سودانايل:
2025-07-04@11:25:31 GMT

“لا للحرب” أم لا للقوات المسلحة والكيزان!

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

جاءت الحرب الناشبة في السودان إلى حلف الجماعات الليبرالية والحداثية واليسارية في قوى الحرية والتغيير (قحت) بخصوم هم القوات المسلحة ومن ورائها الإسلاميون من جانب، والدعم السريع من الجانب الآخر.
وتحكّم التاريخ السياسي المعاصر في طرائق أخذ "قحت" بهذه الأطراف في الحرب. فنشأ جيل هذه الجماعات وفطم منذ الستينيات على خصومة سياسية مع القوات المسلحة والإسلاميين بلغت شعواؤها ببعضهم مبلغ البغضاء المطلقة، فاكتسبوا معارفهم السياسية وخبرتهم من فوق معارضتهم للنظم العسكرية الثلاثة، الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر نميري والمشير حسن أحمد البشير، التي حكمت السودان مدة 53 عاماً من أصل 67 عاماً هي سنوات الحكم الوطني منذ استقلال السودان عام 1956.


وتجمرت تلك الخبرة من فوق ثلاث ثورات في 1964 و1985 و2018 أطاحت بتلك النظم واستردت النظام الديمقراطي لحين. أما عن الإسلاميين فحدث ولا حرج. فقد كرهت جماعة الحرية والتغيير في صورها المختلفة مشروعهم في أسلمة الدولة منذ الستينيات بغض النظر عن طبيعة الفضاء السياسي.
وكان الإسلاميون رأس الرمح في عرض مسودة مشروعهم للدستور الإسلامي على البرلمان عام 1968 الذي عطله نميري بانقلابه عام 1969 قائلاً إنه لا يساوي الحبر الذي كتب به. ولكنه عاد هو نفسه ليحكم به في مغرب دولته عام 1983 عبر حلف وثيق مع الإسلاميين حتى الإطاحة به عام 1985. ومعلوم أن الإسلاميين حكموا بالشريعة ما وسعهم بعد انقلابهم عام 1989 وحتى إزاحتهم في 2019.
وبوسع المرء أن يرى من هذا النزاع المتطاول كيف اتفق لـ "قحت" ألا تنأى عن طرف القوات المسلحة والإسلاميين في هذه الحرب وحسب، بل أن تستعديه باتهامه ببدء الحرب وتحميله وزرها. وكان من الصعب على قوى الحرية والتغيير، وقد عادت الجيش والإسلاميين بلا رجعة، ألا تبدو جانحة في نظر كثيرين لطرف "الدعم السريع".
ومع ذلك فحظ "الدعم السريع" من خصومة "قحت" لا يقل عن خصومتها للجيش والإسلاميين. فلم تكف عن الاحتجاج على تلطيخه دارفور بالدم خلال عهد الإنقاذ، في ما وصف بجرائم الحرب والإبادة، واحتجت عليه بقوة لما طاول عنفه المقاومة المدنية في الخرطوم بقمع احتجاجات سبتمبر (أيلول) 2013 بكلفة فادحة في الأرواح. وصار حل "الدعم السريع" ودمجه في القوات المسلحة بعد إصلاح شأنها من ثوابت "قحت" بعد الثورة.
وكان خيار قوى الحرية والتغيير بين الطرفين الشريرين في الحرب أن تدعو إلى وقفها. ولكن كان من الصعب عليها، وقد حمّلت الجيش والإسلاميين جريرة بدء الحرب جزافاً بلا تحقيق وثيق، ألا تبدو مائلة في نظر كثيرين إلى طرف "الدعم السريع". فلن تجد الواحد من "قحت" ينبري بعد السؤال في المقابلات الصحافية والتلفزيونية بصورة مستقلة لإدانة احتلال "الدعم السريع" للدور في بيوت الخرطوم والاحتماء بها وسرقة مال أهلها. فما سئل عن جريمة الحرب هذه إلا وتجده مضطراً إلى الإتيان بفظاظة القوات المسلحة بغير حاجة ملجئة، كما أن ثمة تعاقداً بين المتحدثين من "قحت" على تهوين جرائر "الدعم السريع" بذريعة أنها في الأصل من جرائر القوات المسلحة والإسلاميين التي خرج من رحمهما. فمن شابه أباه فما ظلم.
وأوضح ما يكون جنوح "قحت" إلى التهوين من فظاظات "الدعم السريع"، إن لم يكن تبريرها. في مثل ما جاء في مقالة أخيرة لمدير "مركز الخاتم عدلان للاستنارة"، الباقر العفيف، إذ شدد النكير فيه على الإسلاميين الذين قال إنهم أرادوا من إثارة الحرب ودفع القوات المسلحة إلى حومتها ارتجالاً العودة للحكم. فرماهم بأجرام قامت الدلائل المشاهدة والصريحة بأنها من فعل غيرهم. وحمّلهم جريمة مذبحة فض الاعتصام أمام القيادة العامة في يونيو "حزيران" 2019 التي لم يطرأ لأحد من قبل نسبتها إلى الإسلامين إلا كمستفيدين منها للتضييق على الثورة التي أطاحت بهم في أبريل (نيسان) من العام نفسه. فجريمة هذه المذبحة معلقة برقبة "الدعم السريع" والقوات المسلحة بالاشتراك بينما غلب مجندو الأول في الفيديوهات التي صورت لها. فالإسلاميون، في وصف العفيف، من قتلوا شباب مدينة الاعتصام واغتصبوا شاباتها وأحرقوا خيمها وأزالوا جدارياتها وتركوها هباء منثوراً تذروه الرياح.
وأقام العفيف الدليل على ارتكاب الإسلاميين للمذبحة بما برأ "الدعم السريع" منها مرة واحدة. فقرأ مسرح الجريمة ليخلص إلى تلك البراءة قائلاً "فالبداهة تقول إن إلقاء الجثث في النيل بعد ربطها بكتل خرسانية، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة، ليست مما يعرف من ممارسات الجنجويد. فهؤلاء يقتلون ويحرقون ويمضون إلى حال سبيلهم. أما الكيزان (الإسلاميون) فيستخدمون أساليب المافيا والجريمة المنظمة في محاولة محو آثارهم بعد كل جريمة. وكذلك يستخدمون الحيل الإعلامية لخداع الشعوب وتضليلها مثل إطلاقهم الفيديوهات التي تظهر الجنجويد في ميدان الاعتصام وهم يدوسون بأحذيتهم رؤوس الثوار بينما الجثث متناثرة في الميدان. فاعتبرهم الجمهور المسؤولين عن القتل على رغم أنهم كانوا مسلحين بالعصي".
ثم ما لبث في موضع آخر أن عيّن العفيف المتهمين حقاً. وهما الجيش و"الدعم السريع"، اللذين، في قوله، ارتكبا جريمة فض الاعتصام متحالفين ثم صارت بينهما العداوة والبغضاء والحرب فعاد للحق من غير أن يدري.
ولم تسلم "قحت" من الاتهام بإثارة الحرب. فقال الإسلاميون إنها هي التي زجت بالقوات المسلحة في الحرب لتعطيل التوقيع على الاتفاق الإطاري مع "الدعم السريع" و"قحت" بعد استكمال المفاوضات حول الإصلاح الأمني والعسكري التي قاربت نهايتها منتصف أبريل الماضي.
وشواهد الإسلاميين على جرم "قوى الحرية والتغيير" لا تقل ظرفية عن شواهد الأخيرة على جرمهم أيضاً. ومهما يكن فعلى "قحت" أن تتصالح مع فكرة أن هذه الحرب خرجت من رحم الاتفاق الإطاري، إذا كان هذا المجاز على أيامنا، وهذا بالطبع غير القول إنها هي من حرض "الدعم السريع" على قتال القوات المسلحة كما يرى الإسلاميون. كما أنه أيضاً غير ما تذيعه "قحت" من أنه لولا تحريض الإسلاميين على الحرب لوقّعت القوات المسلحة و"الدعم السريع" على "الإطاري" وسلمت البلد إلى يوم الدين.
وكان "الإطاري"، خلافاً لقول "قحت" أنه كان مناط خلاص الوطن، مفخخاً خفيت عللهُ عن "قحت" والمجتمع الدولي معاً حتى شب حريق الحرب من فوهته. وسنكتفي هنا باثنتين من علله.
كان الصحافي مات ناشد نبّه في مجلة "نيوز لاين ماقزين" إلى دور الدبلوماسية الدولية و"قحت" في تهافت "الإطاري" على الحرب. فقال إنه على رغم تفاؤل الدبلوماسيين الغربيين بالاتفاق الإطاري إلا أنه عانى عواراً كثيراً. فبالغ "الإطاري" في طموحه ولم يتسم بالشمول للطيف السياسي ولم يحظ بتأييد واسع. فاتفق لهم أنهم سيعالجون به مسائل في تعقيد العدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري خلال أسابيع بل في أيام قليلة. وهي مما يتطلب شغلاً مراً ودؤوباً من التفاوض النير والعون العالمي وجدولة وآليات مدروسة للتنفيذ، وقد لا ينجح مثله مع ذلك.
وأضاف ناشد أن الدبلوماسيين و"قحت" كانوا في عجلة من الأمر. فأراد الدبلوماسيون بتوقيع الاتفاق رفع الحرج عن بلادهم لفك حظر الأموال عن السودان ليستتب اقتصاده المتهافت. بينما أرادت "قحت" من جهتها العودة للحكم بأعجل ما تيسر، في عبارة مشهورة للإمام الصادق المهدي.
ولم يضع أي منهما اعتباراً للمخاشنة الناشبة بين الجيش و"الدعم السريع" والمعلومة لـ "قحت" لأنها تدخلت أكثر مرة لنزع فتيل النار منها. وجاء ناشد بكلمة من دبلوماسي غربي قال "إن هذه الأزمة الماثلة من صنع المجتمع الدولي" بمناداتهم الطائشة بالحاجة إلى اتفاق معجّل. فلم ير أولئك الدبلوماسيون في عجلتهم لقضاء عيد الفصح في بلادهم النار من تحت ترتيباتهم المستعجلة. واستغرب هذا الدبلوماسي أنه لم يعد أي من هؤلاء الدبلوماسيين للسودان بعد تحشيد "الدعم السريع" لقواته في مطار مروي. وهو تحشيد رأى الجيش منه ضربة استباقية لتحييد شوكته في سلاح الجو الذي هو ميزة لا يطاولها الدعم. فسارع الجيش يومها إلى التحذير من العواقب الخطرة على الأمن إن لم يسحب "الدعم السريع" قواته من مروي. ووقعت الحرب بعد يومين من ذلك التحذير.
أما الوجه الآخر من عوار "الإطاري" فهو أن "قحت" جاءته على وهن مما شهد به المندوب الخاص للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس نفسه. فكانت وحدها بين قوى "الإطاري" التي لم تعد إلا صورة شبحية من نفسها. فنزفت طاقتها نزفاً خلال أعوامها الثلاث في الحكومة الانتقالية. فلم يعتزلها الحزب الشيوعي عند عتبة توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس "آب" 2019 وحسب، بل قرر أيضاً إسقاط الحكومة الانتقالية نفسها.
وجاء وقت اعتزال حزب البعث العربي لها على عتبة مفاوضاتها في سبيل الاتفاق الإطاري. وجاءها الضعف العظيم من جانب تقطع أسبابها بلجان المقاومة. فكأنها بذلك حلت جيشها السياسي الذي أسعفها في الملمات باحتلال الشارع كإرادة غلّابة. بل ساء ما بينهما حتى كان هتاف شباب المقاومة "قحاتة باعو الدم"، أي أنهم خانوا دم شهداء الثورة.
ولم تأت قوى الحرية والتغيير إلى مفاوضات الإطاري بالجمهرة التي حشدها الإسلاميون المستبعدون منه في الشارع لتعطيله. ولم يكن لها من سبب لمواصلة السير في سكة "الإطاري" الخطرة إلا شعور نبيل منهم أرادوا به حلاً للوطن الذي صار "على شفا حفرة" في عبارتهم، وكان تمسكهم بمواصلة طريق "الإطاري" المفخخ منهم كفارة للشعب عن ارتباكهم الكبير في فترة كانت مقاليد الحكومة الانتقالية بيدهم لا استراتيجية.
ولن تكون دعوة "لا للحرب" مبرئة لذمة "قحت" وقد أخرجت الحرب أثقالها من مجريات اتفاقها الإطاري المهتوك كما وصفناه. وستضل عن الإحاطة بحقائق الحرب لو جاءت إلى تحليلها والموقف منها بما تراكم في نفسها من صراعها الطويل الشقي مع القوات المسلحة والإسلاميين. كما لن تشفع لها دعوتها الحيادية هذه بوقف الحرب عند كثير من المشفقين عليها، وهم يرونها تتطابق مع "الدعم السريع" بغير اتفاق ومن دون تحقيق حول من بدأ الحرب، ولماذا؟ ومن هو الأشد فظاعة فيها مثلاً؟ وقد قيل "إذا مشيت كبطة وتكلمت كبطة فالراجح أنك بطة".

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: قوى الحریة والتغییر القوات المسلحة الاتفاق الإطاری الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

كواليس النهاية المفاجئة للحرب بين إيران وإسرائيل

#سواليف

لم تتجاوز درجات الحرارة في محافظة الأنبار العراقية 15 درجة ليلة الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني 2020، لكن الحرارة ارتفعت فجأة مع #الانفجارات الكبيرة التي أعقبت #سقوط #صواريخ_إيرانية على قاعدة عين الأسد الجوية، التي تستضيف #قوات_عسكرية_أميركية. فقد أطلقت إيران 10 صواريخ باليستية على الأقل، بعد أيام من اغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، بغارة نفذتها مسيّرة أميركية في #العراق.

حبس العالم أنفاسه، وتحدث المحللون أن حربًا شاملة على وشك الاندلاع؛ بعدما فقدت طهران أحد أهم قادتها منذ وقوع ثورتها قبل 45 عامًا. لكن الرواية الأميركية هوّنت من الأمر كثيرًا مع الإعلان أن الجيش لم يسجل أي قتلى بين صفوفه وأن هناك بعض الإصابات المحدودة.

لاحقا، خرج الرئيس دونالد #ترامب، في خطاب هادئ لا يشبه خطاباته عادة، ليوجه كلامه إلى الأميركيين والعالم بالقول:

مقالات ذات صلة مصدر رسمي: اعتراض الصواريخ اليمنية يكون خارج الأجواء الأردنية 2025/07/01

“لقد اتصلوا بنا وقالوا لنا: ليس لدينا خيار، علينا أن نضربكم، لأننا نقدر أنفسنا، وقد تفهمتُ هذا! بدأنا بضربهم فعليهم أن يفعلوا شيئًا!”. جرى إخلاء الملاجئ والمناطق المستهدفة قبل دقائق من الهجوم، وكأن الجميع كان يؤدي دورا متفقا عليه في مشهد شديد الانضباط، تستعرض #إيران قوتها على الرد وتصل إلى عمق #القواعد_الأميركية، وتُظهر تحديها فعليا للسيادة الأميركية على منشآتها العسكرية، ولكن على نحو لا يُضطر واشنطن لردود لا تحتملها طهران.

في اليوم التالي، وصف المرشد الإيراني علي #خامنئي الضربة بأنها “صفعة على وجه أميركا”، بينما قال الرئيس ترامب إنها “دليل على أن إيران اختارت التهدئة”. ولكل منهما، بالفعل، ما يبرر سرديّته!

الإيرانيون من جانبهم قالوا في تصريحات إعلامية إن ضرباتهم الصاروخية على عين الأسد قتلت 80 عسكريًا أميركيا، وإنهم بهذا قد ثأروا لاغتيال سليماني. لم يعلق الأميركيون أكثر من ذلك، وبدا وكأن هذه الجولة قد انتهت بلا مزيد من التوتر.

كان ذلك الحدث -من نواح عديدة- عرضًا مسرحيًا! ليس بمعنى كونه زائفًا أو مخادعًا، بل بالمعنى التقليدي لكلمة “المسرحية”. كان ما شاهدناه قصة لها بداية، وعقدة، وذروة، ونهاية. فقد أبلغت إيران السلطات العراقية مسبقًا بنيتها شن الضربة، وبذلك علم الأميركيون فورًا. بعدها تجهزت المخابئ، وابتعد الجنود عن دائرة الخطر، ومع سقوط الصواريخ كان الضرر محدودًا. ومع إعلان الطرفين عن رضاهما عن النتيجة، هدأ الأمر.

وراء كواليس هذا الحدث والعديد من الأحداث المشابهة، يظهر منطق بات مفهومًا في مجالات الاستراتيجية العسكرية، والعلوم السياسية، ونظرية الألعاب؛ أن الحرب لا تُضرم للتدمير فحسب، بل يستخدمها الساسة للتواصل أيضًا!

ولا يشاهد الساسة في غرف التحكم والسيطرة القنوات الإخبارية مع وفرة الشاشات أمامهم، لأن صانع الحدث لن ينشغل بمتابعة محلل ليس عنده من المعلومات إلا ما سرّبه السياسي إليه في المقام الأول. يجتهد المحلل السياسي في تقديم رؤيته الموضوعية أو المتحيزة، ويعلو صوته في الاستوديو الإخباري، ساردًا كل الاحتمالات المتعلقة بالحرب ومآلاتها، لكن يغيب عنه أن ما يظهر أمامه على مسرح الحدث ليس سوى تمثيل لنص متفق عليه صُنع في الكواليس.

فخلف مسرح الحرب يقف الساسة ليضعوا اللمسات النهائية للمشهد، وعلى الخشبة تنتشر القوات المسلحة للفريقين، وفي المدرجات يجلس الصحفي والمحلل والإعلامي، ليتابعوا الحدث عن كثب. وإذا كنت تتساءل عزيزي القارئ عن مقعدك داخل المسرح، فالجواب أنك ذلك الشاب الذي لا يملك ثمن التذكرة وينتظر خروج الجمهور ليسمع منهم تفاصيل المسرحية.

خلّف النصف الأول من القرن 20، مرارة لاذعة بين الناس جميعًا بعد حربين عالميتين وحروب القوى الاستعمارية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من المدنيين والعسكريين على السواء. فمن المواجهات المملة القاتلة في الحرب العالمية الأولى، إلى كرة اللهب النووية في هيروشيما، أدرك الناس الكوارث التي قد تنتج عن العنف غير المقيّد.
انفجاري هيروشيما (يسار) وناغازاكي (يمين) في عام 1945 (ويكيبيديا)

كان أبرز ما خلفته الحروب هو التوسع الرهيب في الصناعات العسكرية، ويعني أن هذا العنف غير المقيد قد يصل إلى مراحل لا يمكن فيها السيطرة على اتجاهه وشدته. وقد توصل إلى هذه النتيجة، لا ضحايا العنف فحسب، بل مرتكبوه أيضًا.

لذلك، كانت هناك حاجة إلى التعامل مع الحرب، لا كوسيلة إفناء وتدمير فحسب، بل كآلية تفاوض وتواصل. في كتابه “استراتيجية الصراع” المنشور عام 1960، كتب توماس شيلينغ يقول إن “القدرة على الإيذاء هي قدرة على التفاوض، واستغلالها هو شكل من الدبلوماسية.. إنها دبلوماسية خشنة، لكنها تظل دبلوماسية”.

قدّم شيلينغ، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، مفردات جديدة لفهم الصراع، ليس باعتباره فوضى غير عقلانية، بل باعتباره لعبة محسوبة من الترغيب، والترهيب، والأسقف أو العتبات. أما أطروحته المركزية فتمحورت حول أن الدبلوماسية الخشنة تعتمد غالبًا لا على استخدام القوة، بل على التلويح الجاد -أو التهديد الموثوق- باستخدامها، فتصبح الحرب، في جوهرها، محادثة عنيفة، لا عنفًا يقضي على الحوار.

بدأ الأمر مبكرًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي أزمة مضيق تايوان الثانية عام 1958؛ بدأت الصين حملة قصف عنيف على جزر “كينمن” التي تسيطر عليها تايوان، في محاولة للضغط على تايبيه وواشنطن معا. لكن سرعان ما تحوّل هذا الهجوم إلى نمط بروتوكولي؛ في الأيام الفردية، كانت مدفعية الصين تطلق قذائفها، وفي الأيام الزوجية، كانت تايوان ترد بالمثل! لم يكن ثمّة هجمات مفاجئة ولا تحركات خاطفة، فقط إيقاع منتظم لوابلٍ من القذائف، وكأن طرفي النزاع وقّعا على اتفاق غير معلن لإدارة حرب بروتوكولية لا تتجاوز خطوطا حمراء.

في هذا النوع من العمليات؛ تُطَلق النيران تحت سقف التفاهم، ليس بغرض تدمير العدو أو مقدراته، بل لتوجيه رسائل سياسية، وتحقيق أهداف تفاوضية، وتجنب الانفجار الشامل، في ظل عمليات متوقعة وقابلة للتنبؤ، بما يسمح بتقليل آثارها التدميرية ومن ثم عدم استفزاز الخصم، فيما يشبه “مسرحية مدروسة” تُديرها الأطراف المتنازعة، لكنه في الحقيقة جزء من الإدارة الذكية لأدوات الحرب الحديثة.

ولعل أقدر السياسيين على الاستفادة من هذه الآلية، هم الاقتصاديون أو هؤلاء القادمون من خلفية المال والأعمال. فكيف يمكن فهم منطق هذا النوع من العمليات العسكرية؟

عقلنة الحروب.. دروس العقود الصعبة

العنف شعبة من الجنون، وحده الإنسان قد ينفرد من بين الحيوانات بقدرته على عقلنة العنف وضبط حدوده لرغبته الشديدة في استدامته. خذ الملاكمة نموذجا.. كانت هذه الرياضة القاتلة نافذة للمجد الفرديّ بين المقاتلين في مجتمعات تقدّس القوة والبطولة، وتلبي شغفها في مشاهدة العنف شبه المنظم.

كانت الملاكمة قريبة جدًا من القتال الحر، وكان فرط العنف فيها عاملًا لانحسارها لفترات زمنية متباعدة، لكن في عام 1867، ظهرت “قوانين كوينزبيري” التي أرست أسس الملاكمة الحديثة، ورتبت قواعد الاشتباك بين الباحثين عن المجد والمال، وضمنت للعنف المُقنّن الاستمرار.

في النصف الأول من القرن 20، وعلى وقع التحديث الصناعي الهائل وتطور أدوات الحرب، خاضت الدول المتصارعة في الحربين العالميتين حروبها بكامل جسدها، وبأقصى طاقة النار لديها. جرّت الحرب العالمية الأولى أوروبا إلى مستنقع من الخنادق والقنابل والغازات السامة، ومات أكثر من 16 مليون إنسان دون أن تُحسم قضية واحدة حسما نهائيا. ومن ثم اندلعت الحرب مرة ثانية؛ فيما يعرف بالحرب العالمية الثانية، لتستخدم كل دولة أقصى أدوات العنف الممكنة لديها، من قصف المدن إلى الإبادة الجماعية، وصولا إلى القنبلة النووية.

منذ ذلك الحين، بدأت الدول العظمى والصاعدة -على حد سواء- تتعلم. لم تعد الحروب الشاملة خيارا مأمونا، ولا وسيلة مضمونة لتحقيق المصالح. العقلانية العسكرية هنا لا تعني النبذ الكلّي لمنطق الحرب الشاملة، لكنه بات استثناء، كما أعيدت هندستها على أسس أكثر برودة وتوازنا. فبدلا من تحشيد الجيوش وخوض حروب إبادة، أصبحت الدول تُراكم القوة وتلوّح بها دون استخدامها، وتلجأ إلى محاكاة العنف وإظهار القدرة على استخدامه، دون تفريغ طاقته بالكامل.

فالحرب ليست صراعًا دمويًا عبثيا، وإنما وسيلة لفرض إرادتك السياسية على خصمك، أو هي “استمرار للسياسة بوسائل أخرى” كما يقول الفيلسوف العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز. في هذا الإطار؛ لا تهدف العمليات العسكرية الرمزية -حتى لو تضمنت ضرب القواعد العسكرية أو إطلاق المسيّرات- إلى شلّ قدرات الخصم، بل إلى إرسال رسالة دقيقة، ومحسوبة، ومشفرة بلغة النار، دون فتح الباب على جحيم الحرب الشاملة، بل أحيانا لتفريغ طاقة التصعيد وإنهاء الصراع وتوفير نهاية للحرب تحفظ ماء وجه أطرافها.

لنأخذ مثالا لواحدة من هذه العمليات “الاستعراضية”؛ في فجر يوم 6 أبريل/نيسان 2017، أطلقت مدمرتان أميركيتان في البحر المتوسط 59 صاروخا من طراز “توماهوك” باتجاه قاعدة الشعيرات الجوية التابعة للنظام السوري، في أول استخدام مباشر للقوة العسكرية من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب.

وجاءت الضربة ردا معلنا على هجوم كيميائي مروّع استُخدم فيه غاز السارين في بلدة خان شيخون، وأوقع عشرات القتلى، بينهم أطفال. بدت الضربة حينها مثل تصعيد مفاجئ، لكنْ سرعان ما اتضح أنها عمل محسوب ومحكوم بسقف سياسي محدد، إذ أبلغت الولايات المتحدة روسيا مسبقًا عبر قنوات “فض الاشتباك” القائمة بين الجيشين، ما أتاح لموسكو إخلاء عناصرها من القاعدة، وأتاح أيضا للنظام السوري تقليص الخسائر البشرية.

عادت القاعدة للعمل خلال 48 ساعة فقط. لم يكن ذلك عجزا تقنيا بطبيعة الحال، بل قرارا واعيا بأن تبقى الضربة في إطارها الرمزي، كانت استعراضا دقيقا للقوة النارية الأميركية، ليس لفرض تغيير ميداني، بل لصياغة مشهد ردعي أمام الرأي العام. صُمّمت العملية لتقول ما يلي: “لدينا القدرة، ولدينا الإرادة، لكننا نُحسن ضبط النفس”.

وقبل هذا التاريخ بعقود؛ في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1962، التقطت طائرة تجسس أميركية من طراز “يو-2” صورا كشفت النقاب عن أخطر تصعيد حدث خلال سنوات الحرب الباردة؛ منصات صواريخ نووية سوفياتية متوسطة المدى نُصبت في كوبا، على بُعد أقل من 150 كلم من سواحل فلوريدا الأميركية.

وخلف المشهد العلني المأزوم من خطابات التهديد والتحذير وإعلان حالة الطوارئ في واشنطن ورفع مستوى التأهب النووي إلى “DEFCON 2” (أعلى مستوى في الاستعداد القتالي)؛ كان ثمة مشهد يُعد خلف الستار لتهدئة التصعيد بين الطرفين مع حفظ ماء الوجه لكل منهما.

في 28 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن خروتشوف أن بلاده ستسحب الصواريخ من كوبا، مقابل تعهد أميركي علني بعدم غزو الجزيرة، وتعهد سري -عُرف لاحقا- تضمّن سحب صواريخ “جوبيتر” الأميركية من تركيا، على حدود الاتحاد السوفياتي.

وهكذا، ما بدا تصعيدا من قبل خروتشوف ثم كينيدي، كان في جوهره مشهدا استعراضيا محكوما بضوابط الردع المتبادل. كل طرف أظهر قدرته على التصعيد، دون أن ينزلق إليه فعليا. وخرج الطرفان لاحقا ليدّعيا النصر؛ كينيدي بوصفه من أجبر السوفيات على التراجع، وخروتشوف بوصفه من انتزع ضمانات استراتيجية لأمن بلاده.

كان كل ذلك يتم في الخفاء، ولا يطلع عليه المتابعون إلا لاحقًا بعد رفع السلطات السريّة عنها، ولكن مع مجيء رجل الأعمال الأميركي دونالد ترامب لقيادة البيت الأبيض ستكتسب هذه الأحداث بُعدًا أكثر دراميّة وسرعة في الكشف عنها.

ولا أكتمُ الأسرار لكن أنمُّها … ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي وإنّ ضعيف القلب مَن بات ليلةً … تُقلّبه الأسرار جنبًا إلى جنب

هذه أبياتٌ قالها شاعر عربيٌ في القرن الثاني الهجري كان يضيق بكتم الأسرار، وبعد 13 قرنًا، سيُدخلها ترامب إلى العُرف السياسيّ بممارساته الدرامية التي قد تقوض عمل أجهزته الاستخباراتية.

ففي مايو/أيار 2017، وخلال اجتماع في البيت الأبيض مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والسفير الروسي، أفشى ترامب معلومات استخباراتية شديدة السرية دون إذن، وهو ما أدى لاحقًا إلى سحب مصدر استخباراتي من روسيا خشية كشفه. وفي حادثة أخرى عام 2019، نشر ترامب عبر تويتر صورة عالية الدقة لموقع إيراني لإطلاق الصواريخ، التقطها قمر صناعي أميركي تجسسي، كاشفًا بذلك عن قدرات الأقمار الصناعية الأميركية أمام العالم.
الحرب بوصفها فنًّا لا صداما أعمى

في قرون ما قبل الميلاد، كتب الاستراتيجي الصيني صن تزو، أحد أكثر نصوص الاستراتيجية العسكرية بروزًا في التاريخ، تحت عنوان “فن الحرب”. منذ ذلك التاريخ، اعتُبر التخطيط العسكري فنّا يقتضي استعراض القوة واستخدامها لتحقيق غايات سياسية بأقصر الطرق وأقلها كلفة، ضمن مبدأ “الاقتصاد في القوة”، أحد أهم مبادئ الاستراتيجية العسكرية.

واتصالاً بالفن؛ كثيرا ما يستخدم في اللغة العسكرية الحديثة تعبير “مسرح العمليات”، الذي يشير إلى المساحة الجغرافية التي تجرى فيها الحرب، بما يشمل ميادين القتال المباشر وخطوط الإمداد وقواعد الدعم الخلفية. لكن ما يلفت الانتباه ليس المفهوم الاستراتيجي بقدر ما هو المصطلح نفسه: لماذا “مسرح”؟ ولماذا تُوصف العمليات الحربية بلغة يبدو أنها مستعارة من عالم الفن؟

الجواب يبدأ من أوروبا، وتحديدا من الأدبيات العسكرية الفرنسية في القرن 17، حيث بدأ استخدام تعبير “Le Théâtre De La Guerre”، أي “مسرح الحرب”. وقد تبنّت اللغات الأوروبية الأخرى هذا المفهوم، قبل أن ينتقل لاحقا إلى العربية ضمن الترجمات الحديثة للعلوم العسكرية. يبدو أن الاختيار لم يكن ارتجاليا، بل ارتكز على تشابه عميق بين ما يجري على خشبة المسرح الفني، وما يحدث في فضاء الحرب الواسع.

في المسرح الفني، ثمة منصة تُعرض عليها قصة أمام جمهور، بوجود مُخرج يدير العمل، وممثلين يؤدون أدوارهم وفق نص محدد. والحرب أيضا لا تبدو بعيدة، إذ إن مسرح العمليات هو كذلك منصة كبيرة، تُعرض عليها مشاهد النار والصدام، يحركها قادة سياسيون وعسكريون مثلما يحرك المخرجون أحداث المسرحية، ويشارك فيها الجنود والآليات لتنفيذ أدوار مخططة سلفا. وحتى “الجمهور” موجود، وإن اختلف؛ إنه الرأي العام، والمجتمع الدولي، وربما التاريخ نفسه الذي يشاهد ويقيّم. وفي الحالتين، لا يُكشف للجمهور كل ما يدور خلف الكواليس، فما يبدو مشهدا بطوليا قد يكون نتيجة حسابات خفية، وما يبدو تراجعا قد تكون جرت مقايضته بمكتسبات سياسية عالية.

وضمن إطار هذا النوع من الفن؛ تبدو العمليات العسكرية أكبر من مجرد صدام عنيف، بل رسالة تُوجّه للعدو، وللحلفاء، وللعالم، ليس فقط لتحقيق نصر ميداني، بل ربما لإيصال فكرة، أو فرض مشهد، أو إظهار قوة. وكأن الحرب خطاب يُلقى أمام جمهور، له بداية، ونقطة ذروة، وربما خاتمة درامية.
الشخصية المسرحية كحكم في الصراع

في 28 فبراير/شباط 2025، شهد البيت الأبيض مشهدًا غير مسبوق حين تحول اجتماع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى مواجهة علنية حادة أمام وسائل الإعلام. في نهاية النقاش سيختم ترامب بعبارة تكشف حاسته الدرامية التي اكتسبها من العمل الإعلامي ويقول: “سيكون هذا عرضًا تلفزيونيا رائعًا”.

لقد صقل ترامب القادم إلى السياسة من تلفزيون الواقع مهاراته الإعلامية عبر برنامج “The Apprentice” الذي انطلق عام 2004، والذي ساهم في تغيير صورة ترامب لدى الشعب الأميركي من رجل أعمال مثير للجدل إلى أيقونة للسلطة والثراء والقدرة الحاسمة على اتخاذ القرار. الجملة التي صارت توقيعه الشهير “أنت مطرود” (You’re Fired) لم تكن مجرد عبارة ختامية للحلقات، بل أداء مسرحي صاغ ملامح شخصيته أمام الجمهور الأميركي كقائد صارم لا يتردد في قطع العلاقات مع الفاشلين.

هذه العقلية الاستعراضية ستخدمه كثيرًا في حملاته الانتخابية لإقناع الناخب الأميركي بانتخابه، ولاحقا في ممارساته السياسية، لتتوج بمشهد الحرب الأخيرة.

لم تكن عملية 13 يونيو/حزيران الإسرائيلية مجرد ضربة عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية؛ لقد كانت، في جوهرها، امتداداً لخطة استراتيجية كبرى صاغتها واشنطن وتل أبيب معاً، تهدف إلى زعزعة أركان النظام نفسه ودفعه نحو السقوط. قامت الخطة على فرضية أن موجة متزامنة من الضربات الجوية والصاروخية عالية الدقة، مدعومة بهجمات سيبرانية مركزة وحملات نفسية داخلية، ستكون كفيلة بإشعال الداخل الإيراني، وتحفيز احتجاجات شعبية تتحول سريعاً إلى انتفاضة شاملة تنقلب على النظام من الداخل.

في الساعات الأولى التي تلت الضربة، اتضح أن الأثر الفعلي للعملية على تماسك النظام الإيراني كان دون سقف التوقعات.. لم يتحول السخط الشعبي إلى انفجار سياسي، وصمدت المؤسسات الأمنية أمام موجة التهديد. هنا، دخلت الواقعية البراغماتية لتلملم المشهد؛ إذ بدأ الطرفان، الأميركي والإيراني، يتجهان نحو إدارة الحرب، ليحولوا دون تدحرجها إلى مواجهة صفرية ليست مضمونة العواقب.

تقاطعت في الخلفية قنوات الاتصال غير الرسمية، لترتيب مشهد يسمح لجميع الأطراف بالخروج بمكاسب متوازنة دون دفع الثمن الكامل للحرب. إيران، التي بدت مستعدة سلفاً للضربة، أخلت منشآتها النووية من المواد الحساسة والكوادر العلمية قبيل القصف بساعات، في ما بدا إشارة ضمنية لاستعدادها لفصل الضربة العسكرية عن انهيار البنية النووية بالكامل.

في المقابل، نفذت الولايات المتحدة وإسرائيل ضربات جوية مركزة، صُممت بعناية كي تكون مؤثرة بما يكفي لإعلان النصر سياسياً، لكنها دون أن تصل إلى الحد الذي يؤدي إلى انهيار شامل أو مجازر واسعة.

جاء الرد الإيراني متناغماً مع هذا الإيقاع؛ إطلاق صواريخ على قواعد عسكرية في قطر والعراق، مقروناً بتحذيرات مسبقة سمحت بإخلاء المواقع المستهدفة، في رسالة صريحة: إيران قادرة على الرد، لكنها لا تسعى للتصعيد. واشنطن بدورها تلقفت الرسالة وفهمتها جيداً، معتبرة أن الرد الإيراني، رغم صخبه الإعلامي، يبقى ضمن قواعد الاشتباك المضبوطة.

هكذا أعادت العملية رسم المشهد؛ لم يعد إسقاط النظام الإيراني هدفاً فورياً، بل تحول إلى خطة بعيدة المدى، تقوم على إنهاك طهران تدريجياً، وتقليم قدراتها النووية، دون إغلاق باب التفاوض بالكامل. تحولت الحرب من مشروع حسم جذري إلى مسرح معقد من استعراض القوة، وضبط الإيقاع، وتبادل الرسائل، في مشهد محسوب بعناية، تجنبت خلاله جميع الأطراف الوقوع في فخ حرب لا يريدها أحد.


هل كانت إيران تمثل قصف إسرائيل؟

في أكتوبر/تشرين الأول 2024، انطلقت أكثر من 150 طائرة مسيّرة من العمق الإيراني، لتعبر الأجواء العراقية نحو الأردن، ومنها باتجاه المجال الجوي الإسرائيلي، في مشهد علني يراقبه العالم كله قبل أن تراقبه رادارات تل أبيب، وكأننا أمام مشهد من مسرحية كبرى تُعرض على جمهور عالمي مفتوح. لكن هذه المسرحية، بعكس ما قد يفكر فيه البعض، لم تكن كذبا ولا ارتجالا ولا تضليلا، بل كانت درجة متقدمة من درجات الحرب بوصفها فنا، حيث تُمارَس القوة عبر محاكاتها، بدلا من استنفادها.

هنا؛ تتحول المسيّرات والصواريخ الباليستية إلى قوة ناعمة بوسائل صلبة، تعيد صياغة موازين الردع، بالتلويح بالقوة كما لو كانت قد استُخدمت، والأهم من ذلك؛ تمنع الانفلات حين لا تكون الأطراف مستعدة لتحمل عواقبه.

لكن، إذا كان هدف الحروب إثبات الكرامة الوطنية والشرف أو التفوق والقوة، فالرياضة -ربما- قادرة على تحقيق ذلك الهدف من دون دفع الثمن الباهظ للحرب. ولعل هذا هو محور التحول الذي نأمل أن تتبناه العلاقات الدولية بشكل أوسع في المستقبل.

يتوافق هذا التحول مع ما نظّر له نوربرت إلياس وإريك دونينغ في دراساتهما الاجتماعية عن الرياضة. ففي كتابهما “البحث عن الإثارة.. الرياضة والترفيه في عملية التمدن” المنشور عام 1986، يشيران إلى أن الرياضات الحديثة تطورت كمنفذ “حضاري” للعنف، أي باعتبارها مجالا مؤسسيا منظما يُمكن فيه تفريغ الطاقات الجسدية والعاطفية ضمن قواعد تحدُّ من الأذى الحقيقي. وبهذا المعنى، تُصبح الرياضة نوعًا من تحويل الغريزة القتالية إلى سياق أكثر قبولًا وضبطًا.

علاوة على ذلك، رأى علماء الاجتماع في الرياضة بديلا للحرب في نظرية السياسة الحديثة. فعالم الاجتماع ألين غاتمان، لاحظ أن الرياضات الحديثة تُشبه “طقوسًا علمانية” تُؤدي وظيفة إظهار الهوية الوطنية والنماذج الذكورية في سياق لم تعد الحرب فيه خيارًا مقبولًا سياسيًا أو أخلاقيًا. الطقوس والأعلام والنشيد الوطني في البطولات الدولية تُحاكي مسرح الحرب، ولكنها تُتوج بالمصافحات.

وتُعد الألعاب الأولمبية بشكل خاص ساحة لهذا النوع من الصراع الرمزي. فقد تصوّر مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة، بيير دي كوبرتان، البطولة كوسيلة لتعزيز السلام من خلال التشجيع على التفاهم المتبادل والاحترام عبر المنافسة الرياضية، شعارُه أسرع، أعلى، أقوى، يحتفي بالتفوق البشري دون الحاجة إلى العنف.

وقد حدث ذلك بالفعل، فبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية معها وفرضت حصاراً اقتصادياً عليها، واستمرت هذه القطيعة عقودا عدة.

لكن خلال بطولة العالم لتنس الطاولة في ناغويا باليابان في ربيع عام 1971، حدث موقف عفوي بين لاعب تنس الطاولة الأميركي غلين كوان (Glenn Cowan) واللاعب الصيني الشهير تشوانغ زدونغ (Zhuang Zedong). قاد هذا التفاعل الودي إلى دعوة مفاجئة من بكين للفريق الأميركي إلى زيارة الصين.

وفي 10 أبريل/نيسان 1971، أصبح فريق تنس الطاولة الأميركي أول وفد أميركي رسمي يزور الصين منذ عام 1949. قضى الوفد 10 أيام في البلاد، حيث لعبوا مباريات استعراضية ودية مع اللاعبين الصينيين، وزاروا المعالم السياحية، وتفاعلوا مع الشعب الصيني.

مهدت “دبلوماسية تنس الطاولة” الطريق للزيارة التاريخية للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين في فبراير/شباط 1972، التي كانت أول زيارة لرئيس أميركي إلى الصين الشيوعية. هذه الزيارة أدت في النهاية إلى توقيع “بيان شنغهاي” وبدء عملية تطبيع العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين.

هذا التحول في الحرب لا يعني أن خطر الحروب الحقيقية والعنف غير المنضبط قد اختفى، بل على العكس، فالمسرح دائمًا مُعدّ، والممثلون دائمًا مسلحون. لكن يكشف هذا التناسق أنه حتى في الحرب، تسعى الدول إلى السيطرة، وإلى رواية تُحكى، ونهاية تُرضي.

ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينسى أن هذا المسرح، مهما بدا منسقًا ومنضبطًا، قد يخرج عن السيطرة. فالعروض المسرحية، مهما كانت محكمة، تظل معرّضة لأن يحولها الممثلون إلى ارتجال، وحينها قد تعود الحرب إلى سيرتها الأولى.

مقالات مشابهة

  • تداعيات إعلان تشكيل الهيئة القيادية لتحالف السودان التأسيسي برئاسة “حميدتي” على مسار الحرب
  • الحرس الثوري الإيراني يهدد “بحرث الأراضي المحتلة بالصواريخ” حال تجدد الحرب مرة أخرى
  • عقوبات رادعة بحق متهمين بالتعاون مع “الدعم السريع”
  • البيت الأبيض: لن نرسل بعض الأسلحة التي تعهدنا بها لأوكرانيا
  • “الدعم السريع” تهاجم مدينة في غرب كردفان مجددا والجيش السوداني تصدى
  • الأمم المتحدة: مشاورات مع الجيش السوداني والدعم السريع من أجل هدنة إنسانية بالفاشر
  • بالمسيرات والباليستي.. جماعة “أنصار الله”تعلن تنفيذ 4 عمليات عسكرية ضد الاحتلال
  • بيان مهم للقوات المسلحة في الـ 20: 11 مساءً
  • كواليس النهاية المفاجئة للحرب بين إيران وإسرائيل
  • بيان مهم للقوات المسلحة اليمنية بعد قليل