الإمام أحمد بن سعيد.. مؤسس دولة ورائد نهضة
تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT
منذ دخول الإسلام إلى عمان في القرن الأول الهجري، تشكلت في البلاد بنية دينية وسياسة واجتماعية تميّزت بالاستقلال النسبي عن مراكز السلطة الكبرى في المشرق، فقد اختار العمانيون الإسلام طواعية، واستقبلوا الدعوة عبر مبعوثي النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو ما أرسى مبكرا نموذجا فريدا للحكم تنسجم فيه سلطة الإمام مع رضا الأمة، ويتوازن فيه الدين مع المعرفة القبلية، ومع تعاقب فترات الحكم مع العصور، تمازجت في المجتمع العماني قيم الاستقلال السياسي مع الارتباط الروحي بالمراكز الإسلامية، فأصبحت عمان دولة لا تنصهر بسهولة في نفوذ الدول والإمبراطوريات الكبرى، ولا تنعزل تماما عن محيطها، مما جعلها تمتلك قدرة فريدة على البقاء والاستمرار في لحظات الاضطراب التاريخي.
مرت عُمان بعد العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين بفترات هدوء تخللها اتصال بالعصرين الأموي والعباسي، إلا أن البلاد احتفظت بنظام الإمامة الإباضية الذي جعل الحكم قائما على مبدأ الاختيار لا على الوراثة المطلقة، ومع مرور الزمن، تعرّضت عُمان لتحديات كبيرة، لكنّ ذروة هذه التحديات ظهرت في الفترة التي سبقت ظهور الإمام السيد أحمد بن سعيد مباشرة، حين مزقت الصراعات دولة اليعاربة، وفتحت الباب أمام التدخلات الفارسية، خصوصا في الساحل والموانئ الاستراتيجية مثل مسقط وصحار، وقد خلقت هذه الظروف حالة اختناق سياسي واقتصادي واجتماعي، جعلت البلاد على حافة الانهيار الكامل، وهو ما يفسر لماذا كان ظهور الإمام السيد أحمد بن سعيد، حيث إنه أشبه بعودة الروح إلى جسد الدولة العمانية.
ولد الإمام السيد أحمد بن سعيد في 20مارس 1694م في بيئة تجمع بين العلم والقبيلة والتجارة في منطقة أدم ذات الموقع الاستراتيجي المميز، وكانت أسرته من قبيلة البوسعيد ذات الأصول الأزديّة العريقة، وقد اشتهرت هذه القبيلة بكفاءتها التجارية وبقدرتها على إدارة المناطق الداخلية وعلاقاتها الاجتماعية والتجارية والسياسة المميزة وبسمعتها التي فاقت الحدود، كان والده رجلًا يجمع بين الفروسية والعمل التجاري، وهو ما وفر لابنه تربية تعتمد على الانضباط والسعة في التفكير، وقد استفاد من موقعه الأسري بأن بدأ يشتغل في التجارة مبكرا، غير أن ما يميز شخصيته عن غيره من أقرانه في عملياته التجارية، هو أنه نشأ ممتزجًا بالبحر، وقد طور مقدراته إلى التجارة البحرية بين عُمان والهند وشرق أفريقيا، ووسع تعاملاته مع تجار عرب وفرس وهنود، وتعلم من كل رحلة درسًا في المنافسة والمرونة وفهم مصالح الأفراد والمجتمعات والدول.
تزوج الإمام أحمد عدة زوجات من نساء ينتمين لعائلات بارزة في عمان، مما ساعده على تعزيز مكانته الاجتماعية والسياسية، وقد أنجب سبعة من الأبناء، أبرزهم سعيد بن أحمد الذي تولى الإمامة بعد والده، ومحمد بن أحمد الذي شغل مناصب إدارية وعسكرية، وساهموا في تطوير الأسطول العماني وتنمية التجارة البحرية، بما دعم أهداف الدولة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
كما أنجب الإمام ثلاث بنات هن: موزة وعفرا وميرا، وأبرزهن دورًا كانت الأميرة موزة، فقد كان لها دور سياسي مباشر ونشط في دعم سياسات والدها وحكمه، وقد شاركت بعد وفاة والدها في اتخاذ قرارات مهمة، ساهمت في تنظيم الشؤون الداخلية وتعزيز استقرار الدولة، كما لعبت دورا في الحفاظ على تماسك الأسرة الحاكمة وتأمين ولاء القبائل والعشائر المهمة، وهو ما يبرزها كشخصية فاعلة سياسيًا واجتماعيا، وهو ما أثبت الدور الفاعل للمرأة العمانية المبكر في المشاركة في الحكم وإدارة الدولة.
ومن خلال تتبع مسيرة حكم الإمام السيد أحمد بن سعيد، من منطق السياسية والمقارنة بغيره من حكام عصره في الجزيرة والمنطقة العربية والإسلامية، نجده بأنه لم يكن يسعى للحكم بحد ذاته، بل كان ابن تجربة حياتية جعلته يدرك أن الدولة لا تُبنى بالقوة وحدها، بل ببناء شبكات اقتصادية واجتماعية وبقدرة على إدارة المصالح المتعارضة، وهو ما سيظهر جليًا في مشواره السياسي اللاحق، وما إن عين واليًا على صحار حتى وجد نفسه في مواجهة القوة الفارسية المتوغلة في الساحل، وكان الحصار الفارسي على المدينة نقطة تحول في حياته ومسيرة حكمه، فالصمود الطويل الذي قاده في مواجهة قوة تفوقه عددًا وعتادًا أظهر براعة في القيادة نادرًا ما شهدتها عمان في تلك المرحلة التاريخية.
تعامل الإمام أحمد بن سعيد مع أحداث حصار من قبل الفرس بواقعية شديدة، بعيدًا عن الانفعالات والعصبيات القبلية، وكان يوازن بين الصبر العسكري والانفتاح على التفاوض الذكي، بينما كانت القوى التي سبقته وعاصرته في حكم عمان، أميل إلى الإسراع في اتخاذ القرارات التي تؤدي إلى الصدام، وكانت أقل قدرة على إدارة التحالفات والتعامل مع النفوذ الأجنبي وبالأخص الأطماع الفارسية المتكررة، ومع انتهاء الحصار الفارسي وانتصار أهل صحار بقيادته، أصبحت ثقة الناس فيه أكبر من أي قائد آخر، حتى إن بعض المؤرخين يربطون صعوده السياسي بكونه القائد الوحيد الذي أوقف الانهيار قبل أن يتحول إلى سقوط دائم.
وعندما اجتمعت القبائل والعلماء لاختيار إمام جديد يعيد ترتيب الدولة، وقع اختيارهم على الإمام أحمد بن سعيد، وقد كان واليا على صحار وامتاز الإمام أحمد بن سعيد بشخصيته الكاريزمية وذلك من خلال توحيد القبائل حوله، مما كان له أثر فعال لم شمل القبائل العمانية والأئمة والشيوخ، وأدى ذلك إلى أن تتحول أنظار المجمعين حوله إلى مبايعته إماما لعمان، ومثلت البيعة نقطة بداية للدولة البوسعيدية، ولم يكن الإمام أحمد بن سعيد إمامًا عاديًا، بل كان مؤسسًا لدولة جديدة، ولهذا وضع من اليوم الأول خطة لإعادة بناء عمان من الداخل، قبل أي محاولة للتوسع الخارجي، وهذا يعكس منهجًا سياسيًا متقدمًا إذ كان يرى أن الدولة لا يمكن أن تتعامل مع العالم الخارجي بثقة ما لم يكن كيانها الداخلي متماسكًا ومستقرًا.
بدأ الإمام السيد أحمد بن سعيد مشروعه الداخلي بإعادة تنظيم الولايات، وأعاد توزيع السلطة بين الداخل والساحل بطريقة تجعل كل منطقة مرتبطة مباشرة بالإمام، لا بالقبيلة واختار ولاة من أهل الخبرة لا من أهل العصبية، ومنحهم صلاحيات واضحة، لكنه كان يراقبهم بدقة، ويرسل إليهم الرسائل ويوجه لهم النصائح، ويعزل من يتجاوز حدوده، ولم يتردد في عزل ولاته أو أبنائه، إذا بلغه منهم تجاوز أو تظلم من المواطنين، وبهذا وضع أساسًا لنظام إداري عادل ومتقدم، يشبه الأنظمة الحديثة في وضوح المهام وتحديد المسؤوليات ولعل المقارنة الأهم هنا أن الإدارة العمانية قبله كانت تقوم على النفوذ القبلي، بينما جعلها هو إدارة مبنية على الكفاءة، وهو ما يعد إحدى النقاط التي تميز مشروعه عن مشروع اليعاربة المتأخر الذي انهار بسبب الصراع بين البيوتات.
أما في الجانب القضائي فقد أعاد الإمام أحمد بن سعيد تنظيم القضاء الشرعي وأسس شبكة قضاة مستقلين، وكان يشرف بنفسه على تعيينهم، وكانت استقلالية القضاء سمة بارزة في سياسة الإمام أحمد بن سعيد، لأن ذلك يمنح المجتمع ثقة بالنظام السياسي، ويخلق شعورا عاما بأن الدولة ليست أداة في يد قبيلة أو فئة، بل مؤسسة عادلة وقد كانت هذه الاستقلالية نقطة تفوق مهمة على الأنظمة المجاورة؛ حيث كان القاضي في عمان أكثر استقلالًا من القاضي في الحجاز أو اليمن أو الخليج في الفترة نفسها.
وفي الجانب المالي، كان لإصلاحاته أثر بالغ، فقد وضعت نظم ثابتة للضرائب، ونُظمت الرسوم الجمركية في الموانئ، وأُعيد تأسيس الأوقاف لضمان استقلاليتها، وتم دعم الزراعة بالنفقات اللازمة لترميم الأفلاج، واللافت أن الإمام لم يعتبر الضرائب مجرد أداة مالية، بل أداة سياسية لبناء الثقة بين الدولة ورعاياها، إذ كان يصر أن تكون الضرائب عادلة وغير مرهقة، وأن يعود جزء منها مباشرة إلى تطوير موارد المنطقة، ودعم الفقراء والمساكين، هذه النظرة الاقتصادية المتوازنة في جانب منها، تشبه في بعض ملامحها السياسات الإصلاحية التي ظهرت في الدولة العثمانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها في عمان كانت أكثر انسيابًا وأقرب إلى المجتمع.
أما الأسطول البحري، فكان مشروعه الأكبر والأهم فقد رأى أن عُمان دولة بحرية قبل أن تكون دولة برية، وأن نفوذها الحقيقي في المحيط الهندي هو مصدر قوتها لذلك أعاد بناء الأسطول من الصفر، وطور صناعة السفن في صور ومسقط وصحار، وجعل منها صناعة استراتيجية للدولة، كانت السفن العمانية في عهده تتفوق في متانتها على السفن الخليجية والهندية، وكانت قادرة على الإبحار لمسافات طويلة دون الحاجة إلى التوقف المتكرر وهذه القدرة منحت عمان حرية الحركة التجارية والسياسية، وجعلت دولًا مثل الهند وفرنسا وبريطانيا تنظر إلى عمان باعتبارها قوة بحرية لا يمكن تجاهلها.
وفي العلاقات الخارجية، اتبع الإمام أحمد سياسة شديدة الذكاء تقوم على فكرة توازن القوى، فهو لم يسمح لبريطانيا بالتغلغل السياسي رغم حاجته للتجارة معها، ولم يسمح لفرنسا بمنافسة بريطانيا إلا في حدود تكفل لعمان الاستفادة من الطرفين دون الارتهان لأي منهما وكانت هذه السياسة تشبه سياسة الدول الصغيرة الكبرى مثل عمان آنذاك، التي تعيش بين قوى متصارعة لكنها تحافظ على استقلالها وبهذا حافظ على سيادة الدولة في وقت كانت فيه القوى الأوروبية قادرة على إخضاع مدن كاملة بسفينة واحدة، أما في شرق أفريقيا، فقد أحكم ربط الموانئ الأفريقية بعُمان، وضمن استمرار النفوذ العماني الذي سيبلغ ذروته لاحقًا في عهد سلاطين أسرته، وقد كان يرى أفريقيا جزءًا من الامتداد الطبيعي لعمان، وذلك من خلال المعاملات التجارية التي تربط عمان بمدن ومناطق الساحل منها (ممباسا)، ولذلك حافظ على أواصر العلاقات الاجتماعية والتجارية التي كانت قائمة منذ قرون.
وفي الجانب الأسري، كان الإمام أحمد يدرك أن استقرار الدولة يحتاج إلى عائلة حاكمة قوية، ولكن دون أن تتحول هذه الأسرة إلى سلطة مطلقة فوق الدولة ولذلك ربى أبناءه على المسؤولية، ووزع عليهم المهام تدريجيًا، وجعلهم يشاركون في إدارة الداخل والساحل وقد ظهر أثر هذه التربية في أن الدولة استمرت بعد وفاته دون انهيار.
وهكذا يظهر لنا أن تجربة الإمام أحمد بن سعيد ليست مجرد صفحة في التاريخ، بل هي نموذج متكامل لبناء الدولة، فقد استطاع أن يعيد توحيد بلد مليء بالصراعات، وأن يضع نظامًا إداريًا رصينًا، وأن يعيد بناء الأسطول البحري، وأن يوازن بين القوى الكبرى، وأن يربط عمان بالعالم الخارجي دون أن يسمح لأي طرف بالهيمنة عليها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإمام أحمد بن سعید أن الدولة وهو ما
إقرأ أيضاً:
أحمد بن سعيد: الطلبيات الجديدة تدعم خطط انتقال الأسطول إلى الجيل الجديد من الطائرات
مصطفى عبد العظيم (دبي)
أكد سمو الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم، الرئيس الأعلى، الرئيس التنفيذي لطيران الإمارات والمجموعة، أن الطلبيات الجديدة لطيران الإمارات، تهدف إلى تعزيز استراتيجية الأسطول لتسريع الانتقال السلس نحو الجيل الجديد من الطائرات التي تتميز بالكفاءة التشغيلية من ناحية الانبعاثات واستهلاك الوقود.
وأوضح سموه أن الناقلة تسير وفق استراتيجية واضحة لإحلال الأسطول الحالي الذي يتكون من طائرات بوينج 777، وطائرات آيرباص A380، التي من المتوقع أن تخرج من الخدمة تدريجياً خلال السنوات المقبلة، بالطائرات الأحدث التي تم التعاقد عليها مع المصنعين والتي كان آخرها طلبية بوينج 777-9 المتوقع في الربع الثاني من عام 2027.
وأشار سموه إلى أن المجموعة تعمل بصورة مستمرة على تحديث استراتيجية الأسطول وربما بوتيرة أسرع، لمواكبة وتيرة التطور والنمو المتسارع الذي تشهده دبي ودولة الإمارات العربية المتحدة، لافتاً إلى أن مجموعة الإمارات تتحرك بالنسق ذاته الذي تسير عليه الإمارة في مختلف المجالات.
وقال سموه في تصريحات للصحفيين على هامش معرض دبي للطيران: «إن الطلبيات الأخيرة، سواء لطيران الإمارات أو فلاي دبي، جاءت نتيجة للنمو الكبير الذي تشهده دبي، وارتفاع الطلب على السفر من وإلى الإمارة، مما يتطلب إضافة طائرات جديدة لتعزيز الطاقة الاستيعابية، بما يتواكب ومستويات النمو المتوقعة خلال السنوات المقبلة».
وتابع سموه: «إن طيران الإمارات تعد اليوم أكبر ناقلة جوية دولية في العالم، وطلبيتها لشراء 65 طائرة إضافية من طراز بوينج 777-9 المزودة بمحركات GE9X، والتي تُقدر بنحو 38 مليار دولار، تمثل إضافة نوعية تساهم في تعزيز المكانة العالمية للناقلة». وقال سموه: «تشغيل أسطول حديث ومتطور يشكل ركيزة أساسية في استراتيجيتها». مشيراً إلى أن الناقلة ستواصل العمل عن قرب مع «بوينج» لضمان تسلم أولى طائراتها من طراز 777-9 المتوقع في الربع الثاني من عام 2027.
وفي إطار خطتها الشاملة لتحديث الأسطول، قال سموه: «إن الناقلة تواصل العمل على تنفيذ برنامج التحديث، والذي يشمل 60 طائرة آيرباص A380 و51 طائرة بوينج 777».
وحول مشروع تطوير مطار آل مكتوم الدولي، قال سموه: «عمليات التطوير تسير بسلاسة ووفق الجدول الزمني المحدد».
خطة شاملة
قال سمو الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم: «إن طيران الإمارات تنفذ خطة شاملة لتركيب خدمة ستارلينك للإنترنت فائق السرعة على جميع طائرات أسطولها في الخدمة، بدءاً من نوفمبر 2025 على طائرات 777، وإكمال المشروع بحلول منتصف 2027. وستوفر الخدمة الإنترنت مجاناً وبسرعات تضاهي الإنترنت الأرضي».