في تذكر النوبي هيرمان بيل (١٩٣٣ – ٢٠٢٣)
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
التقينا لأول مرة في أحد أيام الصيف الحارة في الخرطوم، حينما تقدم إلى مجموعة دال لنشر مجموعة صور نادرة، و لا تقدر بثمن، التقطها مع زوجته آن، للطبيعة والحياة في بلاد النوبة خلال سنوات أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين ، قبل "هجرة" ١٩٦٤، عندما اضطر سكان وادي حلفا والقرى المجاورة إلى الهجرة إلى منطقة "خشم القربة" بشرق السودان ، بعد أن غمرت مياه خزان السد العالي ، الذي شيدته الحكومة المصرية ، أرضهم التاريخية، وغطت مواقعها الأثرية التي لم تشملها حملة "انقاذ آثار النوبة".
عندما التقيت هيرمان شعرت، لأول وهلة، وكأنني أعرفه منذ زمان بعيد! كان يتمتع بشخصية ساحرة، مقترنة بطريقة فريدة جداً في التواصل، تجذب اليه الناس. وباعتباري سودانياً أذهلتني معرفته العميقة بالثقافة المحلية وباللغتين النوبية والعربية، وقبل كل ذلك شدتني اليه روح الدعابة التي يتمتع بها الخواجة العجوز! تواصلت علاقة هيرمان بالسودان بعد زيارته الأولى لأكثر من سبعة عقود، عاش خلالها ودرّس في الخرطوم لسنوات عديدة، وظل يزورها بشكل متكرر بعد عودته النهائية لإنجلترا.
لخص اختيار هيرمان اسم "الفردوس المفقود" لكتابه التوثيقي للحياة في بلاد النوبة، عمق علاقته وحبه الحقيقي للمكان وأهله وثقافته. كان اختيار الصور، التعليقات التوضيحية، النص المصاحب، ومجمل تصميم الكتاب دليلاً واضحاً على مدى ارتباطه بذلك الجزء من العالم الذي كون فيه صداقات دائمة وواصل الترويج لثقافته و لغته وتاريخه حتى أيامه الأخيرة.
كانت تجربة العمل مع هيرمان في انتاج كتابه القيم " الفردوس المفقود: النوبة قبل هجرة ١٩٦٤" بمثابة منحنى تعليمي مهم في مسيرتي المهنية في مجال نشر الكتب، وكذلك في رحلتي لاكتشاف جواهر تاريخنا و ثقافتنا النوبية بكل زخمها. لقد كنت محظوظاً بأن اتيحت لي فرص عديدة للقاء هيرمان خلال العقدين الماضيين، في السودان، في منزله في أوكسفورد ، وفي مؤتمر الدراسات النوبية في سويسرا، و كانت ذروة سنام لقاءاتنا حينما أمضينا معاً عدة أيام في وادي حلفا عندما جاء للمشاركة في "المهرجان الثقافي النوبي" الذي نظمه منتدى دال الثقافي في عام ٢٠١٢م
لم يكن بروفيسور هيرمان بيل لغوياً متمرساً فحسب، بل كان أيضاً من القلائل الذين انتبهوا لأهمية اتباع نهج متعدد التخصصات لدراسة اللغات و الثقافة والتاريخ، وهذا ما أدى لثراء مساهماته في مجال الدراسات النوبية ، بدءاً من دراسة الأسماء الجغرافية وصولاً إلي الموسيقى.
إن خسارة أمثال هيرمان بيل ستترك فجوة كبيرة فيما لا يزال يتعين القيام به في دراسة الآثار والتاريخ والثقافة في منطقة النوبة وفي السودان على نطاق أوسع. و نحن، كعائلة ، سنفتقد رسائل التهنئة عند حلول رمضان والأعياد ، وتعازيه الحارة عندما نفقد شخصاً عزيزاً، وكذلك سنفتقد كرمه الفياض في كل مناسبة.
moafathi60@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
ضغوط..
لا نكاد نتجاوز ضغط أمر ما، إلا وندخل في متون ضغوط أخرى: في علاقاتنا مع الآخرين، في المطالبة بحقوقنا، في التزاماتنا، في أداء واجباتنا، في تنفيذ برامجنا، في أسفارنا، في مشاهداتنا، وهي شعور فطري، تقف حيالنا دون قدرتنا على فعل ما، حيث نشعر بالعجز، ولذلك يتنامى هذا الشعور في مختلف هذه المحطات التي نعيشها في يومنا.
ولذلك تصنف مجموعة من الالتزامات التي على الفرد أن يقوم بها، أو ينفذها ضمن ما يعرف بـ «الضغوط» خاصة إذا أدرك الإنسان أن الإيمان بأهمية هذه الالتزامات تذهب إلى تحقيق مصالحه الخاصة والعامة، وإذا أدرك الفرد ذلك، فلماذا إذن يتنصل عن كثير منها؟ أليس هذا التصرف ينبئ عن شعوره بأن هذه الالتزامات تمثل عليه ضغوطا بصورة أو بأخرى؟ وفي الجانب الآخر من المعادلة هل وجد التشريع بأنواعه لمتابعة مدى تقيد الفرد بما عليه من التزامات؟ وهل هناك حالة من التضاد بين الإيمان الذاتي بأهمية تنفيذ الالتزامات، وبين وجود التشريع كحامٍ لها عندما فشلت، على ما يبدو، القناعات الذاتية بتعهداتها في تنفيذ الالتزامات المنوطة على الفرد تحقيقها؟ وهل التشريع في حد ذاته يشكل ضغوطا بصورة أو بأخرى؟ هذه الأسئلة المحورية لا تذهب بعيدا عن مراعاة جوانب الضعف الشعوري الذي عليه الإنسان في مدى حرصه أو عدم حرصه على القيام بواجباته الكاملة تجاه كل ما هو مطالب منه تحقيقه لمصلحته ومصلحة الآخرين من حوله، وعلى ما يبدو أن تلكؤه هو شعوره بمجموعة الضغوط التي تتزاحم عليه من كل جانب، ما يجعله يهرب من الالتزام بما يسند عليه من مهمات، وواجبات، حتى يصل إلى مرحلة الصدام مع التشريع، عندها لا مفر.
وفي ظل الحالة الشعورية هذه، ينسى الفرد أن مجموعة الالتزامات والواجبات المطالب بها تنفيذها هي ذاتها التي يطالب هو الآخرين من حوله تنفيذها لمصالحه الذاتية الخاصة، ومن الغريب في هذا الأمر، أن هذا الفرد الذي يتلكأ في تنفيذ ما عليه من واجبات، ويزعل عندما يلزمه التشريع بتنفيذ ما عليه، هو نفسه الذي يلجأ إلى التشريع لينصفه من تقصير الآخرين عن الالتزام بما تعهدوا به له، إنها حالة من التناقض التي نعيشها مع ذواتنا، ونستشعرها في الرضى، عندما يعنينا الأمر، ونتجاوز عن أهميتها، في حالة النقيض.
قد يتسبب أحدنا في تراكم مراحل الضغوط على نفسه في حياته، عندما يتجاوز قدراته المادية والمعنوية، وذلك بتحميلها ما لا تطيق، ولو بقي على المستويات المقدور عليها من بذل الجهد، والمستويات المعقولة من الطموحات، وتقدير مستويات الإمكانيات الموجودة، فلربما؛ قل مستوى نمو الضغوطات، ولاستوعبنا حقيقة الحياة التي نعيشها، والتي تلزمنا بالحد الأدنى من الجهد، لنبقى على مستوى معين الاطمئنان.
ووفق هذه الصورة المطروحة لا أتصور أنني أتجاوز فهم القائل: «ومن لا يحب صعود الجبال؛ يعش أبد الدهر بين الحفر» فلأصحاب الطموحات الكبيرة، لا شك أن لهم نفسا أكبر يتجاوزون من خلال مستويات الضغوط النفسية التي يعيشها من دونهم، فالمسألة «كما قلت» شعورية أو معنوية؛ بحتة، وهناك أناس لهم القدرة على تجاوز أثر الضغط الشعوري، عندما تتسامى رؤاهم الذاتية إلى النظر فيما هو أكبر، ومع ذلك لا يسلمون من ضغوط جانبية؛ تسبب لهم قلقا بصورة أو بأخرى، فمسألة القلق حالة فطرية لا يمكن تجاوزها سواء عند الذين ينخفض عندهم مستوى الطموح، أو عند الآخرين الذي يرتفع عندهم ذات المستوى، إلا أنه من محاسن الضغوط أنها تسرع في وتيرة الإنجاز، فمن لا يشعر أن هناك ضغوطا ما تحاصره، فإن ذلك يؤدي إلى التباطؤ والتلكؤ في الإنجاز.