صوتك لا صدى غيرك!
تاريخ النشر: 10th, December 2025 GMT
بلقيس بنت خلفان الشريقية
يعيش الإنسان في هذا العصر صراعًا بين ذاته وعالمه الخارجي، حيث إن العالم الخارجي ملوث بأصوات وآراء ومعتقدات قد تختلف عن الوجهة التي اتخذها في بداية الأمر، ربما وجهات تُزاحم فكره وتشعره بالاختناق أو الحيرة أحيانًا، فيصبح غير قادر على الاستماع أو النظر إلى دوافعه أو أفكاره الداخلية؛ فيصبح أسيرًا لضجيج العالم الخارجي؛ ففي كل يوم تولد شعارات أو ما يُعرف بـ "الترند الجديد".
الذي ينجر خلف تجربته الكثير فيُصاب الفرد بالذهول من الأمر والحيرة ولا يستطيع التمييز بين ما يريده حقًّا، وما الشيء الذي يندفع إليه فقط لأن هذا الشيء جربه الكثير وأن الكثير في هذا المجال. بين الكم الهائل من هذه الفوضى الهادئة، كان لا بد عليه من العودة والتفتيش إلى الجانب الداخلي أمرًا ضروريًا؛ لتتذكر أن هناك في جوفك قلبًا يسمع، وعقلًا يبصر ويفكر، وصوتًا داخليًّا أهدأ من الصخب والضجيج المنفجر خارجيًّا لكنه يحمل في طياته عمقًا كبيرًا.
قبل أيام كنت أتصفح في إحدى منصات التواصل الاجتماعي وإذا بمقال أدهشني كثيرًا يتحدث عن قصة رمزية عُرفت بـ "قفزة الخروف الأبيض". الفكرة التي عرضها الكاتب كانت كافية لتحرك أفكاري وتترك عمقًا كبيرًا في داخلي. لم تكن الحكاية فقط عن خرافٍ تعيش عند سفح جبل فحسب، بل كانت مرآة تخبرنا كيف يمكن للإنسان أن يستسلم في اتخاذ قراره للجماعة التي يتعايش معها، وكيف يمكن لخطوة أو قرار فرد واحد أن تصبح مصير مجموعة كاملة حين يغيب التساؤل عن المنطق، ويختفي الفكر، ويُترك الصوت الداخلي في زاوية لصالح الضجيج الخارجي.
كان المقال يروي أن قطيعًا من الخراف اعتاد أن يتحرك كجسد واحد؛ يتقدم أولهم فيتقدم الجميع، ويتوقف فيتوقفون خلفه، دون أن يسأل أحد: لماذا نسير هنا؟ ولماذا نتوقف هناك؟ وفي لحظة فارقة، قفز خروف صغير قرب حافة الجبل، ربما ظن أن الغيم المتكوّن تحت الجرف أرضٌ يمكن الوقوف عليها، وربما خُيّل إليه أنه اكتشف طريقًا جديدًا لا يعرفه الآخرون. قفز بثقة… فاندفع القطيع كله من خلفه، واحدًا تلو الآخر. لم يكن الخطر في قفزة الخروف الأول بقدر ما كان في استجابة الآخرين لها دون تفكير، في تلك الثقة العمياء التي جعلت الفعل الفردي قرارًا جماعيًّا لا رجعة فيه.
هنا رسمتُ خيالًا واسعًا داخليًّا لأحلل الصورة؛ ليس لأنها غريبة، بل لأنها تحمل في طياتها كمًّا مألوفًا من الوجع. فالله تعالى حذّرنا سابقًا من الاندفاع خلف الكثرة حين تغيب البصيرة، فقال عز وجل: "إِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" (الأنعام: 116). وكأن الآية تضع يدها على جوهر المشكلة: أن الخطأ لا يتوقف عند شخصٍ بدأه، بل عند الذين جعلوا من عدده وكثرته شرعية تغني عن التفكير والسؤال.
وفي السُّنّة النبوية، يختصر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في جملة دقيقة: "لَا تَكُونُوا إِمَّعةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا" رواه الترمذي.
هنا ليس مطلوبًا على الإنسان الانطفاء والعزلة عن الناس ومن حوله، ولكن الخطر أن يذوب فيهم فيفقد ذاته وملامحه، فيصبح صدى لأصواتهم، لا صوتًا نابِعًا من الوعي والقيم التي تُميز بصيرته.
حين ننقل هذه المعاني إلى واقع اليوم، نجد أنفسنا أمام نسخٍ جديدة من القطيع ذاته، لكن بثياب رقمية هذه المرة. "ترند" ينتشر، فيتماشى معه الآلاف وربما الملايين، دون أن يسأل أغلبهم: هل أفهم أصل هذه الفكرة؟ من أي بلد أتت؟ هل تتناسب مع ديني؟ هل أتفق حقًّا مع محتواها؟ ما أثرها عليَّ وعلى من يتابعني؟ أم هي فكرة أتت فقط لتُلوث هذا الصفاء الذي كنت أعيشه؟ قد نرى مقطعًا يُهاجَم فيه شخص، أو يُسخر من قيمة، أو يُعاد تشكيل مفهوم، فينساق الناس بين مؤيدٍ ومهاجم، لا لأنهم درسوا الموضوع، بل لأن الموجة أقوى من سؤال: هل هذا صواب أصلًا؟
في زمن كهذا، يصبح الحفاظ على التوازن داخليًّا ضرورة لا خيارًا. أن تكون متوازنًا، تعرف متى تمضي، ومتى تتوقف، ومتى تعطي، ومتى تلتفت إلى قلبك لتسمع ما يقوله لك بصوت خافت. فالحياة لا تكافئ من يركض بلا اتجاه، ولا من يقف جامدًا خوفًا من الخطأ، لكنها تبارك تلك الخطوة التي سبقتها لحظة وعي، ومساحة تفكير، وهمسة صادقة من الداخل تقول: هذا يشبهني، وهذا لا يشبهني.
دعِ الأيام تمضي دون أن تستنزفك موجات التقليد. لا تجعل "الترند" يُمسك بزمام وقتك، ولا تسمح لضجيج المنصات أن يصادر حقك في الاختيار. لا تنتظر اللحظة المناسبة لتعيش؛ اللحظة المناسبة تُصنع غالبًا حين تُقرر أن تُهدئ سرعتك قليلًا، أن تتراجع خطوة إلى الوراء لتُبصر الصورة كاملة، لا زاوية واحدة منها. خفف خطاك، وامنح ذاتك ما تستحقه من العناية، واسمح لقلبك بأن يستريح قليلًا؛ فالقلب الذي يجد راحته هو القادر على أن يمنح الآخرين أجمل ما فيه.
العمر لا يليق به أن يكون سباقًا بلا نهاية، ولا معركة طويلة تُستهلك فيها الأرواح في إثبات الوجود أمام الآخرين. العمر مساحة للطمأنينة، للابتسامات الصغيرة، وللأحاديث التي تُبنى عليها الألفة، لا على عدد المتابعين ولا على حجم التفاعل. ما جدوى أن نكسب كل المعارك في الخارج ونخسر أنفسنا بهدوء في الداخل؟ ما جدوى أن نتماشى مع كل موجة، ونقفز مع كل قفزة، ثم نكتشف في آخر الطريق أننا لا نعرف من نحن أصلًا؟
حين نتأمل قصة الخروف الأبيض من جديد، نكتشف أن السؤال الأهم ليس: لماذا قفز الأول؟ بل: لماذا قفز الآخرون خلفه؟ هذا السؤال، في جوهره، هو سؤال عن علاقتنا بالجمع، وعن المسافة التي ينبغي أن تبقى بيننا وبين القطيع. فليست المشكلة في أن نكون جزءًا من مجتمع، بل في أن نفقد وعينا ونحن نسير معه. ليست المشكلة في أن نتفاعل مع ما يحدث حولنا، بل في أن نترك ما يحدث حولنا يبتلع ما يحدث في داخلنا.
القرآن يرسم لنا ملامح هذا الطريق حين يقول الله تعالى: "قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف: 108).
البصيرة هنا ليست وصفًا للداعية وحده، بل لكل سائر في طريقه؛ أن يعرف لماذا يسير، وإلى أين، وبأي قلب، وبأي نية. البصيرة أن تسأل قبل أن تتبنّى، أن تفكر قبل أن تشارك، أن تُراجع نفسك قبل أن تنخرط في موجة لا تدري إلى أين تتجه.
وفي نهاية الأمر، لا يبقى مع الإنسان سوى صدى صوته الداخلي، ذلك الصوت الذي يخفت أحيانًا تحت وطأة الضجيج، لكنه لا ينطفئ أبدًا. العالم سيواصل ضجيجه، والترندات ستظهر وتختفي، والجماعات ستظل تركض في كل اتجاه؛ هذا أمر لا نملكه ولا نوقفه. ما نملكه حقًّا هو قرار واحد بسيط… لكنه مصيري: أن نسمح لذلك الصوت الهادئ في داخلنا أن يُسمع، أن نحميه من ذوبانٍ بطيء تحت تصفيق الآخرين أو تحت خوفنا من الاختلاف.
استمع لصوتك الداخلي، لا لأنه معصوم، بل لأنه الأقرب إلى حقيقتك. راجعه بنور القرآن، وبهدي السنة، وبعقلك الذي وهبك الله إيّاه لتُبصر لا لتُغلق عينيك. احفظه من الضياع وسط الجموع؛ فإن نجا هذا الصوت… نجوت أنت، حتى لو كان القطيع كله يتجه في اتجاهٍ آخر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كواليس لقاء برّي - لودريان... ما الذي جرى بحثه؟
أفادت معلومات صحافية أن رئيس مجلس النواب نبيه برّي شدّد خلال لقائه المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي جان إيف لودريان على ضرورة وقف الاعتداءات الإسرائيليّة. وأشارت المعلومات إلى أن "زيارة لودريان تأتي في إطار الموقف الفرنسي الداعم لقرار تعيين السفير سيمون كرم في رئاسة الوفد المفاوض". وأضافت: "ملف الانتخابات النيابية حاضر في لقاءات لودريان وتشديد على إجراء الاستحقاق في موعده وعدم إعطاء أي إشارة سلبية خلال العهد الجديد". مواضيع ذات صلة وزير الخارجية التقى لودريان... وهذا ما جرى بحثه Lebanon 24 وزير الخارجية التقى لودريان... وهذا ما جرى بحثه 09/12/2025 12:34:36 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24 لقاء بين بري وسلام لبحث آخر التطورات السياسية Lebanon 24 لقاء بين بري وسلام لبحث آخر التطورات السياسية
09/12/2025 12:34:36 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24 جعجع استقبل سفير اليابان.. وهذا ما جرى بحثه Lebanon 24 جعجع استقبل سفير اليابان.. وهذا ما جرى بحثه
09/12/2025 12:34:36 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24 وصول الموفد الفرنسي جان ايف لودريان الى عين التينة للقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري Lebanon 24 وصول الموفد الفرنسي جان ايف لودريان الى عين التينة للقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري
09/12/2025 12:34:36 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24 قد يعجبك أيضاً
الأعمال الصغيرة تنقذ الاقتصاد.. روّاد أعمال ينهضون من قلب الانهيار
Lebanon 24 الأعمال الصغيرة تنقذ الاقتصاد.. روّاد أعمال ينهضون من قلب الانهيار
05:30 | 2025-12-09 09/12/2025 05:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 لجنة المال تناقش موازنة 2026
Lebanon 24 لجنة المال تناقش موازنة 2026
05:25 | 2025-12-09 09/12/2025 05:25:15 Lebanon 24 Lebanon 24 عبد الله: إحالة الإعتماد المطلوب لإستكمال تجمع الأبنية الحكومية في شحيم
Lebanon 24 عبد الله: إحالة الإعتماد المطلوب لإستكمال تجمع الأبنية الحكومية في شحيم
05:22 | 2025-12-09 09/12/2025 05:22:31 Lebanon 24 Lebanon 24 البستاني: الجيش يعمل بلا كلل لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار رغم الانتقادات
Lebanon 24 البستاني: الجيش يعمل بلا كلل لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار رغم الانتقادات
05:15 | 2025-12-09 09/12/2025 05:15:22 Lebanon 24 Lebanon 24 سلام: نعمل على إعادة تنظيم المجال العام في بيروت
Lebanon 24 سلام: نعمل على إعادة تنظيم المجال العام في بيروت
05:14 | 2025-12-09 09/12/2025 05:14:54 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة
منخفض "دوار" يضرب لبنان: كانون الأول يعد بالخيرات.. استعدوا لسلسلة من المنخفضات
Lebanon 24 منخفض "دوار" يضرب لبنان: كانون الأول يعد بالخيرات.. استعدوا لسلسلة من المنخفضات
02:30 | 2025-12-09 09/12/2025 02:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 ممثل لبنانيّ شهير مصاب بالسرطان منذ سنتين: "عم جرّب اكسب وقت حدّ أولادي"
Lebanon 24 ممثل لبنانيّ شهير مصاب بالسرطان منذ سنتين: "عم جرّب اكسب وقت حدّ أولادي"
05:51 | 2025-12-08 08/12/2025 05:51:56 Lebanon 24 Lebanon 24 إطلاق نار من أسلحة ثقيلة وتحرّك دبابات... هذا ما يحدث في الجنوب الآن
Lebanon 24 إطلاق نار من أسلحة ثقيلة وتحرّك دبابات... هذا ما يحدث في الجنوب الآن
10:50 | 2025-12-08 08/12/2025 10:50:31 Lebanon 24 Lebanon 24 هل يتم نقل لبنان من ضفة الى اخرى؟
Lebanon 24 هل يتم نقل لبنان من ضفة الى اخرى؟
11:00 | 2025-12-08 08/12/2025 11:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 "لا يزال خطيراً".. موقع أميركي يُحذّر إسرائيل من مناورتها الخطيرة ضد "حزب الله"
Lebanon 24 "لا يزال خطيراً".. موقع أميركي يُحذّر إسرائيل من مناورتها الخطيرة ضد "حزب الله"
10:30 | 2025-12-08 08/12/2025 10:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان
05:30 | 2025-12-09 الأعمال الصغيرة تنقذ الاقتصاد.. روّاد أعمال ينهضون من قلب الانهيار 05:25 | 2025-12-09 لجنة المال تناقش موازنة 2026 05:22 | 2025-12-09 عبد الله: إحالة الإعتماد المطلوب لإستكمال تجمع الأبنية الحكومية في شحيم 05:15 | 2025-12-09 البستاني: الجيش يعمل بلا كلل لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار رغم الانتقادات 05:14 | 2025-12-09 سلام: نعمل على إعادة تنظيم المجال العام في بيروت 05:08 | 2025-12-09 بعد انتهاء الأعياد... هذا ما تُحضّره إسرائيل للبنان فيديو محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب !
Lebanon 24 محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب !
05:09 | 2025-12-06 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو)
Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو)
04:00 | 2025-12-06 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24 بث مباشر.. البابا لاوون الرابع عشر في ساحة الشهداء
Lebanon 24 بث مباشر.. البابا لاوون الرابع عشر في ساحة الشهداء
09:14 | 2025-12-01 09/12/2025 12:34:36 Lebanon 24 Lebanon 24
Download our application
مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة
Download our application
Follow Us
Download our application
بريد إلكتروني غير صالح Softimpact
Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24