 -رغم كل تشابهها مع دورات السنوات السابقة- جزءا من مرحلة جديدة؛ مرحلة يعاد فيها تشكيل معنى "النفوذ الإيراني" نفسه، ليس بفعل العراق وحده، بل بفعل التحولات الكبرى التي أصابت إيران في الإقليم وفي الداخل.

الانقسام بين التيار الصدري والإطار التنسيقي وتنامي أدوار شخصيات شيعية مستقلة يجعلان التحكم في المشهد أصعب بكثير مما قبل  (أسوشيتد برس)حدود النفوذ.. ماذا تقول لنا انتخابات 2025؟

يتكرر السؤال مع كل دورة انتخابية: هل تراجع نفوذ إيران في العراق، أم أنه يعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة؟ تقدم انتخابات 2025 صورة مركبة:

نعم، هناك تراجع في "الهالة"، فقد كان عقد 2010 ذروة نفوذ إيران في السياسة العراقية: حكومات متعاقبة أقرب إلى خياراتها، وخصم أميركي منشغل بالانسحاب، وشرعية مقاومة الاحتلال حاضرة بقوة.

لكنْ لا، لم يتبخر النفوذ، فتصدّر تحالف السوداني في 2025، مع خلفيته المرتبطة بقوى الإطار التنسيقي، يُظهر أن طهران ما زالت تملك حلفاء أقوياء داخل المشهد الرسمي. كما أن استمرار السلاح الموازي للدولة، عبر فصائل الحشد الأقرب إلى فيلق القدس، يمنح إيران قدرة ضغط لا تحظى بها أي دولة أخرى داخل العراق.

لم تكن أزمة المشاركة مجرد رقمٍ باهت في دفاتر المفوّضية، بل أشبه ما يكون "بتصويت عقابي" على النموذج السياسي كلّه. ففي تحليل نشرته الجزيرة نت يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2025 بعنوان "الانتخابات العراقية.. ما قبل الاقتراع وما بعد الدولة"، يظهر أن انخفاض الإقبال، وتراجع تحديث السجلات لدى كتلة واسعة من الناخبين، يعكسان إدراكا شعبيا متصاعدا بأن "الآليات الحالية للحكم وصلت إلى نهايتها"، وأن الصندوق لم يعد يُقنع الشارع بأنه قادر على تحريك ميزانٍ تعفّن في مكانه.

هذا المزاج -كما يشرح التقرير- لا يستهدف حكومة بعينها، بل يطال البنية التي تستظل بها القوى كافة، بما فيها الأحزاب الأقرب إلى طهران. فالنموذج الذي يستمد شرعيته من تكرار الانتخابات، يتشقّق حين يتراجع الجمهور عن الوقوف أمام المراكز، ويبدأ بإعادة تعريف الشرعية خارج أوراق الاقتراع، وخارج النظام الذي صُمّم قبل 20 عاما.

وبالتوازي، لم يعد المشهد العراقي يدور في فلك الثنائية القديمة: إيران في جهة، وأميركا في الجهة المقابلة. التحليل نفسه يلفت إلى عراقٍ أصبح ساحةً أوسع: نفوذ تركي يتمدّد في الشمال، استثمارات خليجية تقتحم الطاقة والاقتصاد، وحضور صيني روسي يتسرّب إلى البنية التحتية والتسليح. هذا التداخل يُقصي أي قوة -بما فيها إيران- عن احتكار النفوذ كما كانت تفعل في سنوات سابقة.

بهذا المعنى، يصبح الخصم الأخطر للنموذج الحالي ليس واشنطن، ولا طهران، ولا أنقرة، ولا الرياض.. بل الشارع نفسه. شارعٌ قرّر أن يبتعد عن الصندوق، وأن ينتزع تعريف الشرعية من الغرف المغلقة، ليعيد وضع القاعدة الأساسية: أي نفوذ -مهما تعاظم- لا يصمد طويلا فوق أرض تبتعد عنه.

أصبحت توازنات البيت الشيعي أكثر هشاشة، فالانقسام بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، وتنامي أدوار شخصيات شيعية شابة أو مستقلة، يجعلان التحكم في المشهد أصعب بكثير مما كان في أيام المالكي الأولى.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن انتخابات 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 ليست لحظة انتصار إيراني، ولا هزيمة أيضا؛ بل هي تأكيد على أن نفوذ طهران بات جزءا من بنية النظام السياسي نفسه، لكنه في الوقت ذاته يواجه حدودا فرضها الشارع العراقي، وتآكل شرعية النخب التقليدية.

النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية في عموم العراق  (وكالة الأنباء العراقية)العراق بين صناديق الجوار وصندوقه الخاص

لم تكن أزمة النظام السياسي العراقي وليدة انتخابات 2025 وحدها، فكما تذكّرنا مقالة "الانتخابات البرلمانية العراقية 2025" في صحيفة "العربي الجديد"، فإن البلاد ما زالت أسيرة معادلات تشكلت منذ عام 2005 ولم تُكسر بعد.

فالنظام الذي خرج من دستور ما بعد الغزو لم ينجح -كما تقول المقالة- في بناء بنية حكم قادرة على تجاوز المحاصصة، أو التحرر من ثقل الجغرافيا السياسية، وهو ما جعل الاستحقاقات الانتخابية المتعاقبة أقرب إلى إعادة تدوير للمشهد نفسه، أكثر مما هي محطات تغيير حقيقية.

وتشير المقالة إلى أن العراق يقف اليوم عند نقطة وسطى لا يستطيع فيها الانفكاك التام عن نفوذ إيران، ولا العودة إلى المظلة الأميركية، ولا إنتاج جيل سياسي جديد خارج منظومة أحزاب ما بعد 2003.

وهذا الفراغ في "الاستقلال السياسي" هو ما يفسّر -وفق التحليل- كيف أصبحت كل انتخاباتٍ مجرّد لحظة اختبار حسّاسة لجيران العراق، لا سيما طهران، التي تتعامل معه بوصفه ساحةً لا يمكن تركها للصدفة: تستثمر في الأحزاب، تبقي قنواتها مفتوحة مع الفصائل، وتراقب الصندوق باعتباره نقطة قد تقلب توازنات النفوذ.

بهذه القراءة، يصبح مسار 20 عامًا من الانتخابات -من 2005 حتى 2025- سلسلة من المحاولات غير المكتملة لبناء نظام مستقل، تُعطّلها مرةً الجغرافيا، ومرةً المحاصصة، ومرةً تشابك اللاعبين الخارجيين. أما النتيجة، فهي عراقٌ يعيش دائمًا في منطقة رمادية: لا يستطيع الانفلات من ظلّ الجار، ولا يستطيع أن يستريح داخل شرعية داخلية صافية.

لكن ما تغيّر خلال 20 عاما هو أن الناخب العراقي نفسه تغيّر؛ جيل كامل لم يعرف صدّام، لكنه عرف الاحتلال الأميركي، ثم عرف داعش، ثم رأى رفاقه يُقتلون في ساحات الاحتجاج برصاص "مجهول" يَعرِف الجميع تقريبا من أين جاء، ولا يجد حتى اليوم عدالة حقيقية. لا يقرأ هذا الجيل الصراع بوصفه "إيران ضد أميركا"، بل "نحن ضد طبقة لا تمثلنا، بغض النظر عن داعميها".

كانت إحدى العبارات المتداولة بين شباب البصرة والناصرية يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني على وسائل التواصل لافتة: "نحن لا نقاطع لأننا ضد إيران أو معها، بل لأننا لا نرى أنفسنا في أي من هؤلاء".

وكما يلفت تحليل نشرته الجزيرة نت يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2025، فإن معادلة الحكم في العراق ما زالت تتأرجح بين "النص والظل": قوانين تُكتب في الجريدة الرسمية، وسلطة تُدار في مكان آخر.

فالمقال يرى أن أي أمل بالخروج من الحلقة المفرغة للانتخابات المتكررة يمرّ عبر شروط بسيطة في ظاهرها: سلاح موحّد، ومال مراقَب، وعلاقة منفتحة مع الجوار؛ عندها فقط يمكن أن تصبح الانتخابات بداية سياسة، لا مجرد موسم ينتهي بإعادة إنتاج المشهد نفسه.

وفي غياب هذه الشروط، يبقى النظام -بكل ما راكمه من نفوذ داخلي وخارجي- معلقًا على شرعية تُستنزف في كل دورة اقتراع، بينما يتحوّل البرلمان تدريجيًا إلى نادٍ مغلق للقوى التي تمتلك أدوات النفوذ، أكثر مما يمثل إرادة ناخبين تتراجع مشاركتهم كل عام.

أما الجيران -وفي مقدمتهم إيران- فلا يستطيعون تجاهل هذا التحوّل، فهم جزء من المشهد مثلما هم جزء من الأزمة التي تتسع هوتها بين الدولة ونظامها السياسي.

ما نعرفه حتى الآن هو أن صندوق 11 نوفمبر/تشرين الثاني لم يُخرج إيران من المشهد، ولم يمنحها أيضا ما اعتادت عليه من مساحة المناورة الواسعة، لكنه كشف بوضوح شديد أن النفوذ الإيراني في العراق يدخل مرحلة مختلفة: مرحلة يعتمد فيها على شبكة تراكمت خلال 20 عاما، لكنه يواجه في المقابل عراقا أقل قابلية للانصياع، وأكثر حساسية تجاه أي إشارات تأتي من خلف الحدود.

لم تدخل طهران إلى انتخابات 11 نوفمبر/تشرين الثاني بوضعها القديم، بل دخلت وهي مثقلة بسنتين من الخسارات الإقليمية التي أعادت رسم خريطتها الإستراتيجية.

فبحسب تحليل مركز "إيرام" (IRAM) التركي للدراسات، بعنوان "ما الذي تنتظره إيران من الانتخابات العراقية؟"، فإن التحولات العميقة في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد نهاية 2024، والتراجع غير المسبوق في موقع حزب الله داخل المشهد اللبناني منذ خريف 2023، وتقلُّص هامش المناورة الإيراني في غزة بعد الحرب الكبرى؛ كلّها أضعفت ركائز "محور المقاومة" الذي اعتمدت عليه طهران لسنوات.

ومع تخلخل هذا القوس الإقليمي الذي كان يربط إيران بمنطقة البحر المتوسط، يصف التقرير العراق بأنه "المحور الحيوي الأخير" في حسابات الأمن القومي الإيراني، والعمق الذي ما زال يوفّر لها قدرة ملموسة على الردع والانتشار.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أبعاد أکتوبر تشرین الأول المدعومة من إیران الإطار التنسیقی النفوذ الإیرانی محور المقاومة تشکیل الحکومة التیار الصدری تنظیم الدولة البیت الشیعی الحشد الشعبی داخل الدولة الإیرانی فی انتخابات 2021 انتخابات 2025 فی انتخابات فیلق القدس نفوذ إیران الأولى بعد قادرة على بعد الغزو فی العراق إیران فی أن طهران ر تحالف جزءا من إلى أن جزء من عام 2003 ما بعد لم یعد وهو ما

إقرأ أيضاً:

نَص موضوع خطبة الجمعة 21 نوفمبر 2025.. «كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا»

أعلنت وزارة الأوقاف، عن نص موضوع خطبة الجمعة المقبلة 21 نوفمبر 2025، الموافق 30 جمادى الأولى 1447هـ، وهي بعنوان «كن جميلاً ترَ الوجودَ جميلاً».

وأوضحت وزارة الأوقاف أن الهدف من هذه الخطبة هو التوعية بآداب وذوقيات الاختلاف ووجوب احترام الآخر.

وقالت الأوقاف إن الخطبة الثانية من موضوعات حملة صحح مفاهيمك تحت عنوان «حُرمة التعدي على الجار».

نص موضوع خطبة الجمعة الأولى: كُن جَميلاً تَرَ الوُجودَ جَميلا

الحمد لله رب العالمين، له الملك والحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمما يُفيضه الإيمان على أهله، الارتقاء بمعاني الأخلاق، وإكمال دائرة القيم، حتى يكونوا أنموذجًا لِتَجَسُّد المعاني الإيمانية في النفس البشرية، تلك النفوس التي طهَّرها اليقينُ من كدَر الهوى، وزكَّاها الصدق في مراقبة الله تعالى عن الرَّدى، حتى سمت أفعالها، ورقَّت كلماتُها، وشفَّت طباعُها، فصارت وكأنَّها مَرايا تعكس ما استقرَّ في أعماقهم من نور الهداية، فإذا مشَوا في الناس، مشَوا بالطمأنينة والسكينة، وإذا تعاملوا، تعاملوا بالرأفة والرحمة، حتى يخيَّل للرائي أنَّه يشهد كيف يتحوَّل الإيمان إذا استقرَّ في القلب، إلى خُلُقٍ يمشي على الأرض، ونورٍ يتشكَّل في الأفعال.

ومن جملة المعاني الإيمانية التي حرص الإيمان على إكمالها وإتمامها في أهله وذويه، قيمة الجمال والأدب والذوق والرقي في التعامل مع الغير، سواء حال الوفاق أو الاختلاف، فأهل الإيمان لا يصدر عنهم إلا كلُّ جميل قولًا وفعلًا وحالًا، وكي يقيمَنا الشرع الحنيف على هذه المعاني والقيم أرشدنا إلى عدة أمور، منها:

إن الله جميل يحب الجمال:

قاعدة نبوية يلفت فيها أنظارَنا نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى وصف مولانا تبارك وتعالى بالجمال، ومحبته لهذه القيمة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بطر الحق وغمط الناس» [رواه مسلم]

وما لفت النبي صلى الله عليه وسلم أنظارنا إلا ليسري هذا المعنى فينا، وليحثَّنا على التزامه، حتى تحصل لنا المحبة الربانية والمعيَّة الإلهيَّة في جميع أحوالنا.

ومن أسف أننا نقصر معنى الحديث النبوي على خصوص السبب الذي ورد فيه، فنحمله على جمال الملبس والمظهر فحسب، وما هكذا ذكر العلماء، بل توسعوا في بيان مفهوم وصف الله تعالى بالجمال، ومحبته سبحانه منا هذا الوصف، يقول أبوبكر الكلاباذي الحنفي في شرح هذا الحديث: “وَقَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ» أَي: جَمِيلُ الأَفضَالِ بِكُم، حَسَنُ النَّظَرِ لَكُم، مُرِيدٌ لِصَلَاحِكُم، جَمِيلُ المُعَامَلَةِ مَعَكُم، يَرضَى بِالقَلِيلِ، وَيُثِيبُ عَلَيهِ الجَزِيلَ، وَيَقبَلُ الحَسَنَاتِ المَدخُولَ عَلَيهَا، وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ المَسكُونِ إِلَيهَا، يُكَلِّفُكُمُ اليَسِيرَ وَيُعِينُكُم عَلَيهِ، وَيُعطِيكُمُ الجَزِيلَ وَيَشكُرُكُم عَلَيهِ وَلَا يَمُنُّ عَلَيكُم، وَتَعطُونَ القَلِيلَ وَيَشكُرُكُم، فَهُوَ يُحِبُّ الجَمَالَ مِنكُم أَيِ: التَّجَمُّلَ مِنكُم فِي قِلَّةِ إِظهَارِ الحَاجَةِ إِلَى غَيرِهِ، فَإِنَّهُ قَامَ لَكُم بِهَا، وَمَا زَوَى عَنكُم، زَوَاهَا نَظَرًا لَكُم، وَإِرَادَةَ الخَيرِ بِكُم، فَتَجَمَّلُوا فِيمَا بَينَكُم، وَلَا تَشكُوهُ إِلَى غَيرِهِ بِإِظهَارِ حَوَائِجِكُم، فَهُوَ جَمِيلُ الفِعلِ بَينَكُم، يُحِبُّ التَّجَمُّلَ مِنكُم». [بحر الفوائد]

ويقول المناوي: «إن الله تعالى جميل» له الجمال المطلق، ومن أحق بالجمال منه، كل جمال في الوجود من آثار صنعته، فله جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال، ولولا حجاب النور على وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه من خلقه «يحب الجمال» أي: التجمل منكم في الهيئة، أو في قلة إظهار الحاجة لغيره، وسر ذلك أنه كامل في أسمائه وصفاته، فله الكمال المطلق من كل وجه، ويحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها في خلقه، فإنه من لوازم كماله». [فيض القدير]

إنَّ المتتبِّع لآياتِ القرآن التي نطقت بوصفِ الجَمال ليَجِد مشهدًا يثير الدهشة ويستوقف البصيرة، إذ يربط اللهُ تعالى هذا الوصفَ الرفيع بأحوالٍ يغلِبُ فيها الاضطرابُ على النفوس، كالصبر والهجر والصفح، وهي مواطنُ تنساق فيها الطباعُ وراء حدَّة الانفعال وثورة المشاعر، فإذا بالوحي يخصّها بصفة الجمال، ليُعلِّم القلبَ أن السموَّ الأخلاقي لا يُختبر في لحظاتِ الرخاء، بل في مواضِع الضِّيق، وأنَّ الجمال ليس حليةً فحسب، بل هو مقامٌ روحيٌّ يضبط الانفعال، ويهذِّب الردَّ، ويرفعُ الإنسانَ فوقَ غوائلِ النَّفس ودسائسها.

يقول المجد الفيروزآبادي: «وقد ورد في القرآن هذه المادّة -مادة الجمال- على وجوه: بمعنى المحاسنة والمجاملة {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: ٨٥]، وبمعنى الصَّبر بلا جزاء {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: ٥]، وقال يعقوب عليه السلام {فَصَبْرٌ جَمِيل} [يوسف: ١٨]، وبمعنى مقاطعة الكفَّار على الوجه الحسن {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: ١٠]، وبمعنى إِطلاق النِّساءِ على الوجه الجميل {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: ٤٩]. [بصائر ذوي التمييز]

ولا شك أن تقييد هذه الأوامر بالجمال يقتضي جهدًا زائدًا، وتحمُّلًا أكبر وأوسع من العادي، ولن تتأتى هذه المعاني إلا ممن تجردت لله نيته، وعلَت همته، وتهذبت نفسه، وصدق حاله.

من سنن الله تعالى في خلقه وحكمته أن جعلهم متفاوتين في لغتهم وألوانِهم وطباعِهم وأفكارهم وعقولهم، وهذا الأمر من دلائل وحدانيته وقدرته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: ٢٢].

والحكمة في التفاوت التعارفُ والتكاملُ، لا التعارك والتقاتل، كما أنبأ عنه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: ١٣].

وجعلهم متفاوتين في الهداية، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: ١١٨، ١١٩].

فيخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} [يونس: ٩٩]، وقوله: { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، وقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه وآزروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة [تفسير ابن كثير].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا، وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» [رواه مسلم].

وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالحَزْنُ وَالخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» [رواه أبو داود والترمذي، وأحمد].

نتيجة لتفاوت الأفهام والعقول والمطامح والرغبات، قد يقع الخلاف بيننا، ومن هنا استنبط العلماء من الوحي الشريف القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، جملة من الأخلاقيات والآداب التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها في هذه الحال، لئلا يؤدي هذا الخلاف البسيط إلى تعصب وتنازع وسباب، وما إلى ذلك من أمور تتنافى وعظمة الإسلام، ومن جملة تلك الآداب:

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: ٩٠].

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: ٨].

أي: لا يحملنكم الخلاف والعداوة التي بينكم وبين غيركم على ألا تعدلوا.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: ١٣٥].

فقد تضمنت الآيتان الأمر بالتزام القسط والإنصاف، والنهيَ عن تركه وتنكبه، وذلك في أشد المواطن على النفس وادعاها إلى الميل والتحيز، وهي عموما تتمثل في حالات الحب والبغض.

قال سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما: “ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصافُ من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار” [رواه البخاري].

وقال ابن حجر بعد ما خرَّج هذا الأثر: «قال أبو الزناد ابن سِراج وغيره: إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقًّا واجبًا إلا أدّاه، ولم يترك شيئًا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان، وبذل السلام: يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب، والإنفاق من الإقتار: يتضمن غاية الكرم، لأنه إذا أنفق مع الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقًا، وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة». [فتح الباري]

وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: «وما تحلى طالب العلم بشيء أحسن من الإنصاف».

وقال المعتصم الخليفة العباسي كلمته الحكيمة الرشيدة: إذا نُصِر الهوى بَطَل الرأي [تاريخ الطبري]، فنُصْرة الهوى تُفسِد الرأي السديد، والقول الرشيد.

وقال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: ٨٥].

قال سعيد بن المسيب رحمه الله: «إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله» [صفة الصفوة].

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» [رواه أبو داود، وأحمد]. رَدْغَةَ الْخَبَالِ: عصارة أهل النار.

وعن الإمام الشافعي رحمه الله، قال: «وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلىَّ شيء منه»، وقال: «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ»، وقال: «ما كلمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ، وما كلمت أحدًا قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه»، وقال: «ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته». [إحياء علوم الدين].

وقال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: «من أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبًا حبيبًا» [الإحكام في أصول الأحكام].

عن سعيد بن المسيب رحمه الله، قال: كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد له في الخير محملا [شعب الإيمان].

وفي غزوة تبوك تأخر كعب بن مالك عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوة فسأل عنه قائلا: «ما فعل كعب بن مالك؟» قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عِطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله: ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. [رواه مسلم].

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رحمه الله، قَالَ: إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا، فَقُلْ: لَهُ عُذْرٌ [شعب الإيمان].

عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رحمه الله، قال: إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ أَصَبْتَهُ وَإِلَّا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لَا أَعْرِفُهُ [شعب الإيمان].

قال الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْبَيْهَقِيِّ رحمه الله:

قِيلَ لِي: قَدْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فُلَانٌ … وَمُقَامُ الْفَتَى عَلَى الذُّلِّ عَارُ

قُلْتُ: قَدْ جَاءَنَا فَأَحْدَثَ عُذْرًا … دِيَةُ الذَّنْبِ الِاعْتِذَارُ

والمعنى: “الْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ عُذْرَ إِخْوَانِهِ، وَالْمُنَافِقُ يَعْتِبُ عَثَرَاتِهِمْ“ [آداب الصحبة للسلمي].

قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: ١٣٤].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» [رواه البخاري].

عَنْ مُعَاذٍ بن جبل رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي حُورِ الْعِينِ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ» [رواه أحمد في “المسند”].

وفي رواية عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [المعجم الكبير].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ» [رواه البخاري].

ورفع الصوت وإن كان مذموما لغير حاجة فإنه عند الخلاف أشد ذمًّا لكونه باعثا على الغضب والتعصب والسب والتقاتل، قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: ١٩].

قال مُجَاهِدٌ بن جبر رحمه الله: “أَيْ: غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبه بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ“. [تفسير القرآن العظيم لابن كثير].

ومن صفات النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما: «وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ» [رواه البخاري].

“السخب”: يقال فيه “الصخب”: بالصاد المهملة بدل السين، وهو رفع الصوت بالخصام.

وقد أخذت الكراهة من نفي الصفة المذكورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نفيت عنه صفة الفظاظة والغلظة، وهذا القيد معتبر في النفي احترازًا من رفع صوته صلى الله عليه وسلم في القراءة والخطبة في المساجد وغيرها، فما بالنا بمن يرفع صوته، ويشوش على غيره حال الاختلاف والنزاع. [فتح الباري].

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. [رواه البخاري]

وقَالَ يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ: “مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى، أَلاَ يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ” [سير أعلام النبلاء].

وقد اختلف ابن مسعود مع عمر بن خطاب رضي الله عنهما في نحو مائة مسألة، ومع ذلك بقي الحب والتقدير بين الرجلين، يتجلى ذلك في ثناء كل واحد منهما على الآخر، فعمر يقول عن ابن مسعود: “كُنَيف ملئ علمًا“ [مصنف عبد الرزاق]، ويقول ابن مسعود في عمر: “ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر”، ويقول: “لو وضع علم أحياء العرب في كفة، ووضع علم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر“ [البخاري وابن أبي شيبة].

فعن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس رضي الله عنهما، فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن فيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة” [مجمع الزوائد].

وجاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: إني نذرت أن أنحر نفسي، فتجهمه ابن عمر وأفف منه، ثم أتى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له: أهدِ مئة بدنة، ثم أتى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال له: أرأيت لو نذرت ألا تكلم أباك أو أخاك؟ إنما هذه خطوة من خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه، ثم رجع إلى ابن عباس فأخبره، فقال: أصاب عبد الرحمن، ورجع ابن عباس عن قوله [الدر المنثور للسيوطي].

خطوات عملية تساعد على الاختلاف المحمود:

أحسن الظن بالمخالف: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا“ [قواعد الأحكام].

حسن الاستماع إليه: فهذا عُتبة بْن رَبِيعَة حين كان يحاور النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «قُلْ يَا أبا الوليد، أسمع»، ثم بعدما انتهى، قَالَ: «أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنِّي»، قَالَ: أَفْعَلُ“. [رواه ابن إسحاق في “السير والمغازي”].

تحلَّ بالصبر والحلم، ولا تتسرع في الرد: عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» [رواه الترمذي].

عن يُوسُف بْن الْحُسَيْنِ، قال: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: “أَرْبَعُ خِلَالٍ لَهَا ثَمَرَةٌ: الْعَجَلَةُ، وَالْعُجْبُ، وَاللَّجَاجَةُ، وَالشَّرَهُ، فَثَمَرَةُ الْعَجَلَةِ: النَّدَامَةُ، وَثَمَرَةُ الْعُجْبِ: الْبُغْضُ، وَثَمَرَةُ اللَّجَاجَةِ: الْحَيْرَةُ، وَثَمَرَةُ الشَّرَهِ: الْفَاقَةُ“. [رواه البيهقي في “ِشعب الإيمان”].

تجنب أن تحمل الناس على قولك أو فعلك: قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هَدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ٢٧٢]، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: ٢٣].

ابتسم في وجه من يخالفك: عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» [رواه الترمذي، وابن حبان].

التجمل بأخلاق الإسلام قدر الطاقة.

إبداء النصيحة وليس النقد المباشر.

احترم آراء الآخرين، ولا تقلل من وجهات نظرهم.

عدم الاستعلاء بالحق أو بالإيمان.

إن أمكنك في النهاية أن تقدم له هدية ولو بسيطة فافعل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَهَادَوْا فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ» [رواه الترمذي، وأحمد].

الاتفاق على ما يحقق المصلحة العامة للبلاد والعباد، وإبقاء الود والاحترام المتبادل.

إذا ظهر الحق مع مخالفك فاقبله، وإذا قبله منك فاشكره، ولا تمن عليه.

عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: “كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: وَلَا يَمْنَعْكَ مِنْ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيِكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ“ [رواه البيهقي في “السنن الكبرى”].

عدم التعدي على المخالف، أو الحكم عليه بفسق أو بدعة أو بكفر: فعن يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله، قال: “ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه“ [جامع بيان العلم وفضله].

أرجىء النقاش والخلاف إلى وقت آخر، إذا كان الاستمرار فيه يؤدي إلى النزاع والعراك والنفور.

نص موضوع الخطبة الثانية: حرمة التعدي على الجار

تُعتبر العلاقة مع الجار من أسمى الروابط الاجتماعية التي حث عليها الدين والقيم الإنسانية، لما لها من أثر كبير في تعزيز التآلف والتماسك المجتمعي.

إلا أن ظاهرة التعدي على الجار -سواء كان ذلك بالتعدي على حقه في الخصوصية، أو إلحاق الضرر المادي أو النفسي به- أصبحت ظاهرة متزايدة تهدد استقرار المجتمع وتخل بروابط المحبة والاحترام.

وتهدف مبادرة “صحح مفاهيمك“ إلى تسليط الضوء على أهمية احترام الجار وحقوقه، وتصحيح السلوكيات الخاطئة التي قد تؤدي إلى التعدي عليه، من خلال خطاب دعوي وتوعوي يركز على القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية.

الإحسان إلى الجيران واجب شرعي:

أوجب الإسلام على المسلم الإحسان إلى الجار، والتودد معه، والعطف عليه، ورعايته في كل شئونه، وجاءت الوصية به في كثير من آي الذكر الحكيم، قال تعالى ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ [النساء: ٣٦].

وعن مُجَاهِدٍ رحمه الله، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». [رواه الترمذي وحسنه].

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» [رواه مسلم].

الجيران ثلاثة:

اهتم الفقهاء بمبحث الجار اهتمامًا كبيرًا، فقسموه إلى أنواع، وبينوا حق كل نوع منها، ومن خلال استقراء النصوص تبين أن الجيران ثلاثة:

- جارٌ له ثلاثة حقوق: وهو الجار المسلم القريب ذو الرحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة.

- جارٌ له حقان: وهو الجار المسلم، له حق الجوار، وحق الإسلام.

- جارٌ له حق واحد: وهو الجار غير المسلم، له حق الجوار، وأمرنا الإسلام بحسن معاملته، وعدم التعرض له بأي نوع من الإيذاء قولًا كان أو فعلًا، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨].

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حسن الجوار مع غير المسلمين، فلم يؤثر عنه أن تعدى عليهم أو تعرض لهم بأي لون من ألوان الأذى أو المضايقة، بل كان يتفقد حالهم إذا غابوا، أو يقدم لهم العون إن احتاجوا، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ غُلَامًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» [رواه البخاري].

وقد وضع الإمام الحسن البصري رضي الله عنه قاعدة عريضة في حد الجار، حينما سُئِلَ عَنِ الْجَارِ، فَقَالَ: “أَرْبَعِينَ دَارًا أَمَامَهُ، وَأَرْبَعِينَ خَلْفَهُ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ يَسَارِهِ“ [رواه البخاري في “الأدب المفرد”].

وإذا كان تحديد الجوار أربعين دارًا، وكلها داخل في الوصية بالجار، فهذه الأربعون تتفرع، فأقصى بيت من الأربعين يراعي حقوق أربعين بيتًا أخرى وهكذا، فتكون النتيجة: أن تتموج حقوق الجوار وتنتشر كتموج موجات الأثير حتى تعم العالم كله، ولا يبقى شبر على وجه الأرض إلا ودخل في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، ولو راعينا حرمة الجوار بين المدن والأقطار، لحصل خير كثير، فكل دولة تراعي حقوق جارتها، فالجوار بهذا المفهوم يشمل الجميع، وبهذا يعم السلام، وتُحفظ الإنسانية من الاعتداء على أرضها وعرضها ومالها، وهذا مقصد رباني حثت عليه كل الشرائع السماوية.

أذى الجيران مُحبط للعبادة:

فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ». [رواه أحمد].

ومن أراد أن يعرف أنه محسن، فلينظر إلى حاله مع جيرانه، هل يحسن إليهم أم لا؟ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: «كُنَّ مُحْسِنًا» قَالَ: كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: «سَلْ جِيرَانَكَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّكَ مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِنَّ قَالُوا: إِنَّكَ مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ» [رواه البيهقي في “شعب الإيمان”].

التعدي على الجيران.. حرمته وعقابه:

التعدي على الجوار من علامات الساعة، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخَوَّنَ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَسُوءُ الْجِوَارِ». [رواه أحمد].

وقد حرم الإسلام التعدي على الجار بأي شكل من الأشكال، سواء بالقول أو الفعل، بل يرتقي الإحسان إليه إلى درجة عبادة الله، ويُعَد إيذاؤه جريمة أخلاقية واجتماعية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ» [متفق عليه].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رواه مسلم].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «جَارٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: «شَرُّهُ» [رواه أحمد].

قال أ.د/ موسى شاهين لاشين: (إن الأمن على النفس والمال والعرض من نعم الله الكبرى، وأقرب الناس تهديداً لهذا الأمن هو الجار، لأن الحذر منه أصعب من الحذر من غيره، والضرر منه أشد خطرًا من الضرر من غيره، إنه يعرف كثيرًا من الخفايا، ويكشف كثيرًا من الأستار، ويطلع على كثير من العيوب، إنه أعلم بمواطن الضعف، وأقدر على توصيل الأذى.

والإسلام يحرص على استتباب الأمن، ونشر الطمأنينة والاستقرار بين أبناء المجتمع الواحد، لهذا جعل مسالمة الجار من الإيمان، وجعل حبس النفس عن أذى الجار من الإيمان، بل جعل خوف الجار من الجار دليلًا على ضعف إيمان الجار الذي بعث الخوف، وإن لم يصل ضرره لجاره بالفعل …، نعم هذا التشريع الحكيم لو أمن كل جار جاره، وكف كل جار عن ضرر جاره، وحمى كل جار محارم جاره، لكانت المدينة الفاضلة، ولكان المجتمع الموادع الأمين، ولعاش الناس سعداء آمنين) [فتح المنعم شرح صحيح مسلم].

إشاعة عيوب الجار من الفواقر

فعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: “ثَلَاثٌ مِنَ الْفَوَاقِرِ: …، وَجَارٌ إِنْ رَأَى حَسَنَةً دَفَنَهَا، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً أَفْشَاهَا، وَزَوْجَةٌ إِنْ حَضَرْتَ آذَتْكَ وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا خَانَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا“. [رواه وكيع بن الجراح في “الزهد”].

الصبر على أذى الجار:

ديننا الحنيف كما ينهى عن التعدي على الجار، كذلك يُرغب في الصبر على أذاه، وتحمل ما يصدر منه، فمن تصبَّر عليه نال محبة الله، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ…، وَرَجُلٌ لَهُ جَارٌ يُؤْذِيهِ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ وَيَحْتَسِبُهُ حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِمَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ». [رواه أحمد].

والتعدي على الجار يجلب اللعنة لصاحبه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاصْبِرْ» فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ» فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. [رواه أبو داود].

حرمات الجار:

ربَّى الإسلام المسلم على حفظ حرمات الجار، وعدم التطلع إلى عورته، فعن الْمِقْدَاد رضي الله عنه، قال: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَنِ الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَامٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ: «لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ»، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَامٌ، حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ: «لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ» [رواه أحمد].

ولله در حاتم الطائي حيث قال:

نَارِي وَنَارُ الجَارِ وَاحِدَةٌ … وَإلَيهِ قَبلي تَنزِلُ القِدرُ

مَا ضَرَّ جَارًا إِلَيَّ أُجَاوِرُهُ … أَلَا يَكُوْنَ لِبَيْتِهِ سِتْرُ

أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتي ظَهَرَتْ … حَتَّى يُغَيِّبَ جَارَتِي الخِدْرُ

ويَصَمُّ عمَّا كانَ بينَهما … سَمْعي وما بي غيْرَهُ وَقْر

تنشئة الأولاد على احترام الجيران:

يجب تربية الأولاد على تعظيم حق الجار، وكف الأذى عنه، وإخبارهم بما في إكرامه من عظيم الأجر، وما في أذيته من الوعيد الشديد، إذ الأذية قد تصدر من زوج الرجل أو ولده، فلا يتساهل معهم، بل يظهر غضبه عليهم، ليعلموا أن هذا الأمر شنيع فلا يتهاونون، ولا يستخفون به، ولذا كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار، وقد باع أحدهم منزله فلمَّا لاموه في ذلك قال:

يلومونني أَنْ بِعتُ بالرخص منزلي *** ولم يعرفوا جاراً هناك ينغــِّصُ

فقلتُ لهم: كفوا الملام فإنمــا *** بجيرانها تغلوا الديار وترخصُ

قال ابن العربي المالكي: (على المرء أن يوقِظَ جارَهُ من الغَفَلاتِ، وينقله إلى الطاعات، ويأمره بإقامة الصلوات، وهذا من حقوق الجوار، وقيل: إنَّ الجار الصالح يشفعُ يومَ القيامةِ في جيرانه ومعَارِفِهِ وقَرَابَتِه.

وأنشد بعضهم:

يا حَافِظَ الجَارِ يَرْجُو أنّ يَنَالَ بِهِ … عفْوَ الإلَهِ وعَفْو الله مَذْكُورُ

الجَارُ يشْفَعُ للْجِيرَانِ كلّهِم … يَوْمَ الحِسَابِ وذنب الجَارِ مَغْفُورُ).

[المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك، ٧/ ٣٩٥].

الجوار والأحكام الفقهية:

ذكر الفقهاء أحكامًا فقهية كثيرة متعلقة بجيران الدور، وجيران المزارع … إلخ، وذكروا ما يُمنع الإنسان من فعله في ملكه أو في مشترك بينه وبين جاره كالطريق ونحوه، وضابط ذلك: “أنه ليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يتعدى على جاره”، عملاً بحديث أبي سعيد الْخُدْرِي رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، مَنْ ضَارَّ ضَرَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» [رواه الدارقطني في “سننه”، والبيهقي في “السنن الكبرى”].

وإذا احتاج الجار إلى منفعة في دار جاره أو حائطه، فلا يمنعه منها إذا كان ذلك لا يضره، ومنعه منها يوقع الأذى عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ [متفق عليه].

وكي يمنع وقوع التعدي على الجار، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن “الجار أحق بالشُّفعة“، وأنه يحتاج إلى إذنه قبل بيع ما يلاصقه من أرض أو زرع حفظًا لحق الجِوار، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا، فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى جَارِهِ» [رواه ابن ماجه].

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي اللهُ عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يَنْتَظِرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» [رواه أبو داود، وأحمد].

الجوار علاقة مقدسة تعكس مدى حضارة المجتمع وقيمه.

خطوات إجرائية لتعزيز الوصية بالجار:

- التزام حسن التعامل، كالسلام والتحية والابتسامة.

- مراعاة الهدوء والاحترام في المواقف المختلفة.

- المشاركة في المناسبات الاجتماعية، وتقديم الدعم عند الحاجة.

- الحرص على زيارات منتظمة للجار، لا تكون مشروطة بالمصالح.

- تشجيع الأولاد على التعارف على الجيران وحقوقهم والتواصل المستمر.

- تجنب الغضب أو الشحناء مع الجيران.

- حفظ الأمانة والسرّ عند التعامل معهم.

تقدم مبادرة “صحح مفاهيمك“ خطابًا شاملًا يدعو إلى احترام حقوق الجار، ونبذ كل أشكال التعدي التي تخل بأمن المجتمع واستقراره، مؤكدة أن حسن الجوار هو الطريق نحو مجتمع يسوده المحبة والسلام.

اقرأ أيضاًهَلّا شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ.. نص خطبة الجمعة 14 نوفمبر 2025

«إدمان الأطفال وسائل التواصل الاجتماعي».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة

«مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى».. نص موضوع خطبة الجمعة المقبلة

مقالات مشابهة

  • تحول كبير.. إيران تدرس إيقاف تخصيب اليورانيوم
  • نَص موضوع خطبة الجمعة 21 نوفمبر 2025.. «كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا»
  • العراق يعود إلى مربع المرشح التوافقي: لا كتلة أكبر حقيقية بعد انتخابات 2025
  • بعمليات تلقيح السحب.. إيران تواجه أسوأ موجة جفاف منذ عقود
  • حل عجيب يستخدم لأول مرة.. إيران تحاول معالجة الجفاف بالاتجاه للغيوم
  • إيران.. تلقيح للسحب في الخريف الأكثر جفافا
  • إيران توضح حول تخصيب اليورانيوم 
  • واشنطن تندد باحتجاز إيران ناقلة نفط دولية
  • إيران: ليس لدينا أي منشأة غير معلنة لتخصيب اليورانيوم