لجريدة عمان:
2025-11-19@18:29:37 GMT

الغرابة الساحرة

تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT

أمسكت بكتاب أهملته لفترة طويلة، وهي عادة أفعلها بين الفينة والأخرى. أقف أمام مكتبتي متأملا جميع تلك الأصوات المتضادة والمتفقة، والأهواء المتضاربة والمتسقة، ثم أختار كتابا لم يسبق لي أن فتحته، أو أنني نسيت وجوده أصلا، أو كتابا لم أعد أتذكر ما فيه وما بعثه فيَّ لحظة قراءته ذات يوم. لا أتذكر أن هذه العادة سبق وخذلتني، بل كانت تفعل فعلتها كل مرة؛ دهشة غامرة، حنين جارف، ولحظة تجلٍّ خالصة لا مثيل لها ولا نظير.

أفتح كتابا ما، دون أن أثقله بالتوقعات أو النظرة المسبقة، بل أتعرف عليه كما أتعرف على غريب التقينا في غرفة انتظار المواعيد الطبية، أو في المقعد الملاصق لمقعدي في الطائرة.

كان الأمر غريبا هذه المرة، كتاب أهملته كثيرا، وفي الصفحة الأولى منه وجدتني قد كتبت لحظة شرائي للكتاب بالوقت والتاريخ -وهي عادة أحبها- «التاسع من سبتمبر من العام ألفين وخمسة عشر»، ثم ملاحظة هامشية بأنه هدية من صديق!. كان من تلك الكتب التي طلبت من صديقي أن يشتريها لي من دولة مجاورة ذات مرة، ثم قام صديقي بإهدائها إليّ ورفض أخذ ثمنها.

هذه الغرابة الساحرة التي تبعثها الكتب، ليست مقتصرة على موضوعات الكتب فحسب، بل ينسحب الأمر ذاته على الذكريات المرتبطة بها، بالمكان الذي أخذناه منها، بالملمس، اللون، الناس، والرائحة. من الأمور الغريبة التي أشعر بها مع كتب بعينها، أنها تبعث رائحة ما تتشابه مع رائحة أمكنة مميزة وأثيرة في القلب، وهي أمكنة يستحيل أن يكون المؤلف زارها أصلا. كبعض كتب نيتشه، التي تذكرني برائحة «الغصيبة»، وهي منطقة زراعية قديمة سكنها أجدادي. هذا الأمر الانتقائي الغرائبي للذاكرة، وتلك الارتباطات غير المفهومة، تجعلني أصمت بدهشة المُحِب، وأستمتع باللحظة دون أن أعلم لتلك المتعة سببا أو جذرا.

لا يقتصر الأمر على الكتب فحسب، بل يتبدى في التذكارات التي تركها آباؤنا وأجدادنا في صندوق ناء ظل بعيدا لا تطوله الأيدي ولا المخيِّلة. ففي تلك الصناديق المغلقة بإحكام الغبار والزمن المتراكم، وفي كثير من الأحيان، الصدأ الذي يأكل ذاته ويتغذى عليها؛ هناك تختبئ معان وأحلام ومعارك يومية قديمة. دفتر الدروس التي أخذوها في مرابع الطفولة بين المساجد والجوامع، قصاصات الورق التي تتضمن الديون وما لهم وما عليهم، الأبيات الشعرية والحِكم المتناثرة والمندسة هنا وهناك، خصوصا بعد ظهور التقويم السنوي بتلك الحلة القشيبة التي اختبرت لذة جمع قصاصاتها المتنوعة من أبيت شعرية، وحكم يومية، وطرائف أدبية. لكنّ ما كان يبعث الدهشة حقا، ويجعلني أمسك بها بكلتا يديَّ، تلك الكتب القديمة التي يكتبون فيها لحظة الشراء، الوقت والمكان والغرض أو صاحب الهدية. لم تبق الصفحات الفارغة -وقت الشراء- بيضاء بتاتا، بل امتلأت بالأحداث الفارقة في حياة أصحاب تلك الكتب، وفاةُ علم من الأعلام، أو أب من الآباء العظام الذين سطروا ملاحم حقيقية لم تخلدها الكتب.

وهنا أستطرد قليلا، فمما أحبه في ثقافتنا الشعبية الثرية، أننا نطلق على كبار السن «الوالد» أو نناديه «باه» -بمعنى أبي- وهي عادة توارثتها الأجيال فيما يشبه العقد الصامت لاحترام النبلاء بأفعالهم والذين فرضوا احترامهم لدى من يعرفهم وتعامل معهم من الجيران أو المعارف. وهي عادة حسنة في تقدير الناس على ما فعلوه في حياتهم من مواقف نبيلة تستحق الاحتفاء والتقدير إن لم يمكن تكريمها. أو حتى أولئك الذين طار الغراب عن رأسهم، وتبدلت هيأة أجسادهم لغروب الشباب وحلول خريف العمر وحصاده، ولم يعرفهم أحد.

وقد تصفحت لسان العرب في مادة «غرب» بحثا عن المصدر «غرابة»، ولكنني لم أجدها اصطلاحا. والغرابة في العموم، واعتمادا على ما ورد في «غرب» فإنها الشيء النادر غير المألوف. وبهذا المعنى، فإن الروح الحية دائمة البحث عما يحيي جذوتها من الغريب الطريف الساحر، الذي يتجاوز اللحظة والتَّوَّ؛ ويظل يحفر في ذواتنا دهشة وتأملا. إن الركود والجمود الذي يشعر به المرء يكون مصدره اعتياد الأشياء وألفتها، فما نراه ونتعامل معه باستمرار، يجعلنا نتعامل معه باعتباره شيئا عاديا باهتا، لذلك نحتاج إلى الغرابة الساحرة، تلك التي ظلت ماثلة أمام أعيننا، لكننا لم نعرها الاهتمام الكافي والإنصات الحقيقي. وهذا لا يقتصر على الجمادات وما في حكمها، بل حتى مع الأشخاص، فكم من مجهول بين أهله، عظيم الشأن، واسع المعرفة، كثير التجارب لكنَّ أحدا لم يعره اهتماما، بعدما تكالبت عليه الأحداث وولّت أيامه وفقد القيمة التي كان يكتسبها من عمله أو منصبه أو بريق شبابه في صدر حياته وأيام فتوّته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وهی عادة

إقرأ أيضاً:

ظاهرة الكراسي المتحركة بالمطارات جدل يبدأ من الهند

شهدت منصات التواصل الاجتماعي جدلا واسعا بعد انتشار مقاطع فيديو تُظهر صالات مطارات بين الهند والولايات المتحدة وبريطانيا مكتظة بالمسافرين على كراس متحركة.

والسبب وراء ذلك -وفق ما تداوله ناشطون- هو أن ذوي الإعاقة يحصلون على امتيازات خاصة تشمل أولوية الصعود إلى الطائرة ومرافقة مساعد طوال إجراءات السفر.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"فلسطيني للبيع".. صور استفزازية تكشف وحشية جنود الاحتلال بغزةlist 2 of 2لقطة لمدرب العراق وهو يدير ظهره لركلة الجزاء أمام الإمارات تخطف الأنظارend of list

والظاهرة لم تقتصر على المطارات الغربية، بل رُصدت أيضا في أحد المطارات العربية، حيث أشار رواد مواقع التواصل إلى أن الأغلبية ممن يقومون بهذا الأمر من الجنسية الهندية.

قريت التعليقات واضح انه مو موضوع خصم
لكن يستغلون الحركة عشان الاولوليه بالصعود المبكر ويروحون البوابه بسرعة ????
الحل سهل فرض مبلغ على خدمة طلب كرسي متحرك لو ريالين وصدقني كلهم بيقومون ويمشون زي الالف

— MWS (@MMWS1) November 17, 2025

ووفقا لمواقع إخبارية هندية نقلت عن مصادر في قطاع الطيران، فإن شركة طيران الهند وحدها تتعامل مع أكثر من 100 ألف طلب لخدمة الكرسي المتحرك شهريا عبر شبكتها المحلية والدولية.

وأضافت المصادر أن الطلب يبلغ ذروته في الرحلات الطويلة إلى أميركا الشمالية والمملكة المتحدة، حيث سجلت بعض الرحلات طلبات مساعدة من 89 إلى 99 راكبا، أي ما يعادل نحو 30% من إجمالي الركاب على متن الطائرة.

NEW scam just dropped

Apparently up to 40% of air travelers on US – India flights

ask for a wheelchair, so they dont have to walk through the airportpic.twitter.com/BxZt10LuVk

— Tablesalt ???????????????? (@Tablesalt13) November 16, 2025

هذا الأمر أشعل نقاشات حادة على منصات التواصل الهندية والعالمية، وحتى العربية.

فقد علقت مدونة هندية قائلة "ينبغي فرض رسوم إضافية على هذه الخدمة في كل مطار، حينها سنعرف العدد الحقيقي للمستحقين".

وفي المقابل، رأى آخرون أن هذا السلوك يلحق الضرر بالمسافرين ذوي الإعاقة الفعليين، مطالبين بضرورة التحقق رسميا من الحالة الصحية وإصدار بطاقة شبه دائمة للمستحقين فقط.

They should charge an additional ₹5000 per airport n then they will see how many genuine passengers there are! https://t.co/U12fJwBTtx

— Kiran Mazumdar-Shaw (@kiranshaw) November 16, 2025

ومن جهة أخرى، دعا بعض المغردين إلى تخصيص رحلات مدفوعة الأجر بخدمات مساعدة خاصة على غرار ما يقدم للقصّر غير المصحوبين بذويهم، لتجنب الإحراج وسوء الاستخدام.

إعلان

كما أوضح آخرون أن الأمر لا يتعلق بالعجز عن المشي، بل بالإجراءات نفسها، فالكثير من المسافرين كبار السن من الهند لا يجيدون اللغة الإنجليزية ولا يعرفون إجراءات المطار، فيلجأ أبناؤهم إلى حجز خدمة الكرسي المتحرك لهم لتسهيل المرور عبر نقاط التفتيش ونقل الأمتعة واستلام الحقائب دون عناء أو توتر.

صالة المطارات بين الهند والولايات المتحدة مليئة بالمسافرين الهنود على كراسي متحركة، معظمهم أصحّاء لا يعانون من إعاقات.

السبب؟
ذوي الإعاقة يحصلون على امتيازات كأولوية الصعود للطائرة ومُرافق مساعد.

هذا تسبب في ضرر فعلي لذوي الإعاقة الحقيقيين.pic.twitter.com/VU5ZfyyH3z

— إياد الحمود (@Eyaaaad) November 17, 2025

وعلق ناشطون بأن الأغلبية ليسوا محتالين، بل هم من كبار السن الذين تجاوزت أعمارهم 50 عاما ويعانون من ضعف الصحة العامة ويسافرون بمفردهم لزيارة أبنائهم، فيفضلون الكراسي المتحركة لتجنب التعثر أو السقوط أثناء التنقل داخل المطار.

حلها بسيط ، تحديد نوع الاعاقة التي تعطي الحق في الحصول على الامتياز بالاضافة الى اشتراط ربطها بتقرير طبي من مقدم خدمة معتمد "مستشفى حكومي مثلا".

— ???????????????????????????????????????????????????? AHMED BA ESHER (@abaesher) November 17, 2025

مقالات مشابهة

  • المثقفين العرب: مصر من أكثر الدول إقبالا على قراءة الكتب الورقية
  • معايير مهمة لاختيار أرفف الكتب المناسبة.. معلومات تبهرك
  • ظاهرة الكراسي المتحركة بالمطارات جدل يبدأ من الهند
  • المشاتل الزراعية بجازان.. رحلة سياحية بين الطبيعة الساحرة والمعرفة الزراعية
  • نشرة المرأة والمنوعات | عادة خطيرة تنشر البكتيريا في مطبخك.. ثعبان 55 كيلو يقتحم سقف منزل بماليزيا
  • روايات النشء واليافعين في مؤتمر أدب الطفل بدار الكتب والوثائق
  • غسل الدجاج قبل الطهي.. عادة خطيرة قد تنشر البكتيريا في مطبخك
  • عادة شائعة لكنها خطرة.. خبراء يحذرون: غسل الدجاج يرش البكتيريا على طعامك
  • توخيل يحذّر بيلينجهام «المستاء» من عدم احترام قراراته