الإعلام العُماني بين القالب والفاعلية
تاريخ النشر: 8th, December 2025 GMT
د. خميس المقيمي
في منتصف القرن العشرين، اكتشف اليابانيون أن صُحُفهم فقدت قدرتها على التأثير، رغم أن انتشارها لم يتراجع أبدًا، وقد أثار هذا الواقع قلقًا واسعًا داخل المؤسسات الإعلامية، ودفع المعنيين بالحقل الصحفي إلى مراجعة مُعمَّقة لفهم ما يحدث.
وبعد سلسلة من المتابعات والبحث، تبيّن أن جزءًا كبيرًا من الجمهور كان يشتري الصحف احترامًا للتقليد أكثر من اهتمامه بما تحمله من مضمون.
والحديث حول هذا الظاهرة يقودني كمدخل للحديث حول المشهد الإعلامي العُماني اليوم؛ فالمتابع المُتخصِّص يرى بوضوح أن الساحة تمُر بمرحلة تستدعي التوقُّف والتأمُّل؛ فعلى الرغم من اتساع أدوات التعبير وتطورها، إضافة إلى التغير الدائم لطبيعة الجمهور، ظلّت المنصّات الرسمية متمسكة بنمط لم يعد قادرًا على حمل التوقعات الجديدة للناس أو جذب انتباههم. ومن هنا تبدو الحاجة إلى مراجعة هادئة تُعيد تعريف مهمة الإعلام ودوره بما ينسجم مع التحولات التي تعيشها البلاد، ومع تطلعات جيل يبحث عن هوية أكثر قربًا منه ومنصة إعلامية أكثر قدرة على جذبه وتمثيل تجربته اليومية.
من هذا المنطلق، نحاول في هذه الزاوية قراءة المشهد الإعلامي العُماني عبر سلسلة مقالات من أبعاد مختلفة، تفتح بابًا لفهم العلاقة بين الإعلام والمجتمع، من أجل تقريب الفجوة بين ما يتوقعه الجمهور وما تُنتجه المنصّات الرسمية، في سبيل إعادة النظر في موقع الإعلام باعتباره فضاءً لتشكيل المعنى الوطني وصناعة الثقة، لا مجرد قناة للخطاب المؤسسي. فالمشهد يتغير على نحو سريع، والجمهور المحلي يتحرك وفق نسق وإيقاع غير منفصل عن الجمهور العالمي واهتماماته، بينما يظل الإعلام في أي دولة في العالم مُطالَبًا بتجديد أدواته كي يحافظ على دوره في صياغة المشتركات التي يقوم عليها الوعي العام.
منذ أكثر من نصف قرن، حمل الإعلام العُماني رسالة بناء الدولة الحديثة؛ فكان أحد أعمدة النهضة العُمانية التي انطلقت في عام 1970، ومرآةً لخطابها الوطني الموحّد ركيزةً أساسية في مشروع تشكيل الهوية الوطنية؛ إذ أسهم في ترسيخ صورة الدولة الواحدة واللغة الجامعة والرموز السيادية التي تشكّل النواة العاطفية للأمة. وقد نجح هذا النموذج المركزي- منذ بواكيره الأولى- في أداء وظيفته بامتياز؛ إذ أرسى ثقافة الولاء والانتماء للدولة ووفّر لغةً مشتركة للتعبير عن الذات الوطنية في مرحلةٍ كانت البلاد بأمسّ الحاجة فيها إلى سردٍ موحّد يجمع الناس حول رؤية التأسيس. وتزداد أهمية هذا التوصيف حين يُنظر إلى النظام الإعلامي بوصفه نموذجًا مناسبًا لبيئة إعلامية هرمية واتجاهًا واحدًا، قبل أن تتبدّل البنية الاتصالية عالميًا.
لكن مع تغيُّر العالم الذي انفتحت فيه النوافذ الإعلامية على اتساعها، تغيَّر الجمهور، بما في ذلك الجمهور العُماني؛ فالبيئة الإعلامية التي كانت ذات اتجاه واحد تحوّلت اليوم إلى فضاءٍ تفاعليٍّ مفتوحٍ تتقاطع فيه المنصّات والخطابات واللغات. وتحوَّل فيه الجمهور من مجرّد متلقٍّ إلى مُنتِجٍ للمحتوى وشريكٍ في صياغة الخطاب العام، يقوده وعيه وثقافته وأدواته الرقمية التي جعلته في قلب المشهد. هذا التحوّل البنيوي جعل الرسالة الإعلامية الرسمية في شكلها الحالي- رغم رمزيتها- تبدو في أحيانٍ كثيرة خارج إيقاع العصر وبعيدة عن تفاصيل الحياة اليومية؛ لأن النظام الإعلامي المركزي بطبيعته محكومٌ بآلياتٍ تُقيِّد سرعة الاستجابة، في حين يقوم الفضاء الرقمي على مبدأ التفاعل الفوري والمشاركة. وتتجلّى الفجوة هنا في وتيرتين متباينتين: وتيرة مؤسسية تتقدم بخطوات محسوبة، ووتيرة رقمية تتسارع بفضل التقنية وثقافة "الترند". هذا التباين ما هو إلّا اختلاف إيقاعات لا يحتاج سوى إدارة واعية.
والحديث حول النظام المركزي والفضاء الرقمي- السائد حاليًا- هو حديث حول نموذجين متباينين في التناول: نموذجٍ يرى في الإعلام أداةَ ضبطٍ واتساق، وآخر يراه مساحةً للحوار والتنوّع. الأول يتشبّث بالرسالة الواحدة حرصًا على الانسجام الوطني، بينما يدعو الثاني إلى دمج الأصوات الجديدة التي تُعبِّر عن المجتمع في تعدّده الجيلي والمناطقي والثقافي. وبين تباين النموذجين، تتجلّى تحدياتٌ متعدّدة يواجهها الإعلام الوطني. ويمكن رصد آثار هذا التباين في أنماط التفاعل اليومية؛ فحين تتأخر المنصة الرسمية عن التعليق على حدث مجتمعي مُهم، تتصدر المنصات الرقمية النقاش، ما يعكس تغيُّرًا في مصدر المبادرة الإعلامية.
فمن جهة، لا يمكن إنكار جهود الإعلام الرسمي في حماية الرموز الوطنية والمحافظة عليها، لكنه من جهةٍ أخرى لم يَبلُغ بعد الوتيرة اللازمة للحصول على القبول المجتمعي الشامل؛ حيث لم ينجح في عين المتابع المختص من الوصول إلى المرحلة التي تُمكِّنه من تجديد خطابه وآلياته ليخرج من أَسْرِ الدور الاحتفالي أو البروتوكولي. الجمهور اليوم- لا سيما فئة الشباب وتحديدًا "جيل زد (Z)"- يبحث عن التفاعل اللحظي والمهنية حتى ولو كان في أبسط أدواته، وعن منصةٍ تمنحه مساحةً للمساءلة والتعبير؛ حيث لا يخفى على أحد كيف أن فئات واسعة من الجمهور تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي مصدرها الأول للأخبار والنقاش العام، ليس لغياب الثقة بالمنصات الإعلامية الرسمية بالضرورة، ولكن لأن هذه الفئات تجد في وسائل التواصل الاجتماعي مساحة لحرية التعبير والتفاعل الفوري التي يفتقدونها في المنصة الإعلامية الرسمية.
هنا تبدو مسؤولية الإعلام الرسمي العُماني مضاعفة: أن يعكس روح التحديث دون أن يفقد أصالته، وأن يبني جسور الثقة بين الدولة والمجتمع عبر خطابٍ متوازنٍ وواعٍ، بما يعكس تنوُّع هذه البلاد وغناها الثقافي والإنساني، وأن يستثمر- بأدوات مدروسة- في النهج الذي دعا إليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- لترسيخ السمت العُماني الأصيل القائم على الاعتدال، والتمسك بالجذور مع الانفتاح على العصر؛ وهي مهمة نحن في أمسِّ الحاجة إلى تبنّيها ودعمها والترويج لها.
هذا الانتقال لا يعني التواجد في الفضاء الرقمي فقط، وإنما التحوُّل في شكل المؤسسة الإعلامية الرسمية من "جهاز إعلامي" إلى منظومة إعلامية وشبكة متكاملة، تُحدِّث أدواتها ولُغتها وتَرعى الحوار وتتوازن في التوجيه، وأن تتعدد رسائلها تحت مظلة هوية عُمانية جامعة بدلًا من أن تكون جهازًا ذا رسالة أُحادية الاتجاه، تلغي هذا العصر الاعلامي الحيّ بكل أداوته ومفرداته وتقنياته.
لا يتطلبُ هذا التحوُّل بطبيعة الحال تفكيك المركزية التي تقوم عليها المؤسسة الإعلامية الرسمية حاليًا، إنما إعادة توزيعها بطريقة تُتيح لكل منظومة ومؤسسة إعلامية وفئة اجتماعية وأفراد، أن يكونوا شركاء في إنتاج السرد الوطني؛ فالمجتمع المُتنوِّع يحتاج إلى صوتٍ متعدد. وهذا التنوع لن يمسّ ثوابت الهُوية، وإنما سيمنحها- متى ما هيأت له المساحة الحقيقية- حياةً وتجديدًا وقدرة على مواكبة العصر.
وكما كشفت التجربة التي استُحضرَتْ في مقدمة هذا المقال أن المشكلة لم تكن في الصحف ولا في القُرّاء، إنما في المسافة التي اتسعت بين الرسالة والوسيط والمتلقي، إلى درجة بقاء الشكل حاضرًا في غياب الأثر المطلوب.
تتكرر اليوم في المشهد الإعلامي الوطني الإشارة نفسها؛ إذ يقف المتابع لما يقدمه الإعلام الرسمي أمام سؤال محوري: متى سيبادر الإعلام الرسمي العُماني لاستعادة دوره الحقيقي في أن يكون صانعًا للوعي العام ومُعيدًا لتوازن الخطاب الوطني؟! فالقوة الحقيقية تنبع من قدرة المؤسسة الإعلامية الرسمية على قيادة السرد الوطني وإنتاج خطاب يجذب المتابع، ويُكوِّن قاعدةً جماهيريةً وطنيةً تُتَرْجَم من خلالها رؤية القيادة وطموح المجتمع.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: