ناجورنو كاراباخ والقانون الدولي
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
من السمات الأساسية لفكرة (المجتمع الأممي) أن المؤسسات العابرة للحدود الوطنية قادرة على حل الصراعات القديمة بين الدول من خلال الاعتماد على سيادة القانون والحوار وتحفيز الازدهار الاقتصادي، فإذا أصبحت دولة ما مارقة، كما تقول النظرية، فإن النظام الدولي سوف يعاقبها بكل سهولة دبلوماسيا واقتصاديا.
لقد تبين، أكثر من مرة، أن هذا مجرد وهم، كما يتضح من استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014. لقد كان إقليم (ناجورنو كاراباخ)، الجيب الداخل في حدود أذربيجان، الذي يطالب به الانفصاليون الأرمن، هي المنطقة التي هُزمت مؤخرا، إذ شنت القوات الأذربيجانية يوم الثلاثاء هجوما على الإقليم، وعلى الرغم من أن الوضع على الأرض لا يزال غير واضح، إلا أن القوات الأرمينية وافقت على إلقاء أسلحتها، الأمر الذي قد يؤدي إلى إدخال هذه المنطقة الجبلية المعزولة بأكملها إلى أذربيجان.
كانت (ناجورنو كاراباخ) موجودة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، دولةً غير معترف بها دوليًا ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأرمينيا، ومع ذلك، قابل المجتمع الدولي استخدام أذربيجان للقوة بالتجاهل. مثل العديد من الصراعات القديمة، فإن الحقوق التاريخية والوقائع الحالية تظل محل نزاع ساخن، ومع ذلك فهناك مصالح قوية لكلا الجانبين. إن هذا النزاع، وردود الفعل الدولية عليه، يحمل في طياته دروسا مهمة للعالم حول فلسفة القانون والقوة.
تتمتع أذربيجان بحجة قانونية أكبر في قضية مطالبتها بالأرض، فعندما كانت أذربيجان وأرمينيا جزءًا من الاتحاد السوفييتي، كانت (كاراباخ) منطقة ذات أغلبية أرمينية تتمتع بحكم شبه ذاتي داخل أذربيجان. لم يكن هذا الأمر بتلكم الأهمية؛ نظرًا لأن الكرملين كان يحكم كليهما. عندما سقط الاتحاد السوفييتي، أصبحت حدوده الداخلية ذات أهمية بالغة، لأنه بموجب القاعدة المطلقة والأساسية للقانون الدولي، ترث الدولة الجديدة حدود الكيان الإداري السابق في المنطقة، بغض النظر عن مدى عدم عدالة تلك الترسيمات الحدودية ومدى التلاعب بها.
وكان هذا يعني أن (كاراباخ) لن تكون جزءًا من أرمينيا، مما أدى إلى نشوب حرب بين عامي 1988 و1994، انتصرت فيها القوات الأرمينية، وأمنت الأراضي والمناطق الجبلية المحيطة بأذربيجان التي تقع بين الجيب وأرمينيا، كما أدت الحرب أيضًا إلى عمليات نقل سكانية كبيرة بين البلدين، وهو ما يذكرنا بحروب الاستقلال السابقة في ذلك القرن، فيما انتهت حرب ثانية عام 2020 بمكاسب أذربيجانية كبيرة.
وبهذا، يعد استيلاء أذربيجان بالكامل على كاراباخ الآن من الناحية القانونية تحريرًا لأراضيها، رغم أنها لم تسيطر عليها فعليًا منذ الاستقلال.
القانون الدولي ليس بديلاً عن العدالة أو الأخلاق، فأرمينيا تتمتع بروابط قديمة في المنطقة، التي تعد موطنًا لواحدة من أقدم الكنائس المسيحية الأرثوذكسية في العالم، ومعظم سكانها من الأرمن، الذين لا يريدون أن يندمجوا في الحظيرة الأذربيجانية بعد ذكريات المذابح والأعمال العدائية في القرن العشرين. ويشير التاريخ إلى أن معظمهم لن يبقوا في كاراباخ تحت الحكم الأذري، خاصة في ظل عدم قدرة أرمينيا على حمايتهم وعدم رغبة أذربيجان في منح السكان قدرًا كبيرًا من الحكم الذاتي. وإذا ما تمكنت باكو من إقناعهم بالبقاء كأقلية، فسيكون ذلك علامة قوية على حسن نوايا أذربيجان.
هناك بعض الدروس التي تنبثق من هذا الصراع. الأول يتعلق بقوة الغريزة على المؤسسات، فالكراهية القبلية والطموحات القومية ما زالت حية بقوة في القرن الحادي والعشرين، وأن الحروب على الأرض لا تقتصر على الدول المتخلفة أو الدول الشمولية، فكل من أرمينيا وأذربيجان عضوان في مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ومع ذلك، لم تنجح محاولات منظمة الأمن والتعاون المستمرة منذ عقود لحل الصراع.
وبدلا من ذلك، تم حل «الصراع المجمد» من خلال التفوق الساحق لقوات باكو. تقدم هذه الحقيقة العسكرية درسا ثانيا حول المطالبات الكبرى بالنيابة عن القانون الدولي، فالهجوم الأخير لأذربيجان على كاراباخ لم يكن ردًا على أي عدوان أرمني فوري. زعم الكثير من المحامين الدوليين أن التغييرات القسرية، حتى على خطوط الهدنة المستقرة، هي غير قانونية بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625، المعنون «إعلان العلاقات الودية» الصادر عام 1970، ولا يمكن الاعتراف بها من قبل الدول الأخرى. لكن هذا لم يكن إلا وهما يطبق بشكل انتقائي، حيث سيعترف بسيادة باكو على كاراباخ.
الدرس الثالث يتعلق بالدفاع، فالبلدان التي تعهد بأمنها إلى أجانب، كما فعلت أرمينيا مع روسيا، التي توسطت في وقف إطلاق النار في صراع عام 2020، إنما تفعل ذلك مع وجود مخاطر تتحمل مسؤوليتها بنفسها. إن القوى العظمى تتدخل في مثل هذه الاتفاقيات عندما يكون هناك فائدة تحصل عليها تتمثل في إظهار قوتها وهيبتها، ومن هنا فلا يوجد سبب لتدخلها إذا كان التوقيت غير مناسب، كما هو الحال بالنسبة لموسكو الآن. قد يشفق المجتمع الدولي على الجانب الأضعف، لكن الرهان على الشفقة محفوف بالمخاطر.
الدرس الأخير المستفاد من هذا الصراع متعلق بالتاريخ، الذي يشهد أن التضامن الديني أو العرقي كان أحد الدوافع القوية في الحروب والسياسة الدولية، لذلك فإن تركيا هي الحليف الرئيسي لأذربيجان، إلا أن هذا الدافع يبدو أنه لم يعد يحرك الغرب المسيحي، ومن هنا لا يسعنا إلا أن نقول: كان الرب في عون تلك الدول التي يجب أن تقاوم وحدها.
يوجين كونتوروفيتش أستاذ في كلية الحقوق بجامعة جورج ماسون سكاليا، ومدير مركز الشرق الأوسط والقانون الدولي فيها.
عن وول ستريت جورنال.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القانون الدولی
إقرأ أيضاً:
حرب غزة التي لم تنته
لا شيء في غزة يشير إلى أن الحرب انتهت عدا اللغة الدبلوماسية الباردة التي اختارت أن تطلق على ما يجري اسم «اتفاق سلام» أو«وقف إطلاق نار». الواقع على الأرض يقول شيئا آخر تماما، قصف مستمر رغم أن البعض يطلق عليه اختراق للاتفاق، وحصار خانق لا ينتبه له الكثيرون، ومعاناة إنسانية تتفاقم كل يوم مع دخول الشتاء، فيما يتراجع الاهتمام الدولي خطوة بعد أخرى، كأن العالم قرر أن يُغلِق الملف لمجرد أن نصا «للسلام» وقع في شرم الشيخ.
لا يوجد أي نوع من أنواع «السلام» في المخيمات العشوائية التي انتشرت على طول القطاع وعرضه، مجرد خيام متهالكة تغرق في مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي. ينام الأطفال بملابس مبللة، والمرضى بلا دواء. وجميع الأسر بلا مأوى إلا بطانيات متهالكة ورطبة وبعض خبز جاف.
ورغم أن المنظمات الدولية تتحدث بصوت واضح عن استمرار المجاعة، وتفشّي الأمراض والأوبئة، وعن نظام صحي منهار لا يستطيع التعامل مع أبسط الطوارئ إلا أن أحدا لا يكاد يصغي لكل هذا، ولا حديث إلا عن اتفاق السلام «الهش» وما يعتريه بين حين وآخر من اختراقات إسرائيلية! لكن الحقيقة لا أحد يراها أو يريد أن يراها أن الوضع ما زال مستمرا إلى حد كبير.. الهجمات مستمرة، والشهداء يسقطون كل يوم، والجوع مستمر، وغزة كلها من شمالها إلى جنوبها مكشوفة أمام الشتاء القارص. لا يوحي هذا المشهد أن غزة دخلت «مرحلة ما بعد الحرب».. ما زالت الحرب مستمرة بطريقة أو بأخرى. الذي تغير فقط أن الضمير العالمي يعتقد أنه أدى ما عليه وتم توقيع اتفاق «للسلام» حتى لو كان ذلك على الورق فقط أو في بعض وسائل الإعلام.
أما الاحتلال الإسرائيلي فما زال يتحكم في إيقاع الحياة والموت في غزة؛ يتحكم في المعابر، ويحدد عدد الشاحنات التي تدخل، ونوعية المساعدات المسموح بها، ولم يتحول الاتفاق إلى آلية لتدفق المساعدات وتحول في كثير من الأحيان إلى غطاء سياسي يتيح استمرار الضغط العسكري والاقتصادي على القطاع مع قدر أقل من الضجيج الإعلامي.
تقع المسؤولية إضافة إلى إسرائيل على الدول التي رعت الاتفاق وقدّمت نفسها ضامنة لوقف إطلاق النار الذي لم يتحقق وفق ما تم الاتفاق عليه. وعلى هذه الدول أن تعود مرة أخرى إلى الضغط على إسرائيل وتغير من مستوى اللغة المستخدمة التي تبدو أقرب إلى إدارة أزمة طويلة الأمد منها إلى مواجهة انتهاك سافر للقانون الدولي الإنساني.
والعالم الذي ملأ الشوارع باللافتات المطالبة بوقف الحرب لا يمكن أن يكتفي الآن بالقول إن «اتفاق سلام» وُقِّع وإن الملف في طريقه إلى الإغلاق. إذا كان لوقف إطلاق النار معنى حقيقي، فهو أن يتوقف القتل بالكامل، وأن تُرفَع القيود عن الغذاء والدواء والوقود، وأن تُحمى المستشفيات والمدارس ومخيمات النزوح.
ما ينبغي أن يُقال بصراحة هو أن ترك غزة في هذا الوضع، بعد كل ما شهدته من تدمير وتهجير هو استمرار للتواطؤ الذي بدأ مع بداية الحرب. وأن محاولة تكريس فكرة أن غزة في مرحلة ما بعد الحرب هو وصف تجميلي لحرب ما زالت متواصلة بأدوات أقل صخبا، لكن بالوحشية نفسها.